إنها موديله ، وعشيقته ، وربة بيته . تعيش معه في المرسم الخاص به في شارع زنامينكا : صفراء الشعر ، ليست طويلة القامة ، ولكنها حسنة القوام. ولا تزال في ميعة الصبا ، جميلة حانية . هو الآن يرسمها في الصباح في لوحة " المستحمة " وكأنها واقفة على منصة صغيرة ، عند جدول في الغابة ، مترددة في النزول الى الماء ، حيث الضفادع التي تحدق بعيونها الجاحظة. أنها عاربة تماماً بجسمها الناضج ، نضوج أجساد الفتيات من عامة الشعب ، وهي تغطي الشعر الذهبي في الأسفل بيدها . بعد ساعة عمل انحرف الفنان عن حامل اللوحة واغمض عينيه قليلا واخذ يتمعن في اللوحة من هذه الجهة او تلك ، ويقول ساهماً :
حسناً ، لنأخذ فترة إستراحة . سخّني ابريق القهوة الثاني .

عبثا حاولت ان أنسج قماش قصيدة، أكسو به جسد أحزاني، فكانت صنارة القلم تنكسر أمام قسوة صوف الألم وتعجز آلة الحياكة الأدبية عن الترصيف في جلدي.
يختنق صوتي ويتلاشى في غرفة لا هواء فيها، فأقع اسيرة الصمت، واكتفي عن مخاطبة هذه الدنيا.
وبعد فترة أتذكر صوتي فأستيقظ مذعورة واصرخ بكل ما أوتيت من قوة، لا للتنفيس عن الغضب الكامن في داخلي، بل لأتأكد فقط إن كان صوتي لا يزال موجودا.
وبعد التأكد أعود لصمتي..
تدخل أزرار الآهات لتملأ فراغ عروة الصمت، وتقفل قميص معاكسات القدر، وتشد ربطة عنق الانتظار....

كنت في الخامسة عشرة عندما سمعت أن للنساء أسماء عدة، وذاك بسبب أعمارهن، وأن الأسماء ليست واحدة، حينها لم أفهم ما سمعت كل ما أذكره أنني خفت كثيراً وتساءلت قائلة: هل سيتغير إسمي حسب كل مرحلة من عمري؟ وكيف سأتقبل هذه المفارقة و أنا من أحبت إسمها حتى قبل تشكله في الألسن.
وبعد برهة من الزمن سمعت جارتنا تنادي ابنتها:
 - يا أنت، فقلت هل بدأ سُلم السنون.
ومع ازدياد سنوات عمري بدأت أفهم قصة الأسماء
 اسم الطفولة: طفلتي.
اسم المراهقة: حبيبتي.
اسم الشباب: أ، ب، ت، م، ع، ر ...كل الحروف.
واسم لمرحلة الأربعين، اسم العنوسة: عانس، لست أدري بعد من اخترع هذا الاسم، لنذهب جميعا إلى خانة الألغاز لفك شفرات هذا اللغز.

“لا خطيئة أكبر من الشهوة  ولا تعاسة أكبر من التذمر ولا ملمة أكبر من حب الاقتناء لذلك كانت السعادة الكبرى في القناعة”
لاوتسو
أرى حريتي كوردة لا تذبل وشذاها ينفحني بأطيب أريج وسأتخذ من وجودي  أصيصا لها.
إ.م الكتابة  تحرر

عندي ينبوع جميل اكتشفته مرة وأنا أهيم على وجهي في الحقول صنته عن كل عين وحفظته من كل مقالة، ماؤه حلو سائغ ولونه من لون الروح في شفافيتها  حين نزل مني منزلة الروح من الجسم والمعنى من اللفظ  غازلته ،ناغيته وشوشت له ترجيته باسم الأبجدية  ورميت  له جميع شباك المعجم  وصنانير البلاغة ولكنه كان أبيا  للصيد عصيا على الوقوع فريسة  لولا أن بادلني محبة بمحبة .
رشفت منه مرة رشفة واحدة ثم انتهرني ينبوعي قال حسبك لا تقتل نفسك اكتف بالقرب والنظر  فتحت ظلال جمالي سكينة لك وفي حمى ودادي نشوتك خبئني عن العيون وصني عن الأفواه  مت في حبا تنل حريتك ولا تمت في لذة فترسخ عبوديتك  بحبي  تتحرر من الموت ذاته ومن آصار الجسم وقيود المادة  .
قلت كيف وفي الحب عبودية؟ أنسيت قول القائل:

وأنا تائه في دروب الحياة، بين طيبها... وخبيثها، بين ما تعطي... وما تأخذ ،وقفت فجأة... تحسست روحا تقتفي آثاري... تنفذ إلى أعماقي عمدا، أردت الالتفات ولكن تسمرت كل جوارحي، لم تعد تطاوعني، جفلت مكاني.... واجما.... مفزوعا، أنصت لخطوات تقترب مني، وقعها غريب.... كأن صاحبها لا يمشي مشينا.... ولا يخطو خطواتنا.... ولا يطأ أرضنا، خطواته تحكي قصة الوجود.... والفناء
سمعته ينادي من قريب... لكن همسه كان بعيدا جداً..... وعميقا جداً، استدرت إليه فالتقت عيناي بعينيه الغارقتين، تلمعان من شدة صفائهما... وباردتين حد الجمود، ابتسامته لا معنى لها... تأملتها جيدا فإذا هي بألف معنى.... ومعنى، تحكي الماضي.... والحاضر.... وما هو آت.

