في أول يوم من أيام الربيع، صوبت نظري نحو أوراق شجيرات أينعت وزهور بدأت تتفتح وتذكرت سريعا كيف كانت تُفاجئها أشعة الشمس فتصفر وتتحلّل وتنثرها الريّح على طول الطريق. ها إنّي أتلقف مشهد الطّبيعة الاحتفالي لمواجهة هذا الفراغ الذي كان يحدثه التحلّل، فالموت. وأذهب واثقا إلى الامتلاء المتجدد في دورته، استنهض الحياة التي تكمن في كلّ شيء، فاكتنزه واخزنه حتّى نرى الوجود جميلا، ذلك أن من امتلأ باخضرار الطبيعة، لن يضعف تحت لهيب الحرّ ولن يحترق عندما تهجم عليه دودة تقرض حلمه.
حاولت أن أفرغ الفراغ من الفراغ، فيكون لذلك أصوات وأصوات. عندها كانت لي صولات وصولات، مهما صدّتني قوة المجهول أقفز وأغامر لأتجلى أو أنجلي مرددا: الخلاص الخلاص في فلك التأملاّت، فما بعدها يكون التيه أسهل طريق أتخذه سبيلا لنفسي اللوّامة التي تردد مرات ومرات: "لغيري أن يستسلم عن ضعف وجهل، أمّا أنا وإن نهشني الألم والموت فلن أستسلم مادام فوق قدرتي قدرة، وفوق معرفتي معرفة، "
بل سأجعل من الألم مفتاح الطمأنينة ومن الموت معبرا إلى الحياة وفي ذلك سرّ عظمة الإنسان إنّه "يريد أن يعرف، وسيعرف، ويريد أن يتغلب ولسوف يتغلب."
أو يمكن أن أختصر ذلك في عبارة خاصة: كل ما هو مرّ لا بدّ أن يمرّ، لقد جمّلتني الغبطة، ورأيتني أمشي واثقا من نفسي، وكنت عندما أحادثني أتذوق المعنى كمشهد بليغ.
حركة تنبؤ أن في أحشاء هذا الفصل.
بدأت تتشكل بقية الفصول الخريف والشتاء والصيف.
وبإمكانياتي الحدسية تَشَّوْفَتُ شتّاء قادما
أرى فيه ثلوجا كالزهور تستوي كثمرة الصقيع
والغلال صارت تغزوا كل الفصول
ألم يصبح الانسان يتغذى من ثلاجة بلا مذاق
صحيح أن اليوم بدأ الربيع. وبدأت معه مجازية الحبّ واللذات واستعارة برج الثور الذي يهيجه اللون الأحمر القاني وأنا من مواليده ولكن رغم أني مازلت أرى سحبا قد تراكمت كأنّها في دمي. فإن هذه الاستعارة حيّة فيّ على الدوام وإن هذا الإحساس لم يكن وهما بل أماني واعية تستطّلع ما وراء الغيوم. وها أنّي ألاحظ أن هناك في أدغال نفسي قبسات نور كأنّما هي الإرادة تنصهر مع الكون، وتنظر اهتزاز العقل المتسرّب إلى قلبي المخضر وأسمع تطاير شظايا القلق. إنّ لحظة الاحتفال بالكون هي لحظة السعادة القصوى. الآن وقد احتوتني السماء والأرض وبهرت بجمال الكون وانصهرت فيه. الآن وقد تناسيت البشر، لولا صوت يخرج من عمق روحي يناديني: إنّه لا يجب الاغتراب في الطبيعة وإنّما يجب أن يكون تأملي استعداد للعودة إلى البشر بأكثر قوّة وقدرة على التحدّي والإبداع.
اتسعتُ للأفق في حين لم يتسع لي. احتجت قليلا من الحنين
كي لا أنكسر، وقد صبوا ماءً على جرة الحلم.
للخروج من مصيدة الغربة والاختناق.
،،،
فجأة غاب الوضوح في ضوء آخر نهار، مرّ كلمح البصر
واندهشت لانحناء الغيوم الكثيفة نحوي
فَتخطَّفني الشرود
ودوت فكرة فيّ دوي الرعود كالانبعاث
بحثا عن "تجديد الذات"
،،،
ضاقَتْ ذَاكرتي بما رحبت
وشهدت تحوّل نفسي في السحاب، حالا فحال
وبحثت عن اضواء الزرقة والبياض
عن جنون وحنين في الألوان
فما وجدت غير يد تحرك دوائر الفلك
هاهٍ لو صرت برقا ورعدا وقوس قزح في الأكوان وأتصالح مع الربيع
،،،
ويُصادف نزول المطر في أواخر يوم حرّ، يكون الربيع قد اغتسل من براثين العابثين بتوازن الكون
فأراه اعلان اغتسال للكيان
وألاطف الأرض
لتسمّد نبتة التمرد فيّ.
وأعيش بجوارحي حدث التأمّل في الماء والطين ...
وبحرارة الإحساس
لا أميل للخراب
فيغسلني المطر لتخلصني من وهمي المبعثر في مسافات الروح الهائمة في الافق البعيد
سأبعث اليقين في كياني
حتى لو عصفت الريح في روحي ما نُحت بصوتي العالي
لكن سأحطّم أحزاني وجهلي
بهذه الطهارة الكونية الكبرى
هي بمثابة بذرة في القلب تعلّمني دروسا في العشق.
في الحركة والتحدّي.
