"من لا يحبُّ خضُّور، ذاك السند الصلب، والصديق الوفي، كم نحن محظوظون، بأن يكون جزءا من حياتنا"؟!
كان مقهى الأطلال القريب من كليَّة الآداب، ملتقى الزملاء الدائم، شباب في مقتبل العمر، يحلمون بتغيير العالم، وبمستقبل أفضل.
لم يكونوا مفرطي الغنى، ولكنهم ميسورو الحال، إلَّا خضُّور، لا أحد يعلم عنه شيئا، ولم يخطر ببالهم يوما أن يسألوا.
كان لا يتكلم إلَّا نادرا، ولضرورة قصوى، فكأنّه يملك عشرين أذنا ولسانا قصيرا، بينما يتحدث رفاقه دون توقف عن طموحاتهم، وخيباتهم العلمية والعملية، وأحزانهم العاطفية والنفسية.
استحقَّ هذا المكان اسمه، فقد شُيِّد في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وشهد أحداثا عظيمة، وحفلات غنائيَّة، وأمسيَّات أدبية وشعرية لكبار ومشاهير.
فقد بريقه بمرور الزمن، ولم يبق من مجده الغابر، إلا ذكريات نادرة، تصدَّعت جدرانه، و غلب عليه القدم.
كان أول الواصلين، وآخر المغادرين، ما أن يطلُّ حتى يبدأ صاحب الأطلال ، بتحضير كأس شاي ضخم أحمر مسوَّد، كما يفضله خضُّور.
حب سريع – قصة: ميمون حرش
فرغ "لارڭــو" من آخر مجموعة له في القصة القصيرة جداً ، ختمها بنص يحبه كثيراً، يلخص ربما تجربته، جاء فيه:
تجمع الحروف، وتلملم الأرقام،
تضع الكل في خلاّط :
هي امرأة أنغام،
هو رجل أرقام،
وفي الكأس التي لن يشربا منها أبداً:
"عصير قيس و ليلى "
الوسادة – نص : عبد الحفيظ ايت ناصر
في العشرين من عمري ، وكل طاقة العقد الثالث، الشغف والطموح ، هذه الأمور التي من الضروري ان تتوفر ومن الطبيعي أن تكون في شخص يعتب اعتاب عقده الثالث. أهدر هذه الطاقة في الأحلام ولا شيء غير الاحلام والأماني ، رغم قدرتي الكبيرة على التنظير في مسألة معينة، لم أكن لأطبق أيًّا من افكاري.
كانت وسادتي تؤلم رقبتي، في كل ليلة افكر في تغييرها، لكني افضل النوم على إهدار طاقتي في استبدال الوسادة، وعلى مبعدة متر او أقل هناك وسادة قطنية رائعة، الا ان كسلي دائما يمنعني من النهوض واستبدال الوسادة.
وأفكر ماذا لو كان الناس كلهم مثلي! ماذا سيحدث لهذا العالم، الأكيد انه سيفسد، فشخص لا يستطيع تغيير الوسادة لن يستطيع العمل، حتى وان كانت لديه القدرة على ذلك.
تجري الايام على نفس النحو والوسادة نفسها نؤلم رقبتي، ولكن يصعب التضحية بالحركة، ان النوم شيء ثمين لا يمكن ان تدع اشياء بسيطة تزعجه، فإذا كانت الاحلام الطبيعية هي حارس الحلم الطبيعي ، فإن أحلام اليقظة هي حارسة نوم اليقظة، لأنه لا يمكن لشيء اسمه "احلام" ان يوجد دون نوم، وأحلام اليقظة تحدث خلال نوم اليقظة.
يا رمادي الشعر – نص: غزلان شرعي
أفتح عيني كل صباح وأفتش في الذاكرة ...أفتش جيدا لعلك عالق بمكان ما
أنت موجود بكل شيء في كل مكان بكل التفاصيل...لكنك لست هنا بهذا العالم
أنت حتما في مكان ما لا اعرفه قيل عنه أشياء كثيرة لكن أحدا لم يعد منه للان ولم تأت منهم أخبار أو تفاصيل أو رسائل بريدية
غياب تام بلا رجعة
افتح المذياع، كل الأخبار توحي بأنك فعلا لست موجودا
القلعة - قصة: حدريوي مصطفى
غراب مصفق بجناحيه، يشق الفضاء الصامت بنعيبه، تتابعه من على شجيرة عوسج بومة رقطاء لحظة.. ثم تعود لسباتها، بينما هو.. كفزاعة نخرتها الريح وأيبسها الحر واقف، يمسح بعينيه الكليلتين البانورما النائمة تحت نير بقايا صهد الظهيرة، سرعان ما ينقلب إليه البصر كسيرا و هو حزين!
لا جديد، و لا شيء يبعث في القلب سلوى، أو يبدد من كآبة روح أسيرة بين ظلمات آمال وانتظار.
عقب سيجارة – نص: غزلان شرعي
أنا كنت أرى وجهي في الطرف الآخر من سيجارتك ، وأنت في الطرف الآخر منها
حين كان لا يفصلنا عن بعضنا البعض سوى مسافة سيجارة ورشفة ماء أو قهوة أو شاي
وكم و حذرتك من التدخين ، ولم ولم تهتم بذلك
وكأن الزمان لم يمض، وكأنك لم ترحل وكأنني لم أتزوج غيرك وكأنك الآن أب لأطفالي الأربعة ...وكأننا لم ننه بعد قصة تلك السيجارة
ولم تغمس عقبها المتوهج في القليل من الماء أو لم تدهسها كقطة جرباء بأقدامك حتى انطفأت
وها أنا الآن أعود بمفردي لنفس الطريق
لالة فاطمة – قصة: حدريوي مصطفى
هي:
تسحب رجليها بالكأد فوق الرصيف، على إيقاع لهاث خافت داخل زورها، تتخلله آهاتُ آلامٍ تتوقف عندها وتنحني عاصرة بطنها بكلتا يديها لحظة ثم تتابع المسير؛ آلام مزعجة! صارت تنتابها بين حين وآخر هذه الأيام، تنجح في إطفاء ثورتها بمسكناتٍ، لكن سرعان ما تعود اشتعالا؛ قد أقلقتها حتى باتت تقض مضجعها، ففكرت ـ أخيرا ـ في زيارة طبيبتها، لعلها تجد لها علاجا شافيا.
الطريق إلى الدكتورة، طريق طويل لا ملتو، بدا لها بداية بلا نهاية، وفشلها في استقلال سيارة أجرة زاده طولا. كثيرا، كثيراً ما سلكته؛ قادها إلى مدرستها وهي صغيرة، فيافعةٌ، ثم إلى العمل وهي شابة، بل أخذها إلى كل وُجهاتها، اليوم تعرف إنه يُيمم حتى.. إلى المقبرة! أحزنها الاكتشاف، وضاعف مما يثقل قلبها الكسير.
على حين غِرّة، هدأت ثورةُ آلامها، واعترت جسمها وروحها سكينة استعاد بينها المزاج القلق شيئا من انتظامه؛ وقدها كثيرا من اعتداله؛ لا شك أن سحر المسكنات التي أخذتها قبل الخروج قد حقق غايتها منها! فبدأت تدندن وتغني: أغنية لفيروز:
حيفا التي تتأنق لك وحدك – قصة: يونس طير
" رفعنا إليكَ مناقيرَ أرواحنا: أعطنا حبَّةَ القمحِ يا حلمنا "
محمود درويش
هادئ مفرق المدينة هذا المساء، المارة قريبو الشبه بألواح ثلجية تحن للشمس، المقهى القديم يرمي وراءه ضجيج الصيف الأخير، النهر الأخضر يجري باحتشام في انتظار المطر القادم. المدينة ضبابية جدا تستأنف كآبتها المعتادة، وتظلل أنوثتها الشقية بالأوراق الأولى للخريف. تنتشي بثقل قرني جبلين وتؤجل شيخوخة تسري ببدنها الأزرق شيئا فشيئا.
صوت شارد يهمس من زاوية القنطرة العتيقة القريبة من بوابة المقهى :
_ يفنى الهيكل وتتجدد الروح، تتآكل الحبال الصوتية وترقد البحة_ التي لايشبهها شيء_ في عمق الزمن، راسخة، ممتدة لا يقهرها غير تقلب المزاج المتعب لكلينا..
ويرمي بثقل رأسه في دخان سيجارته الرخيصة. ثقيل هو الرأس ومتعب حمله.
_ ذات تاريخ قد تسقط كل الرؤوس. قد تهوي كما الرماد نحو الأسفل، ربما. ليسقط هذا الثقل فقط.