وحيدةً كعصفورة جريحة تجلس على طرف رصيفٍ مهترئ... تتجمّع بمحاذاتها كومة أوساخ.. وأكياس بلاستيكية فارغة يتلاعب بها الهواء جيئة وذهابا... نظراتها بطيئة، ناعسة، لا يظهر أنها تركِّز على شيء ما... انكفأت على نفسها كقطعة ثلج باردة، تتجرَّع بؤسها، تتلاشى كما النهايات... تشدُّ ثوبها الفضفاض وتُحكِم ما تشتَّت منه إلى نفسها.. تزيح بأطراف أصابعها بعض خصلات الشعر التي انسدلت فوق جبينها، تضمُّها إلى شعرها نصف المربوط... دمعة جاثمة في عينيها تأبى إلا أن تنزلق... اتَّكأتْ على الحائط الخلفي وأسندتْ رأسها المثقَل على يدها... بدا لها العالم من حولها حقيرا، صغيرا... لا يستحقُّ ذرة اهتمام... تتساءل في سِرِّها بمرارة: أيُّ قدَرٍ الذي قذفني إلى هذا العالم القذر؟ هل الذنب ذنبي؟ هل الذَّنب ذنب أمي؟ أم هو ذنب أبي؟ أم هو ذنبهما معا؟ كيف لهما لم يأبها بمشاعر طفلة صغيرة تأتي إلى الدنيا مُكرهة؟ لماذا لم يفترسني الموت أو المرض؟ لماذا لم أقع ضحيةً مثلما يقع الآخرون ضحايا كل يوم.. ومن ثمَّة أجد نفسي أرقد في أسِرَّة المستشفى... وبعدها إلى نومة هنية في قبري..!
تستفيق من شرودها بعد أن أيقظها محرِّك سيارة اجتازت الطريق بسرعة جنونية.. تقف بانكسار وهي تستغفر الله... لطالما حذَّرتها أمها من مغبَّة الاستغراق في أفكار غريبة كتلك.. تقول لها: استغفري الله... استغفري الله.. إنه المكتوب يا بنتي... الله يفرِّج علينا...
منذ متى وهي تقبع في ذاك المكان؟ هي نفسها لا تدري تحديدا... ربما منذ أمد بعيد، منذ أحسَّت بطعم الحنظل يلامس بشرتها النَّدية، منذ أن التحفتِ السماء غيوم ملبَّدة، وتأفَّفتِ الرّيح وزمجرت، منذ أن نزفتِ الأرض دموعها وبلَّلتْ يديها... ثـمَّ تعبَّأتْ بالظَّلام... إنه الظلام ولا غير...
قلَّتْ حركة المارة بعد أن جاوزت الساعة الخامسة مساءً، لم تعد تسمع وقْع خطواتهم من حولها، ولم تعد ترى ألوان أحذيتهم تتعاقب على الأرضية بالمحاذاة منها... تهزُّ رأسها ناحية اليمين ثم تمضي بخيالها شاردة: ما الذي يمنعني أن أكون ضمنهم؟ لا تملك جوابا كما العادة... إلا أن تُصغي لصوت السكون داخلها.. تنقضُّ عليها مشاعر غامضة، لا تهدأ أبدا... إنها تتأجَّج في حضرة الفقر والصمت والفراغ، تلتهب الأسئلة مجددا وتهاجمها: لماذا لا ترضخين للأمر الواقع!!
يشتدُّ صوت السؤال داخلها، يستجديها بإلحاح ويحاول أن يمضي معها إلى متاهات لامتناهية... يتراءى أمام عينيها شبح أبيها الذي لم تره منذ أن دقَّ المخاض بطن أمها، منذ أن تمزَّق غلاف الشرنقة ليواجهها دويُّ زغاريد كثيرة كانت بالمكان... لم تنعم برؤية أبيها يوما، لكنها تظلُّ تصنع له صورا مؤجَّجة بالحلم، تختار له من الإطارات أجملها، ثم تضعه بداخلها وهي تتأملها كامل الوقت.
تقول لها أمها: إن الرَّجل الذي يتخلَّى عن أبنائه ويدَعُهُم لقمة سائغة بين أنياب الليوث لا يستحق اسم "رجل"... إنه عديم الرحمة... عديم الشفقة... والإنسانية...
تقطع عنها ابنتها حبل كلامها الطويل الذي لا يبدو أنه سينتهي: هل كان أبي يحبني؟
يجتمع الغضب والحقد مرة أخرى على لسان أمها: الحبُّ يستحقُّ التضحية... من لا يضحِّي لا يمكنه أن يحب...!
تكتفي الأم بهذه الجملة المقتضبة.. بعد أن امتلأتْ حدَّ التخمة بالقهر والألم.. لا تريد أن تسترسل في الكلام كثيرا، فقد استنزفتْ طاقة شبابها كله وهي تجترُّ هذه الأقاصيص والحكايا لنساء الحارة، عزاؤها الوحيد في ذلك أنها سقطتْ في الحفرة التي شقَّها لها الغير، وقعتْ ضحية زواج لم يُكلَّل بالنجاح، وقعتْ بين مخالب رجل لئيم حقير، مزَّقها أشلاءً متناثرة وأرَاقَ دمها ولم تأخذه فيها ذرة رحمة... تركها وسط العتمة تصارع وحشة الليل... نجتْ من العتمة، لكنها لا تكفُّ تعتبر نفسها قابعة تحت الأسْر، تُثقل الأغلال يديها وتُدْمِيها...
