أنا الذي تجاوزتُ كل الخطوط المرسومة لي، تجاوزتُ كل خطوط الانطلاق، كنتُ أركض دونما سبب وجيه، أحسبني أطوي المسافات، وأنا ما دريتُ أن الحزن مسافات.. تحاملتُ على نفسي، وأعلنتُ العصيان، لم أكن أملك غير قلبي؛ تذبحه غصص مؤلمة، وانكسارات ملتهبة وتنازلات موجعة.
تتملكني -الآن- رغبة متوحشة لأنْ أعبر كل الصحاري والوهاد والبحار... لأنْ أغرق للأبد... لأنْ أصمت أمام حضرة الفراغ، لأنْ أرمق الحياة بنظرة كره وسخرية، لأنْ أعريَّ كل هذه الآمال الزائفة من ثيابها... لأنْ أشطب كلَّ اللافتات وأحرق كل بقايا النبوءات المتسكعة...
أعود إلى الكتابة كمسافر أضناه وهن الطريق.. ثيابي ملوَّثة وذهني شارد بحكايا الرحيل.. وحدي.. أمشي بخطى متثاقلة.. حذائي مغبر، يلتصق به روثٌ مهذب.. ووحل كاذب.. كنتُ دائما أخشى عليه من وسخ متربص ومن أعاصير محتملة.. تبا.. ها هو ذا الآن يتعاظم.. إني أراه يتضخم أمام عيني... رحتُ -عبثا- أضربه بالأرض كل مرة، لأطرد عنه فرحا كاذبا، ولأخلصه من رذائل كلاب ضالة...
أحمل حقيبتي.. ووطني.. وترهات فارغة من زمن النسيان... هي ذي أضواء خافتة كئيبة تلوح لي من بعيد.. إنه وطني، فقدتُ ملامحه.. ونسيتُ طريق الوصول إليه.
أمشي إليه، لأجدني داخل مقهى مرميٍّ في قارعة الطريق، يبدو المكان معزولا، تكتنفه برودة شاحبة وتتعشش على مقاعده فوضى مملة أكرهها. أتقدم إلى الأمام وأطلب كوب قهوة حادة... أرتشفها واقفا... وعلى عجل.. دون أن ألوي على أحد..
أخرج من المقهى جارًّا خطواتي كمعتوه.. لم أعد أدري ما لون العالم من حولي... إني لا أسمع إلا أصواتا مزدحمة تتكاثف داخلي، تطوقني وتجتاحني كحبل أخطبوطي شارد... أتوقف، أتخبَّط، أنتفض كمذعور، أتأمل حولي فلا أجد غير سحب هاربة تتسابق، وطيور راحلة، وأزهار ذابلة... الحقيقة أني لا أجد غير السراب...
أواصل المسير متثاقلا كمن ضلَّ طريقه.. كنتُ أمشي وحيدا.. وأغني بصوت خافت، أمنِّي النفس بترنيمة فرح قادم... وفجأة تتناهى إليَّ ضحكات تتأرجح من هنا وهناك.. أبحث عنها متسائلا.. وسرعان ما أدرك أن صوتي المزعج هو السبب في كل ذلك.. فألعن حظي العاثر..
أصِل المنزل مرهقا، أفتح بابه فإذا بصرير يشعرني بقشعريرة مَّا، إنه ذاك الشعور الذي أفتقده، إنه العطر الذي يحيي في داخلي شعورَ محاربٍ مستبسل.
ترتسم على وجهي ابتسامة شاسعة، تبدد عنه كل ليالي الشتاء الموحشة، أتجه إلى غرفتي، أزيح عن كاهلي ثقل الوطن والحقائب.. أُشرِعُ أبواب النوافذ، أنفض عن نفسي غبار السفر، ثم أركن إلى دفتري أكتب:
"لقد عدتُ إلى الكتابة... كم أنا سعيد بهذا الصرير"