تجلى له طيفها ،حدثه دون أن تتحرك شفتاه ،اشتكى بؤسه وحيرته ،غضبه وفرحه ،ثم صمت صمتا تفضحه كل الكلمات التي غابت بغتة.
في ذا المكان الذي اتخذ له فيه متنفسا يأوي إليه كلما أحس بالضياع، يتربع جبل يغرق في خضرة يانعة ،وسط غبش من ضباب يخفي شمس النهار،جبل يشي بحالة بؤس شديد.
الشمس تغرق هي الأخرى بين الظلال التي ينشرها ذلك الضباب الكثيف ،تراه يزف للحياة سمفونيات الصمت التي تجعل جمال الدنيا الخرافي، يرقص على إيقاع هدوء هذه الأمكنة .
ابتعد الطيف شيئا فشيئا واختفى ،نظر إلى نفسه ،تساءل ،نظر من حوله ،لم يجد شيئا ،حاول أن يتذكر ما حدث ،لكنه لم يستطع .
وهو فوق ربوة قريبة إلى جانب شجرة ذات فيء ،اختلطت الظلال ومنابعها ،فشكل المنظر شبح شخص مبعثر المعالم ،يتغير شكله بتغير الزاوية التي ينظر منها محمود ،بعض شعاع الشمس يخترق ذلك الشيء الذي تمزق تفاصيله ظلال الأغصان والنباتات دون تكلف.
ما كان محمود يريد التحدث إلى ذلك ...الذي يوشك أن يكون امرأة مرت في ماضيه تاركة ذكريات جارفة اجتثت شيئا من ثقته ، فاهتز كيانه حين نزعها من كل من حواليه وممن شاءت الأقدار أن يلتقي بهم من الذكور والإناث .
بعد قليل سأل شبحها الماثل أمامه :
- كيف حالك ؟
- لن أناديك باسمك لأنني أتحدث في منامي بصوت مجهور !!
- لن أتعود على مناداتك في يقظتي كي لا يسكن طيفك كلماتي الحالمة.!!
- لن أدعوك لحفلة شاي !!
- أنا هنا لأحدثك عما أبطن،عما أحاول إخفاءه عنك من كيد تنبت تحته حياة مليئة بجمال انفرَدْتُ به،ووهبتُكَ إياه أياما وسنينا،ثم شِيءَ أن أعدل عن ذلك وأسحب بساطي الذي جعلته إكسسوارا في عالمك الكئيب .
فحين أحدثك أجدني تائهة حزينة ،وحين أقترب أكثر وأضع معالم حياتي في فنائك أجدني أكثر تعاسة ،ولكنني اخترتها ،و أعاود اختيارها راحة تعيسة راقية ، تحمل في طياتها سحرا لا تقوى عليه امرأة مثلي ،ولا باقي العوالم والأمكنة ،لذا فانا انتظرك،...أنتظر ذلك الصدى الذي أحيا على نبراته ،أحيا على ألقه ومجده،أهفو على سموه المتعالي...
أرسَل قهقهة وسط ذلك الصمت الذي يطبق على المكان بزواياه التي تعددت آفاقها .
حركة الرياح الهائمة ،طوحت بقهقهته إلى كل الأرجاء .... واسترسل في حديث عن حركاتها وسكناتها .
- أنت:
غياب يخفي كل جميل .
صوت يجوب متاهات ،يأبى الإفصاح عن حكايات تختفي وراء جدران ، بل أنت نبرة صوت ترمي بالبراءة بعيدا عن تجليات الملمح والمظهر .
لا بد أن بعضا من غمام يحوم حولك وحول المكان ،ويحوم حول اهتمامك المحير بما لا يستقيم، وبمن لا يستقيم .
شيء غريب أن أجد كل الأمور قد اختلطت وساء الحال .
- أهو شبح الغياب الذي يرسم معالم خرائطه الدنيئة ؟
- أم هو عنكبوت يلهو ويرتع فوق أوهن البيوت على وجه الأرض ؟
- ليتك غير تلك التي رسمت لحالها برجا شاهقا وهي تسمو عاليا فوق الضباب الذي يلامس قبته .
- ليتك تلك التي لا تنظر إلا إلى الأمام ،لا إلى الخلف .
فجأة أحس بخشخشة في أعلى الشجرة ،لما نظر إلى الأعلى،رأى عصفورا تجمله ألوانه الزاهية ،يبتلع شدوه فيكثر من الحركات التي تنأى عن حركاته المعتادة ،لأنه اختار أن يرتدي حلة صمت المكان ، هي لعبة اتحاد الأشياء وتكاملها، ليجعل هذا العصفور محمودا يستفيق مما هو فيه على طريقته التي تمحو معالم الأصوات في محراب هذا الصمت الكئيب.
نظر إلى كل ما حوله ،جمع أوراقه ،لبس طربوشه الأحمر – الذي ارتداه في دور الأديب في ذلك المسلسل التلفزيوني - وترك في المكان قلمه ،عله يعود ليكمل صروحا من كلام عن صمت لا ينتهي .