هذه الفرحة التي كانت قلوبنا إليها ظمأى، قلّصتها في قلبي غصّة. أقول "قلبي"، أجد الكلمة وحدها مناسبة.
جذور الغصة ترسخت في العمق على مسافة أربعين سنة ونيف... عمق سحيق ..
كم هي جميلة وهران...
الكورنيش أو Front De Mer قِبلتنا كل مساء. يبدو بهيجا وهو يشرع صدره الدائري على زرقة المتوسط من عل، تفتح المقاهي والمقشدات ذراعيها لنسائمه اللطيفة وهي تستقبل مرتاديها من كل الفئات والأعمار، العاشقين لمتعة اللقاء والشائقين إلى أطباق الأحاديث الشهية التي لا تنتهي... منهم أبي وبعض أخوالي وأقارب وأصدقاء جدد وقدماء من المدينة...
هم الآن ملتفّون حول رشفات القهوة و "الكازوز" البارد المطفئ لكل عطش، غارقون حد الأعماق في بحر الكلام علهم يتداركون ما ضاع من زمن الغياب... ينظر إليّ خالي بعين مبتسمة، ثم يربت على رأسي بطريقة تبعثر شعري، لكن يشبع رَبْتُه الخؤولةَ داخلي.
تلتقط أذني صوت أبي:
- الحفلة في وجدة، مرحبا بكم...
يكاد نبضي أن يفضح فرحي...
وصلنا إلى وهران...
لم تستغرق السيارة ساعتين أو أكثر بقليل، من جوج بغال إلى Place Murat وسط المدينة: ملعب صغير مكشوف لكرة القدم، نفق في اتجاه المنطقة البحرية ترعبني ظلمته، عمارات شاهقة أخطئ عدّ طوابقها، أبدأ من جديد، أعيد مرة أخرى... حتى أصيب العدّ...
يخاطبني والدي:
كل هذه العمارات بناها الفرنسيون، وذاك النفق أيضا.
نضع حقائبنا في المصعد، ثم يضغط أبي على الزر 20.
واحد
اثنان
ثلاثة
أربعة...
نتحلّق حول الكسكس طبق الاستقبال الشهي، صخب من اللغط والأصوات والصياح والقهقات ينسج نوعا من الدفء الجميل اللذيذ...
- مرحبا بولدي السي مجيد..
كم أحبك خالتي خيرة...
ألتقط من يامنة إشارة بارقة
ننزل صامتيْن، وحده صوت المصعد يتكلم وخفق بين الجوانح...
أينما حللنا ترافقنا يامنة: سانتا كروز Santa Cruz، سوق المدينة الجديدة، قصر الباي، عين الترك... كل الأماكن جميلة بحضور يامنة، قريبة مني وقريب منها حد الالتصاق...
- متى تزورنا خالتي وعمي بنوار و...؟
لم أذكر على لساني اسم يامنة... أبمقدوري نسيانها!
لا تزال أصابعنا متلاحمة و إن كان الصمت يأوينا...
على غير العادة يسافر أبي بعيدا، لكنه يتدارك الموقف:
- تغيرت أشياء كثيرة يا بني...
لن يزورونا ولن نستطيع زيارتهم...
أخر ج مهرولا، أقف على العتبة...
مظاهرات حاشدة، الأعلام الوطنية، الحناجر ساخنة تردد الشعارات...
لكن في المساء، مذيعة من العاصمة تذيع أخبارا غريبة...
تستجوب عسكريا يغمره حماس ملتهب
مراسلة من وهران تستضيف عسكريا آخر لا يختلف عن الأول
كلما التقط سمعي وهران يخفق نبضي...
تتحسس كفّي كفّ يامنة، أصابعنا المتلاحمة، نظراتها المنغرزة في قلبي...
أهو مجرد إحساس طفولي بريء انبجس من لحظة مجاورَة.. !؟
ماذا يقع أبي..؟ جنود على الشاشة..؟ حديث عنا لا ينقطع..؟ وغيرها من الأسئلة التي تسقط مدرارا على أبي.
هذه المرة،إجابة أبي من التاريخ والحاضر واضحة وجازمة.
ترى كيف حالك يامنة... كم اشتاق إلى تلاقينا الأول...
في ليلة ظلماء قارصة
شيوخ ونساء
وصراخ أطفال
صداه العراء
أعداد لا تحصى...
وفي نهار اليوم التالي أو بعده، أو بعده بقليل، ملامح ليست بغريبة، أرى فيها Place Murat، المقهى على Front De Mer... تستل أمي خالتي خيرة من إحدى المجموعات، ترتمي فيها... ثم تغرقان في دمع بئيس أفقد العيدَ بياضه وألبسه سوادَ الحداد إلى الآن...
كمجنونة تلتفت أمي يمنة، ثم يسرة، توجّه نظرها إلى الخلف، الأمام، هنا وهناك... عمّن تبحث من جديد !
لم يكن مع خالتي حقيبة، ولا شيء من حاجياتها المعتادة.
...
...
...
وقد بلغت من العمر عتيّا..
لا تزال المذيعة تملأ الشاشة وبجانبها العسكري !
ولا يزال العسكري ببزّته الحربية، لم يتقاعد بعد !
لا تزال خالتي خيرة في قبرها تذكر تلك الليلة السوداء
و أبناء خالتي وزوجها "عمي" بونوار...
ولا يزال غياب يامنة
غصة
ترحل بأفراحي
وفي أقصى جهدي
تقلّصها