توجه نحو المقهى ، جلس على كرسي بلاستيكي ، طلب زجاجة كوكا كولا ، كان يتصبب عرقا ، لا شيء سيخفض هذه الحرارة غير مشروب بارد ، بعد لحظات بدأ يخط بيمينه خطوطا وبشكل عشوائي ... وسيلة لجر مخيلته بعيدا ، خطوط مستقيمة ، وأخرى دائرية ، وأخرى ... فجأة أدرك أن عليه أن يسلك مسلكا حلزونيا ، رسم نقطة في وسط الورقة ، بدأ يدير يده ومعها القلم ... دائرة غير مكتملة ، ها هي تتسع وتزداد اتساعا ، ودون أن يشعر وجد القلم يخط على الطاولة ، لقد تجاوزت الدائرة الحلزونية حجم الورقة ، إذ كان حجمها صغيرا . انتقل بخياله بعيدا ، همس في نفسه : ماذا لو لم أتوقف عن الرسم ، أين يمكن لهذه الدائرة أن تتوقف ؟ وضع القلم على الطاولة ، قرر أن يكمل الدائرة في خياله ، أغلق عينيه ... وبعد جهد جهيد تبين له أن الأمر يتجاوز قدرته على التخيل ، فثمة حدود لكل شيء ، قرر أن يغير شكل هذه الدائرة الحلزونية ، هذه المرة سيجعلها دائرة ذات خطوط متوازية ... رسم دائرة على الورقة وقبل أن يكملها انحرف بها قليلا خارج المسار ليبدأ دائرة أخرى ... وهكذا حتى إذا أوشكت على الانغلاق انحرف بها مرة أخرى باتجاه الخارج راسما شكلا ، ما هو بالدائرة الكاملة وما هو بالشكل الحلزوني ... أثاره شكل الرسم ... تساءل : ماذا بوسعي أن أصنع بهذا الشكل ؟ تمتم هامسا ... وبعد تفكير طويل وأخذ ورد تبين له في الأخير أن هذا الرسم مجرد تخطيط على الورقة ، مضيعة للمداد ... والورق ... ومضيعة للوقت ، تذكر مرة أخرى أن الأمر لم يخل من فائدة ، فهو على الأقل وهو يرسم على الورقة والقلم يسافر على صفحة الوجه الأبيض رفقة أنامله ... كان عقله شاردا تائها مسافرا بعيدا عن جسده .
هذا الجسد الذي كان من سوء حظ روحه أن تحبس فيه ، هذا الجسد الذي أنهكه بطلبات لا تنتهي ؛ الطعام ، الشراب ، الرغبة ... الرغبات التي لا تتوقف ، تذكر هذا الجسم الذي كان يكابد من أجل أن يملأه بالطعام والهواء والماء ، ثم يعود ليفرغه من جديد ؛ من الفضلات ، والحيوانات المنوية المتكاثرة ... لقد كان عازبا ... ماذا عليه أن يملأ ؟ وماذا عليه أن يفرغ ؟... تساءل عن حياته الفارغة من المعنى ، هل تستحق منه كل هذا العناء ؟ ما جدوى أن يضيع العمر عموما والوقت خصوصا في ملء الفراغ : فراغ على سطح الورقة ، كلمات متقاطعة ، كلمات مسهمة ... فراغ روحه ... فراغ جيبه ... فراغ عقله من فكرة ، من خطة تخرجه من هذه المتاهة ، ماذا لو قرر أن يملأ الفراغات كلها ودفعة واحدة ، بذلك سيريح عقله من هذا التيه ، لهذا قرر أن يرسم دائرة أخرى على سطح ورقة أخرى ... التغيير ضروري في الحياة ... الشكل الجديد سيكون معاكسا مخالفا نقيضا لسابقه ، سينطلق من الاتساع إلى الضيق ، ضبط حركات أصابعه رغبة منه في أن يكون عمله متقنا ... وإتقان العمل واجب شرعا وعقلا ... استمر الوضع دقائق لم يحصها ليجد نفسه وهو يدور بقلمه من الاتساع إلى الضيق مشكلا رسما حلزونيا ... ليجد نفسه عند النقطة ، هي البداية ... هي النهاية ، آنئذ وآنئذ فقط أدرك أن الفراغ كائن يتسع ويضيق ، تيقن أن لا جدوى من محاولة ملء الفراغات ، وحين علم ذلك علم اليقين قرر أن يغادر المقهى ... فأرض الله واسعة ...
د . إبراهيم ياسين .
د . إبراهيم ياسين .