نمتُ نصفَ قرن,وفقتُ الآنَ لأُفيق احتفالاتِنا بيوم الشعر العالميّ في بيوت عامودا الطين,تلك التي تمكثُ في الأطراف بعيدةً عن لصوص النهار وحرافيش البعث.من خلال الشعر تعرّفتُ على ماركس السرياليّ,ومن خلال رياض صالح الحسين عرفتُ حسين مروة,ومن خلال محمد الماغوط دخلتُ عالمَ الثورة ولن أخرج منه,فالحياةُ ثورة دائمة"لأنّها فكرة,والفكرةُ لا تنتهي أو تموت,بل تجدّد".الشعرُ علّمني أن أثورَ على الذات والآخر.الذاتُ تودُّ البقاءَ في تعاليمها المُغلقة,فأوّلُ الثورة على الذات هو كسرُها والابتعادُ عنها لتصبح الذاتُ هي الآخر"الكأسُ أجملُ مكسورةً ممّا هي معافاة".والدي كان مَعلماً في الفقه واللغة ومُعلّماً في تفسير الشعر وتفكيكه,أتذكّرُ تعاليمَه وأتلمّسُه الآن حين يشرح بيتاً واحداً لعدّة ساعات لابن الفارض,فأخرجُ من جلسة أبي,وكُلّي روحانياتٌ ومواقفُ ومخاطبات,من تلك الجلسات تعلّمتُ النظم الكلاسيكيّ موسيقياً,وتعلّمتُ النظم التفعيليّ في الثانويّة,ثرتُ على النظمين تيمّناً بمكتبة أخي محمد عفيف التي كانت تضمُّ سعدي يوسف وبريفير وسان جون بيرس وأدونيس,في مناخ رطب كنتُ أقرأُ أدونيس,فخَطَفَ والدي الكتاب مني ليعيده إليّ قائلاً:"أنت تقرأُ أدونيس دونَ أن تفهمَه".للأمانة لا أفهمُه حتى الآن.فلماذا أفهمُ ما يُقال؟.

هذه الفرحة التي كانت قلوبنا إليها ظمأى، قلّصتها في قلبي غصّة. أقول "قلبي"، أجد الكلمة وحدها مناسبة.
جذور الغصة ترسخت في العمق على مسافة أربعين سنة ونيف... عمق سحيق ..
كم هي جميلة وهران...
الكورنيش أو Front De Mer قِبلتنا كل مساء. يبدو بهيجا وهو يشرع صدره الدائري على زرقة المتوسط من عل، تفتح المقاهي والمقشدات ذراعيها لنسائمه اللطيفة وهي تستقبل مرتاديها من كل الفئات والأعمار، العاشقين لمتعة اللقاء والشائقين إلى أطباق الأحاديث الشهية التي لا تنتهي... منهم أبي وبعض أخوالي وأقارب وأصدقاء جدد وقدماء من المدينة...

حين بلغت بنا الحافلة قمة الجبل، بعد رحلة شاقة مخيفة مرعبة، هدأت نفوسنا وسكن رعبنا. وأوقف المادري المحرك، فعم السكون واستحالت الحافلة جثة هامدة بلا حراك بعد أن كانت ضاجة بالهدير والأزيز، ولم نعد نسمع سوى أصواتنا المتناثرة يتردد صداها بين هذه الفجاج السحيقة.
كان المكان الذي اختاره لنا المادري لنتخلص فيه من وعثاء السفر منبسطا فوق القمة الجبلية العالية، بقعة فسيحة سواها عجوز أرميني وهيأها وظل يؤجرها للعابرين، فقد بنى فيها ما يشبه دورة المياه والمقهى. وحدثنا المادري أن أحد المسافرين عثر عليه ميتا ذات صيف لفه في إزار قديم، بعد أن استولى على ما كان معه من مال، ثم دحرجه من الجهة الجنوبية للجبل حيث الصخور الناتئة والهوة السحيقة، فتدحرج ما يزيد عن الميلين ولم يُعثر على جثته، فلا أحد يعلم أأكلته الذئاب أم ابتلعته الأرض. والمادري رجل مديد القامة طوحت به المقادير من مكان إلى مكان حتى استقر في مدينتنا انتدبته إحدى الشركات السياحية ليقود حافلة يجوب بها البلاد طولا وعرضا يعرّف السياح عن وطن لا يعرف أبناؤه أكثر تفاصيله. يحمل في جعبته حكايات لا تنفد، عاش بعضها، ورسم بخياله أكثرها.

