أليست فكرة الانفصال فكرة سيئة، وقد تكون من الغباوة بمكان، لكن الانسان كائن غبي في هذه المسائل، ولأني إنسان فلم أسلم من أفكار الانفصال هذه، وقد حاولت بجهد أن انفصل ولكني اكتشفت عمق الحماقة التي احاولها.
الموت نفسه لا يمكن ان يكون نوعا من الانفصال، عندما نعرف هذا نجد انه من الحماقة التحدث عن الانفصال. إننا دوما متصلين، متواصلين رغم اختلاف اشكال تواصلنا واتصالنا.
أفكر جيدا في المسألة فأجد أني انسان يحب وحدته، يحب ان يكون منفردا وافكر كيف انهي كل اتصالاتي مع الناس من حولي، ولكن ما إن اكون وسط الاخرين حتى انسى كل شيء. يستحيل على الانسان ان يكون منفصلا، انه يحمل معه كل الأشياء، يحمل معه ذاكرته ووجدانه. ونحن الضعفاء وحدنا نسعى الى هذا، اننا في الحقيقة لا نستطيع تحمل عبء كل ما نحمله من حساسية مفرطة، ولكن أليس من الحماقة بمكان محاولة الانسان الانسلاخ من ذاته من ذاكرته، من شعوره.
إن الانطلاق والطيران بعيدا لا يعني بالضرورة قطع الصلة، لا يعني الانفصال، كنت اعرف هذا الشيء في طفولتي وانا احمل مقلاعي اصيد العصافير في قريتي الصغيرة، في كل فصل صيف يصل إلى القرية اسراب من اليمام المهاجر، وهكذا كان الأمر دوما ويعود كل زوج الى العش الذي ولد فيه، هذا الكائن الذي نسرق منه حقه من العقل لا نستطيع ان نسرق منه عاطفته واتصاله، لا نستطيع فعل ذلك.
في الحقيقة لا وجود لأي انفصال، وليس الامر الا تعنيفا للذات وجلد لها، وفكرة الانفصال وحضورها في ذهننا ليست الا دليل قوي على قوة اتصالنا بالشيء الذي نحاول الانفصال عنه.
اليمامة تطير اولا لكنها ليست منفصلة عن الشجرة، ليست منفصلة عن الارض، ثم تهاجر ثانيا لكن وفكرة الارض فيها، والأرض هي صورة الذكرى، تكافح السمكة وتسبح عكس تيار النهر المنحدر لتصل الى المكان الأول ،انها تبقى متصلة ابدا، تعود السلحفاة الى نفس الشاطئ وهكذا.
اليمامة والسمكة والسلحفاة تفهم الاشياء في بساطتها الأولى ولا تسعى إلى تركيب الامور لهذا لا تشعر بالانفصال ولا تحضر هذه الفكرة البائسة في "وعيها" ، لا تسرق منها حقها في ممارسة الحياة وحقها في ان تحب ان تطير، تطير وحسب وتعرف ان حياتها ارتباط واتصال وتواصل، وانه حتى اقوى اشكال الغياب والتواري والاختباء والاختفاء وهو الموت لا يعدو أن يكون اتصالا من نوع اخر.
فلنفترض ان الانسان استطاع ان ينفصل عن كل شيء ماذا سيفعل حينها؟
سيسعى الى الاتصال والارتباط بأشياء أخرى جديدة، والشيء الذي لا يدركه أن ارتباطها بأي شيء سيكون رهينا في شكله لما سبقه من أشكال، فنجد انه حتى الافتراض لا يستطيع ان يقوم بنفسه.
إن وجداننا ما هو إلا مجموع التجارب والأشياء والاشخاص الذين احتككنا بهم في حياتنا وكل الذكريات، لا التي نستطيع استحضارها ولا تلك التي لا نستطيع، وحياتها هش خط ممتد من الماضي الى آننا،
قد يكون غياب الشعور بالانفصال انفصالا تاما؟ وقد يكون حضوره اقوى اشكال التواصل؟