ويتجدّد الكون في داخلي لأتجدّد أمام الناس رؤية ومعنى
فلا جديد إلاّ ما نعيشه دهشة وغرابة
،،،
لي في سحر الغروب انتظار وشوق واحتراق
وظلمة اللّيل لن تسلبني كلّ شيء
لكن سأشعل فيها ذاتي شموعا تبدّدها لأنّه الربيع
،،،
أصبحت الآن أرى نفسي ذرّة من ذرّات هذا الكون المترامي
أشعر أن صدى صوتي حملته المجاري وردّدته الجبال أغنيّة الخلود.
وإنّ خفقة قلبي انصهرتْ مع احتفالية الربيع وانبعاث الحياة فيما كان قد مات.
ها هي روحي تُضيء مسالك المستقبل
وأغّني كلمات نثريّة سرياليّة:
‘‘أيها المطر رمز العطاء،
أيّتها الريح يا رمز السفر
ألطمي قلقي ومزّقي الأحزان على الأرض.
يا طاحونة الدنيا العجيبة.
ارحي قمحي، واعجني روحي رغيفا للعصافير وسمادا لكلّ جائع من المعنى
أحتاج بستانا فكريّا مملوءا طموحا وأنغام حزن مؤرق وحيرة ومعنى.
هو كلام اللّغة أزهر
هو نسيج أحلامي
حروفا ورجّة.
الآن أعيش احتفالا كونيّا بهيجا
والآفاق الرحبة تملّصت مني
وكانت قزحيّة فيها جميع الألوان
وكلّ لون يوحي بمعنى ويرمز إلى وجع
وفتح لسرّ مكنون مدجّج بالخلق والإبداع
ونحت الكيان
وتذكّرا للنسيان
ولذّة للموت في الحياة.
كلّ لون صاغني كلمات
نصّا لم يقرأ ولم يفتح
كنت ألوانا، أشق أفق المدينة
ذلك الفتى المتيّم، وهو مصوّب نظره نحوي
رآني خبزا وماء ورآني رمزا للحبّ والحنان رآني رمزا لمقدم الحصاد.
***
وفي الوقت المناسب أتلقف سعادتي حتّى في الجحيم
فتنصرف عني الأحزان
فأشعر بالراحة في عمق التعب
راجيا انتصارا، مهما هدّدوا استقراري ... هؤلاء الذين أعرفهم يذهب في اعتقادهم أنهم قد خدعوني سأراهم حطاما كالرماد
وهنا أجلّي الرفاه من الشقاء
وكذلك منذ سنوات امتلأت حياة، ففاضت كفيضان قهوة سهوت عنها فوق لهيب النار
ودرّبت حاسة التذوّق لدي، بعد أن طوّعها الانصياع وتسلّط أذواقهم عليّ.
فإذا حلت الحكمة انحلت كلّ رابطة تشدّني إلى الانهيار... بينما يشدّني للأرض حينئذ الحبّ والسفر والحنين.
***
انعكس فكري على فكري
أجدث الصمت من الصمت،
واضطربت رؤياي
وعزمت الارتحال عن قلقي
والتيه عن توتري
ذلك أن نقصي في هذا عالم يبرهن على أنّ الشرّ يزداد قتامة
وأصبح توحّش الإنسان ناعما.
فكم لدوافع الكتابة عندي من قدرة على تحقيق توازني النفسي.
ها أنا أكتب، لعلّ كلمة من كلماتي تكون بلسم الروح
وليس أمام جماليّة اللحظة إلاّ أن تكون لي قوّة لا تنتج إلاّ الحبّ يلامس الحياة.
***
ذاتي المتداعية للسّقوط
انعرجت عن مسار الفعل
فرجتني الخيبة
و إذا كانت الهزيمة ممكنة فإن النجاح ليس محالا
إذا كان الشتاء يصول فالآن، فموعدنا مع الربيع، وتلك دورة الحياة
***
احتوتني السماء
والأرض طوّقتني
هنا عواصف قد غُرست بذورا
وأينع البرق، وأورقت جذور الرعود،
ليكن الربيع ثمرة كلّ الفصول وقدوم الصيف لا حقا ذوبان كل الألوان
،،،
كم يبعثرني قلقي.
لذا لا يوجد وقت بلا مقت.!
لا يوجد مقت بلا نهاية
وكم من ألم اختزن أملا
وجرح اندمل بعد طول نزيف
كان لديّ حلم يفكر، ويندس في وحلّ نذالة من لا يغني ولا يطمئن، ولا يكف عن مخالطتي
لذا كلما صعدت درجة من السلم، كسرت السابقة حتى لا يلحق بي هؤلاء الخونة، كي أتعالى وجوديّا عنهم.
انشددتُ إلى الحركة التي ترمز للحظات في فراغ المجهول، محاولة مني للتمكّن في الأرض من أجل أن أنثر حكمي ....
فأرى الإنسان الأقوى في وحدته يقيم علاقات مع نصوص ترغبه في فهم العالم. وتجعله يتعلّق بالحياة بكلّ آلامها ومصاعبها ... هي لحظات نتذوق من خلالها حالة وجودية. ونحذر بفضلها من عاقبة الأمور. حكمة بالغة كتبت بلغة التجلّي في دروب النسيان يتذوّقها العقل
وما سأخزّنه في هذا الربيع، سيجعلني أرى مستقبل الظلّ زهرة الصيف. هذا ما كنت أراه: ستكون كلّ الفصول الأربعة لديّ ... جدليّة للصّيرورة الأزليّة
لعلّي أسارع بالصيف، أجلّيه من الربيع، فأرى في وقت الهجيرة الظلال زهور حرّ، أتذوّقها، وأشتمّ رائحتها
فلا أقدر إلاّ أن أصدّق حكمتي: الفصول نسيج واحد متماسك حبكته يد الزّمان على منسج الحياة العتيق.
الحبيب النهدي
كتب في 28 فيفري 2021