استيقظ كعادته قبل الجميع. تأبط حذاءه القديم وسرواله المتآكل من كثرة الاستعمال وفتح باب البيت ببطء شديد وهو يتمنى في قرارة نفسه الا يخرج أصواته المزعجة بسبب الصدأ الذي استوطنه منذ مدة. اتكأ على الحائط، وترك رجليه الهزيلين يبحثان عن طريقهما بين فتحتي سرواله الواسع والعجوز. ولبس حذاءه الدي صار يئن من كثرة المشي وانطلق كالريح، لا يلوي على شيء سوى أن يصل في الموعد المحدد الذي اعتاد أن يكون فيه كل يوم. جالسا على تلك الربوة، وحيدا، يراقب زرقة المياه ويستمتع بمرور الباخرة الفاخرة التي تتلألأ بأضوائها كأنها نجوم تسبح في سماء صافية في يوم من أيام الصيف. يجلس بهدوء، وينتظر. ملامحه تحكي في لحظة، الفرح والحزن والمتعة معا. كمن خبر الدنيا وتكالبت عليه المآسي والأحزان. ينتظر ويخلو بنفسه في عالم الباخرة البعيدة، ويرى نفسه يتجول بكل خفة كأنه من أهلها. الكل يحترمه ويسلم عليه ويتمنى له مقاما طيبا. وهو يتحرك بخفة متناهية كفراشة تزهو بألوانها أيام فصل الربيع. ترتسم الابتسامات على ملامح وجه الطفولي الذي هاجمته تجاعيد الزمن قبل الأوان.

"سكاب"، يقول جدي الشاعر، حصان عِلق، لا يُعار ولا يُباع، الحبل فوق غاربه، يظل يصهل، وينتظر صاحبه دون جدوى؛ جرب ركوبَه أطفال كثيرون، لكنه بقوة يلفظهم،ويطيح بهم فوق الأرض، تصدر عنهم أنّات،فلا تحملهم أرجلُهم من جديد بعد ذلك،إلاّ بعد إسعافات.
وفي يوم مختلف،ظهر"حنظلة" مُنسلاً من رسومات ناجي العلي، مسح على ظهر"سكاب"، وشوش في أذنه بكلام ،فحرك رأسه، وحمحم،جثا كما الجمل،صعد "حنظلة وطار الحصان إلى عالم الألوان..
عاد حنظلة،بعد جولة دامت ساعات بصورة غير التي غادر بها البلدة حكى لنا نحن- أقرانَه- بأن "سكاب" طاف به بلاداً غريبة،الناس فيها مختلفون،هم كثيرون ويتحدثون لغات مختلفة،ومع ذلك يتفاهمون ،يكرهون اليباب،ويحبون، بدلاً عن ذلك، رائحة التراب، لا يشغلهم غير عشق النبات، يحرثون الأرض، ويغرسون الأزهار،والرياحين،ولا يصادرون الألوان في البساتين، لا يتنخمون أمام الناس، للظل عندهم، في النفوس ،مسقط ، وللون فتنة، وللضوء كُوات..