الرسالة الثانية
------
    حملت بين يدي ظرفا آخر، كان أثخن من سابقه.. تهيأ لي أنه يحتوي شيئا إلى جانب الرسالة.. خاب ظني، فالرسالة كانت عبارة عن بضع أوراق صغيرة الحجم.. لقد كانت رسالة أطول من سابقتها..
    قررت أن أحمل الصندوق بما احتواه، واتجهت إلى ضفة النهر.. جلست على حافته، ووضعت بجانبي الزهرة التي كنت أراها وكأنها تستعيد عافيتها.. ! ربما لأنها أحست بكيمياء ما مع الرسائل..
حملت الأوراق/الرسالة وشرعت أقرأ..
* * * * * * *
"إلى ربة الشين"..
أنا الآن على الجبهة، بعد لا جديد يلوح، يبدو أن الحرب ليست إلا خدعة، أو ربما إن القادة اتفقا على نصب فخ للمقاتلين لإبعادهم عن أحبائهم.. أستغل هذه الفرصة لأكتب لك، أو بالأحرى لأن أحكي لكِ حكاية التحاقي بالجيش "الوطني" وكيف وصلنا إلى الجبهة..

مُحاذاة باب القصر المَلكي . وقفت الفتاة البيضاء  قبالة سَاحَة الشَّرق، حيث لا عيبا يشوب صَفاء صوتها . فتاة ترتدي الأبيض .الحذاء أبيض كلون القصر . كانت هي الأخرى تنظر نحو الشَّرق حيث افريقيا تحترق و الشرق الأوسط بما فيه حضَارة العَرب القديمة تحترق . الجهلُ و الحِقد تشبَّت بأظافر دامية  بكراسي  السُّلطة . رؤساء أنتهوا دماء . انتهوا في طريق الهَرَب . انتهوا وراء-خارج القُضبان . الفتاة كانت تُخرِجُ ألحانا حزينة  كحُزنٍ قديم مدفون في صدر رجل عربي يتألم من حاله وحال ما آل إليه هذا العالَم الذي يلوي عنقه الأشرار نحو العُنف و القِو... !.
اليوم هو يومٌ مِن أيام غُشت . سماءُ أوربا كانت حارَّة شيئا ما في هذا اليوم .هنا أتى هذا العربي ليقضي أياما مُفعمة بالحياة ، هاربا من صَهد افريقيا و من حرارة مشاكل الإخوة الأعداء .في اسبانيا ، في مدينة من مُدنها الجميلة . مدينة تسكُن القلوب . أبواب القصر كبيرة بدون حواجز إلاَّ من شريطٍ بلاستيكي يشبهُ الأشرطة التي تضَعُها الشُّرطة العلمِية المغربية  أثناء التحقيق في جريمة قتل .سيارات شرطة اسبانيا .نوافذ القصر الملكي بعضها مُنفَتِحٌ على الخارِج . تنظرُ إلى قصور الشرق. تعانق الشمس كل صباح .أشعة كلها طاقة و حرية و جودة حياة .بين النوافذ تماثيل .تظهر و كأن التماثيل هي من تحرسُ القصر .

غرفة مظلمة وضيقة باردة كقطعة ثلج، تأوي جسده المنهك، برغم الدفئ الذي يتناثر كرذاذ بالخارج بقليل من خيوط واهية لأشعة شمس الشتاء الكئيبة. بكثير من جهد، أيقظ نفسه الغارقة في شبه رقود الأموات، كان شديد الإرهاق من قلة ساعات نومه التي يستنزف منها وقتا طويلا في التفكير في كل شيء وفي اللاشيء.
أخذ نفسا عميقا، ابتلع برئتيه ما تبقى من هواء الغرفة الرطب، كأنه يمتص دخان آخر سجائره بشراهة، للتخلص من رعشات توتر تلازمه كأنفاسه المتقطعة. حذق بالمكان الذي يدفن فيه جسده، مسح بعينيه الذابلتين كل زاوياه. لا يجد كالعادة أي عناء في تفقد محتوياته البسيطة: سريره الهش، كرسيه القديم، ودولاب خشبي صغير متهالك، يخفي بداخله ملابسه، ومرآة كبيرة ملتصقة بالباب. ولايمكن أبدا أن يغفل النظر للاطمئنان على عنكبوت يتقاسم معه جزءا صغيرا من سقف الغرفة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة