بنت حمامة عشا في أعلى النخلة على رصيف الشارع، وفقست فيه فراخها. فقدت فرخين في اليومين الماضيين، وبقي واحد.
بينما خرجت للبحث عن الطعام، وقف قط أحمر بدين أسفل الشجرة، ورفع رأسه إلى أعلى، وكأنه يراقب العش هل مازال في مكانه ؟
القطط السمينة التي تعيش في الأزقة قبيحة ومتوحشة، لا تشبه قطط المنازل.
بعد ذلك صعد النخلة بحذر حتى وصل مكان العش، فأخذ فريسته، ونزل إلى الأسفل. لم يكد يصل الأرض حتى فاجأه قط أسود، يبدو أنه أقوى، انتزع منه صيده. سلم القط الأحمر بالأمر، وانصرف بهدوء دون عراك.

أمطار غزيرة تنساب على الزجاج بسلاسة، همست له بلطف بميزاتها العديدة، تسقي الحرث لتستمر دورة الحياة وتغسل الأمكنة وتطهر الأجساد من قذارات الزمن.. ربما تطهر فكره أيضا من ترسبات الماضي الحزين..!
أطل برأسه عبر النافدة؛ فلمسته قطرات الماء الباردة، وانتقلت إلى جسده انتعاشه غريبة، أحيت بباطنه عواطف ميتة، وحفزت في دواخله مشاعر جامدة...
أخد صندوق أسراره أو كما يسميه صرة الكآبة المغلق مند الواقعة ونفض عنه الغبار والأتربة؛ هذه رسالة من حبيب قد هجر، تلك صورة له في زمن قد ولى، يتباهى بتدخين سيجارة أيام المراهقة، تأمل ملامحه وقتئذ لا شيء تغير، هو نفس الجسد النحيل، التجاعيد فقط أصبحت تؤثث كل جسمه، هذا تذكار من زميل الدراسة انقطعت الأخبار بينهما مند أجل غير قريب…

" الفعل هو كل شيء، أما المجد فلا شيء "
فاوست [ من مسرحية غوته]
الطريق الصغيرة يمين الجبل أشبه بمدخل سري نحو قمة إكليلية خضراء، تتوج هذا الجزء من الأطلس. طريق تومليلين لوحدها حكاية؛ كيف تمتد وتستدير، كيف تراقص أشجار الجنبات وكيف ترمي بك من فرح صغير إلى آخر كبير..طريق تومليلين حكاية كبيرة..
لوهلة تخيلتني في جغرافية وسطى بين الحقيقة والحلم. هذا الأخير الذي تتبدى ملامحه شيئا فشيئا.
فجأة تحضرني المدينة الهادئة، طرقاتها قبل سنوات من اليوم وأشجارها المزاجية. يباغثني سرب طيور لقلاق هائج. اللقالق التي تسكن أشجار الطريق وتعيد تلوينه: تستبدل الأخضر والأصفر بالأبيض والأسود. اللقالق التي تلون المدينة الصغيرة.

كانت عيناه لا تكفان عن ذرف الدموع، كلما رأيته تجذبني إليه مسحة الحزن التي تهب ملامحه طعما موغلا في القتامة والألم. تنزل دموعه الحارقة كالجمر على خديه في صمت من لا يريد البوح بما يعتمر في قلبه من مواجع، لا يريد أن يبدو ضعيفا تراه دائما مكابرا عنيدا، كان كمن يخفي ضعفه وعجزه وخوفه.
كنت ألمحه، منذ حل في هذه المدينة الموحلة، كل يوم في الشوارع الممتدة الفسيحة، وفي الأزقة الملتوية والأنهج الضيقة المعفرة بالأوحال والأحزان والمكائد، كنت ألتقيه أمام المقاهي وفي الأسواق وحذو المدرسة وفي بهو الجامع. لم أجرؤ على التحدث معه، تحاشيته خوفا عليه أو منه. لم يكن يُقبِل على أحد، يرفض ما يعطى له من نقود أو طعام. يزم شفتيه كمن يهم بالبكاء أو الشتم كلما امتدت له يد بحسنة، ثم يمضى متجاهلا الجميع في كبرياء. نبت فجأة في أرجاء مدينتنا ونما بيننا بأسماله البالية وأظافره الطويلة المتسخة وشعره الأشعث الطويل المعفر دوما بالتراب. يدلّك بعض الزغب الذي نما في فوضى أسفل ذقنه على سنواته العشرين. كتلة من الأحزان كان يمشي حين تراه، ولا تملك إلا أن تأسى لحاله أو تبكي لبكائه.

