الذكريات عالم شفاف رقيق أشبه بطيف الأحلام، لا هو بالعالم المادي الحقيقي الواقعي، ولا هو بالعالم المزيف المتوهم. أحيانا أنغمس فيه لأسترجع شيئا من لحظاتٍ بعيدة من حياتي كانت قد ضاعت مني. أُلملمها لأتعرف على نفسي التي لم أعد أعرف. فمنها سهول وحدائق مزهرة، ومنها جبال وعرة باردة، ومنها كهوف مظلمة مخيفة، لكن من بين كل أراضي الذكريات المسترجعة هناك ذكرى مختلفة. تعود لأيام الطفولة وما قبل الوعي. حيث كانت الحقيقة بسيطة. أعيشها لذاتها دون محاولة فهم أو صياغة أو تبرير أو تنميق. إنها ذكرى متكررة. كلما استمعت لأغنية لمشاهب "رْسَامِي" أجدها تنبعث من جديد من اللامكان وكأنها مبثوثة في كل ثنايا هذا العالم، تزورني في كل مرة حاملة بين يديها إحساس فريد يتدفق في قلبي بغصة لذيذة غريبة عصية على الفهم. لا أعرف ما هو سر هذه الذكرى، خصوصا أنني كلما استرجعتها وقلبتها لم أجد فيها شيئا يستحق الذكر، مجرد ذكرى عادية.
أراني وأنا طفل صغير والليل قد أسدل أستاره. أمشي بجانب أمي وهي تمسك بيدي، ثم بعد مسافة ليست بالقصيرة نتوقف عند عتبة أحد البيوت المتواضعة القديمة المتوارية في أعماق أحد الأحياء الشعبية المنسية. طرقنا الباب ثم ولجنا إلى الداخل. في تلك اللحظة بالضبط، يطفو صخب موسيقى لمشاهب القوي. يملأ أذني ويغمر جسدي الصغير الضعيف، ثم أجد نفسي في صحن البيت وهو ممتلئ بالنساء...نساء لسن كباقي النساء...
بلا مقدمات وجدتني مشدوها مشدودا لامرأة توسطت الجميع، كانت ترتدي قفطانا أسود، مطرز بخيوط ذهبية. وتضع حزاما "مضمة" ذهبيا عريضا يظهر قوامها، شعرها أسود غر ناعم مسدول على ظهرها وعلى كتفيها، تتلاعب به جيئة وذهابا على أنغام الموسيقى، لم أر مثل هذا الشعر من قبل. قد أكون قد رأيت أحيانا في السوق خصلات لربات بيوت هنا وهناك من تحت الوشاح تصرخ على أثمنة الخضار. أو رأيت في مرات قليلة شعرا مسدولا لمعلمات في المدرسة حازما وجديا يضرب الأطفال. لكنني لم أر قط شعرا يلعب ويتراقص بفرح كالأطفال. لم أر أيضا من قبل ذلك الأحمر الناصع على الشفاه الذي لا يمكن أن تضعه إلا طفلة صغيرة تلعب عبر طلاء وجهها بالصبغات كيفما اتفق. لم أر من قبل كبارا بالغين يضعون كل تلك الألعاب من أساور وقلائد ذهبية يتفاخرون بها كالعيال.
لقد شاهدت في تلك الليلة الكثير من النساء الطفلات وقد تجمعن في صحن ذلك البيت فخورات بلباس العيد، رافعات أيديهن تَرْقُصن بدون رقص حقيقي، مجرد ميلان طفيف ذات اليمين وذات الشمال، كسنبلات يحركهن النسيم، وقد ارتسمت على محياهن ضحكات بريئات والعطر يفوح منهن كأزهار في حديقة.
ما الذي يجعل تلك اللحظة جديرة بالتذكر أكثر من لحظات أُخرى في حياتي؟ ما الذي أثارني وأدهشني؟ هل هي طفولة المرأة وتصابيها الماتع؟ هل هو نسيم الأنوثة الذي داعبني تلك الليلة؟ هل هو حاجز الجد الذي اهتز تلك الليلة فرأيت في الكبار عبثية لم أرها في الصغار؟ أم هو فقدان العالم لعقلانيته ومعقوليته في لحظة مجنونة؟ لا أدري. كلها مجرد محاولات فهم واستنطاق لطفل اختفى من حياتي منذ الأزل.