الفتاة لا تزال تحدِّق في الفراغ.. هنالك بعيدا أين يرتسم الحلم المؤجَّج لأبيها كسحابة صيف هاربة. تمدُّ يدها لتلامس ما تبقَّى من الحلم.. لكنه يهرب عنها... يهرب... يهرب... وهي تمدُّ يدها أكثر لتقبض على تلابيبه... فجأة تسمع صرخة رجلٍ أَجَشٍّ يعاتبها: انتبهي أمامك.. دعي الناس تمر... ألا يكفي أنك أخذتِ منهم نصف الرصيف لتزعجيهم بيديك المتسختين مرة أخرى!!
تنتفض كسمكة خارجة لتوِّها من الماء، تحاول جاهدة أن تتنصَّل من ذاكرتها، أن تصدَّ هذا السيل العارم الذي بات يهاجمها باستمرار. تحكُّ فروة رأسها لتجد أمامها جثة رجل ضخم يوبِّخها ويقذفها بكلمات جارحة للغاية... تمدُّ يدها إليه مرة ثانية، تستجديه بصوت مهزوم، ممزوج ببقايا التعب واليأس: ساعدوني أرجوكم... أنا جائعة... ساعدوني لأشتري كيس حليب ورغيف خبز...
لا يأبه بها، ولا يصغي لكلماتها المبحوحة.. يدعها وراءه كسلعة رخيصة لا حاجة له بها، يتمتم: كُلُّكُم من نفس الطِّينة.. حيلتكم مكشوفة.. وخطة لعبكم واضحة وضوح الشمس...
تقع منها هذه الكلمات موقع الرصاصة في الجسد، مُحدثة فيه جروحا لا تلتئم أبدا، وندوبا لا تنمحي. لكنها تعلَّمتْ مع الزمن أن تتناسى، أن تتغاضى عن كل هذا الكم الهائل من القسوة الذي يلحقها من المارة، إنها تترسَّب في ذاكرتها لتنضمَّ إلى جروح كثيرة منغرزة...
الساعة الآن تشير إلى الثامنة مساءً، حلَّت الظلمة سريعا بالمكان، عمود إنارة يقف هنالك منتصبا ينشر نورا أحمر كئيبا لا يظهر أنه يفي بالغرض، هو عمود الإنارة الوحيد الذي يقتاتُ منه الحي بأكمله، تتلاشى حركة المارة، وتختفي الضوضاء إلا من بعض أزيز محركات المركبات المتباعدة...
هو وقت العودة... تعوَّدت الفتاة على هذا التوقيت، لم تطأ رجلاها المدرسة يوما، ولا تعرف كيف تعدّ السَّاعات، لكنها باتت تقيس الوقت بعمود الإنارة وانطفاء حركة المرور بجانبها... ساورها الخوف وتساءلتْ عن سرِّ تأخر أمها في المجيء إليها.. فقد اعتادتْ أمُّها الحضور في هذا التوقيت بالضبط لترافقها إلى المنزل. تهبُّ الفتاة واقفة، تنفض عن نفسها الأوساخ العالقة بثيابها، تنظر ناحية اليمين والشمال فلا تلحظ أي أثر لأمها...
كان عليها أن تتصرَّف بأي طريقة حتى تنتشل نفسَها من وَحَل المخاوف، تنزلق إلى الحافة، تجتاز الطريق تبتغي الوصول إلى الضفة الأخرى...
تدوِّي صرخة مدوِّية المكان، ويشقُّ صوت فرامل حاد هدوء الليل... تتكوَّر الفتاة على نفسها ككرة ثلجٍ متضخمة، يرميها التيار إلى زاوية الرصيف المقابل، بلا حِراك...
وبلمح البصر تتجمَّع حشود من البشر حولها، يلمحون تحت النور الشحيح فتاةً بعمر الزهور، وجهها تكسوه ملامح ذابلة، غارقة في بركة من الأحمر القاني... وعلى مقربة منها علبة معدنية قديمة تحوي أربع قطع نقدية بالتمام والكمال... إنها محصِّلتها النقدية التي جنتها لهذا اليوم.. يصيح أحدهم: إنها المتسوِّلة المشؤومة... هذا جزاؤها...
التفتَ إليه الجميع ورمقوه بنظرات متفحصة، لم ينبسوا ببنت شفة... اكتفوا بتقليب الفتاة، حملوها بين أيديهم وتوجَّهوا بها على جناح السرعة إلى أقرب عيادة طبية... دخلوا قسم الاستعجالات، تلقَّفها الطبيب من بين أيديهم، وأدخلها قاعة العلاج... بعد نحو نصف ساعة ينفتح الباب، يخرج الطبيب بوجه مُنهَك.. يُرخِي يديه ويتقدم بخطوات مهزومة في الرواق.. ينظر بتثاقل إلى حشود الناس المتجمعة هناك.. لا يزالون ينتظرون متلهِّفين الخبر الحاسم، لم يُعْيِهِم الانتظار أبدا... يخاطبهم:
- الفتاة مصابة بارتجاج في المخ... وبكسور على مستوى الحجاب الحاجز، ما يشكِّل خطورة على الرئتين...
تتصاعد الأنفاس وتتحسَّر الأفئدة... شَهِق الطبيب بعمق، ثم استطرد قائلا:
- لقد فقدتِ الكثير من الدماء، هي بحاجة إلى من يتبرع لها بكمية منها.. إضافة إلى وجوب الإسراع في إجراء عملية جراحية على وجه السرعة... إنها عملية مُكلِّفة... من يدفع مصاريف العلاج؟
اختفى الجميع على عَجَل... انصرفوا لحال سبيلهم... بينما لا يزال سؤال الطبيب معلَّقا بين السماء والأرض...