استيقظت على صوت الدش، غمغمة غنائها ممزوجة بريح البخار وعبير الفراولة المنبعث من صابون الاستحمام، الساعة تشير الى السابعة والنصف. استيقظت قبل موعدها بنصف ساعة أو يزيد، عادة تكون خمولة تنهض على مهل كقطة كسولة وبذهن شارد، أما اليوم فلا.
منذ فترة صارت منتعشة ومنتشية دون سبب واضح. تقطع شرودي بخروجها من الحمام، أدعي النوم لأراقبها وأتأملها، تخرج ملتفة بفوطة زهرية منعشة بهالة بخار خافت كقديسة بشعر مبلل. كم تبدو لذيذة هذا الصباح! تضع كريم الفانيليا على كل الجسد، تسرح شعرها المبلول، تضع عطرا شريرا على أسفل رقبتها وخلف أذنيها، ترتدي ثبانا رقيقا أحمر مع صدرية سوداء، لماذا لا تحب التناسق؟ ترتدي فستانا تحت الركبة، كما كانت ترتديه لزيارتي في سنوات خلت، تحمل شنطة صغيرة، ترتدي صندلا صيفيا، وتتسلل الى خارج الشقة، وأنط لأراها عبر النافدة، توقف سيارة أجرة حمراء كحلوى طفولية.

الروم على حدود إمارة حلب.
ظرف المكان: قاعة الاستقبال الكبرى، في قلعة حلب.
ظرف الزمان: عام ألف، أو ألفين، وربما ثلاثة آلاف للميلاد.
أمر الأمير أبو المعالي وزراء حلب، فلاسفتها، علماءها، أصحاب الرأي، وقادة الجيش، بالمثول بين يديه.
حضر شاعر الإمارة الأخير، كفَّ صوته منذ سنوات طويلة، ظنه قد خرس، استدعاه ذرا للرماد في العيون.
عرض عليهم أبو المعالي الحدث الجلل، قام عن عرشه، وخطب فيهم بصوت يصطنع المهابة:

حين غادر آخر المعزين المنزل وقف خالد في الساحة الفسيحة الممتدة يحدق في الآفاق اللامتناهية البعيدة، وأحس بدموعه المنهمرة الحارة، فلم يقدر على منعها. وسرعان ما انتقل ببصره إلى الحقل الممتد مترامي الأطراف. كانت أشجاره الحبلى بحبات الزيتون السوداء صامتة صمتا رهيبا، كما لو كانت تمارس طقوس عبادة مقدسة، وبدت له تلك الأشجار في حالة حزن مقيت لإحساسها بالفقد منذ فارقها راعيها، فخيل إليه أنها تذرف الدمع بلا انقطاع. وارتسمت في ذهن خالد صورة والده وهو يذرع الحقل جيئة وذهابا ويداه لا تكفان عن مداعبة الأغصان اليانعة المتدلية بحباتها اللامعة البراقة تحت أشعة شمس أكتوبر الحارة. ويراه الآن وهو يسير الهوينى بمحاذاة طابية الهندي يراقب سير الجرار البطيء أثناء حراثة الأرض بهديره الصاخب الذي يبلغ أقصى القرية.

حبيبتي، ها أنا أكتب لك لأول مرة في عنان السماء عن لوعتي التي أججت نارها في فؤادي نظراتك بعيون كحيلة آسرة وكلماتك الصادرة من بين شفتين قرمزيتين مشتهاتين..اشتقت الى ذكرياتك الهاربة مع سيول الزمن الماضي مثل زوارق من ورق..لن أنسى ما حييت ذاك اليوم الذي أردت فيه أن أشخص موقفا قمينا برجل بالغ، موقفا كنت قد صادفته أثناء لحظة قراءة واكتشاف ومؤداه أن المرأة تحب أن يكون حبيبها شجاعا ومقداما لا جبانا رعديدا..وهكذا أكثرت من عنترياتي بينما اختلينا على درب العودة مساء من الثانوية..لكن رجاحة عقلك منعتني من المغامرة الطائشة عندما هممت بمواجهة جماعة من الأشرار المسيئين للمارة بأقبح الكلام..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة