قبيْل الفجر بقليل، غالبا ما يتناهي إلى سمعي على استحياء صرير الباب الرئيس للعمارة الصدئ وهو يُفتح، ثم لهاث يتسارع وقعه صعودا، يقاطعه مرات تأفف شبه مكتوم؛ لعل الجسد المجهد المترنّح على السلالم يفرغ فيه قلة حيّله وزلة أقدامه السكرى؛ ولما يصير مَراحُ الطابق الرابع ركْحا للأحداث تُهاجمي عبر فجوات الباب والإطار كوكتيلُ روائح، أميز منها عطرا نسويّا نافذا وعبير خمر طريح أنفاس ظمأى لنوم هادئ وطويل..
هكذا تعلن "مدام آسية " عن أوْبتها سالمة كل يوم.
إنها جارتي مذ ما شاء الله من الشهور، ورغم ذلك حبل الوصال بيننا معدوم حتى.. التحايا ميتة، لا أعرف عنها شيئا إلا ما يلوّك هنا وهناك.
حارس السيارات يجزم أنها لا ترد يدَ لامس، اضطرتها الفاقة حين وجدت نفسها وحيدة بلا شهادة أو كفاءة تضمن لها عملا بعد طلاقها .
والبقال أخبرني ـ دون أساله ـ : إنها هربت من بيت والديها حين قررا تزويجها رجلا أكبر منها بكثير وهي بالكاد تشارف سن الحُلم.
وسكان العمارة بعضهم يقول إنها راعية زبناء في حانة، والبعض يتظنن أنها غاسلة صحون ليس إلا.
ذات مساء وأنا عائد وفي يديّ استثناءً وردتان ؛ رغم أن واحدة كانت أبدا، ودائما تكفيني؛ صادفتها عند باب العمارة، استثناءً حييتها فردت باقتضاب وحاولت تجاوزي، فاستوقفتها، فوقفت حائرة مضطربة وقالت بنبرة حادة:
ـ عفوا سيدي..اتسمح؟
من دون ان أنبس بكلمة مددتُ لها الوردة الفُضْلة *
لم ألمح هدوءا سكن نفسها وإنما نرفزة واضحة ملكت كل كيانها ، في حين ظللت أنا ثابتا في مكاني مصرا على ان تقبل هديتي.
ربما للخروج من المأزق خاطبتني بحدة وهي تشمخ بأنفها :
ـ ما المناسبة يا سيدي؟,
رددت بهدوء مفرط:
هدية مني بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، 8 ما رس... لعل الايام يا سيدتي تشابهت عندك وصار الأحد والجمعة سواء.
طاطأت رأسها لحظات، ثم طالعتني بعينين شبه دامعتين ومدت جيدها وطبعت قبلة طويلة على جبيني، وقالت بصوت تقاطعه زفرات:
ـ شكرا لك يا سيدي الكريم بعدد نجوم الكون !
ثم انصرفت لحال سبيلها
******
قبيل الفجر بقليل، تناهي إلى سمعي على استحياء صرير الباب الرئيس للعمارة الصدئ وهو يُفتح، ثم لهاث يتسارع وقعه صعودا، يقاطعه مرات تأفف شبه مكتوم، لعل الجسد المجهد المترنح على السلالم يفرغ فيه قلة حيله وزلة أقدامه السكرى؛ ولما صار مراحُ الطابق الرابع ركحا للأحداث هاجمي عبر فجوات الباب والإطار كوكتيل روائح، ميزت منها عطرا نسويا نافذا وعبير خمر طريح أنفاس ظمأى لنوم هادئ وطويل..
من غير ترو هرولت نحو الباب، وعبر عدسته الكاشفة لمحت مدام آسية حافية القدمين تحت إبطها كعبها العالي وفي يسراها وردة لا تزال غضة يانعة ، تفتح الباب بيد مرتعشة لتبتلعها ظلمة بيتها البارد !.
مذ ذلك اليوم تلاشت تلك السنفونية الليلة وكأنها ما عُزفت البتة ، واختفت مدام آسية وكأنها رحلت عن عمارتنا، جاهدت بحثا عن سبب اختفاءها لكن بدون جدوى حتى زوجتي لم ترحني من أوزار اسئلتي حين أسألها عنها عرضا،
تناسيتها فصارت نسيا منسيا. بيد ان يوما طيفها حضر بقوة بكل تفاصيله. : قدها الرشيق، صدرها الباذخ ، كلامها الرقيق، عطرها النافذ المميز ورقرقة دمعتها ذاك اليوم وهي تطالعني؛ كدت أن ألمسها بيد ان نقرة خفيفة على الباب تعيدني إلى الأرض.
فتحت الباب فوجدتني وجها لوجه معها .
مدت لي باقة ورد وقالت لي: كل عام وأنت بألف خير يا سيدي.
طبعت قبلة على جبينها وشكرتها وسألت:
ـ ما المناسبة يا سيدتي الكريمة؟
ردت بصوت هادئ:
ـ اليوم رأس السنة الميلادية، لعل الايام تشابهت عندك يا سيدي وصار الأحد والجمعة سواء.
ضحكت ضحكة خفيفة وضحكت ايضا زوجتي ورائي وخاطبتها بكل وقار :
ـ شكرا مادام آسية بعدد نجوم الكون... ومرحبا بكِ عندنا أنّى شئت، ومرحبا بزهور مشتلك على اختلاف ألوانها.
• فضلة هنا بمعنى ( فوق الحاجة)
الدار البيضاء في : 08/03/2019