أصاب الفيروسُ شجرةَ مراكش وارفة الظلال، غنية الثمار، فمحا ليلَها، وشل نهارها... ثم تسرب إلى جذورها الممتدة نحو عوالم السياحة والاقتصاد، ومنعَ إكسير الحياة الذي ظلت تَنفُثُه بركات ستّي فاضمة وأوريكة وأوكيمدن...
عبرتُ شارع الفاسي الذي بدا كعملاق يتفوه في كسل صباح السبت، وودعتُ صديقي السيمو المقاول الشاب... نغماتُه حزينة، وكلماتُه تَصُكَّ مسمعي: أخطبوط الأزمة يطبق على قطاع العقار... ثم توجهت إلى سيارة الأجرة الكبيرة بمحطة "السعادة"، في اتجاه الساحة التي يَفْتِلُ الحَكَواتي خيوط أنينها بإتقان.
قفز السائق من مكانه وفتح الباب بقفاز من حرير الترحيب، ولما تحركتُ استعدادا لطلب الوقوف، خيَّرني في أي مكان أريد، قانوني وغير قانوني... وبالفعل كان ما كان، عكس طاكسي العودة والذي كان صاحبه عنيفا متوترا، عشرات المرات قبضتُ على قلبي خوفا من أن يصطدم بالآخرين. وبمجرد أن تهم بقطع الشارع، يمهل الطاكسي الصغير سيره في انتظار إشارتك للوقوف، ثم ينصرف في هدوء... لم تعد له نظرة شزْراء ولا أنياب حمراء، ولم يعد يصعّر خده للناس، وكأنه لأول مرة يعرف أن لا فرق بين مواطن مغربي وسائح أجنبي إلا بالتقوى.

مجرد ثوانٍ قليلة غيرت كل شيء في حياته، بعثرت كل أوراقه التي قضى عمره تعبا في ترتيبها. كان ممددا على أريكته، ثم فجأة اهتز كل ما اعتبره طوال عمره ساكنا ثابتا، خانه كل ما أمده بالطمأنينة والأمان، اهتزت الأرض والبيت والجدران.
ما هي إلا ثوانٍ حتى وجد نفسه في قبرٍ ضيقٍ تحت ركامٍ ضخمٍ من صخور بيته الذي طالما آواه، رُكام يمنعه من الحركة ويكتم أنفاسه، ظلام حالك دامس وصمت مُطبق، لا حركة ولا سكون، لاشيء. إنها لحظة طالما سمع آخرين عاشوها، ومع ذلك لم يتوقعها يوما، كان هناك دائما صوت بداخله يخبره أنه استثناء، أنه مختلف أنه "لا يموت"، حتى عندما تخيل بيته يتصدع ويكاد يهوي، اعتقد بسذاجة أن الجري نحو السلالم أمر في المتناول وسينقده وينجيه.

في أول يوم من أيام الربيع، صوبت نظري نحو أوراق شجيرات أينعت وزهور بدأت تتفتح وتذكرت سريعا كيف كانت تُفاجئها أشعة الشمس فتصفر وتتحلّل وتنثرها الريّح على طول الطريق. ها إنّي أتلقف مشهد الطّبيعة الاحتفالي لمواجهة هذا الفراغ الذي كان يحدثه التحلّل، فالموت. وأذهب واثقا إلى الامتلاء المتجدد في دورته، استنهض الحياة التي تكمن في كلّ شيء، فاكتنزه واخزنه حتّى نرى الوجود جميلا، ذلك أن من امتلأ باخضرار الطبيعة، لن يضعف تحت لهيب الحرّ ولن يحترق عندما تهجم عليه دودة تقرض حلمه.
حاولت أن أفرغ الفراغ من الفراغ، فيكون لذلك أصوات وأصوات. عندها كانت لي صولات وصولات، مهما صدّتني قوة المجهول أقفز وأغامر لأتجلى أو أنجلي مرددا: الخلاص الخلاص في فلك التأملاّت، فما بعدها يكون التيه أسهل طريق أتخذه سبيلا لنفسي اللوّامة التي تردد مرات ومرات: "لغيري أن يستسلم عن ضعف وجهل، أمّا أنا وإن نهشني الألم والموت فلن أستسلم مادام فوق قدرتي قدرة، وفوق معرفتي معرفة، "

مفضلات الشهر من القصص القصيرة