لم تكن حبيبة، بل حلما لم يرغب بهجرانه، حلَّق وعلا به، فارتطم بسقوف الوحدة.
ذاك الصمت الجليل، الكلام يدنسه، والتصريح يقتله، نوع من تعاطي العذاب، والإدمان على الفناء المقنِّع بألوان صاخبة.
عيناها لوز وسكر، رموشها حراس ليليون، مستعصية على الحب، مسلسة لفرح مزيف عادي، خالٍ من عصف الدهشة، وفارغٍ من أي شغف.
امرأة سكنت ظل البدرعلى وجه الزرقة الحائرة، رثت عيون الغسق في محاريب العزاء، وتنشقت قُبلَ الموت الساكن.
رانيا كانت شلالا من فتنة، وكان هو ناجيا من هاجرة خانقة، فلا هي توقفت عن التدفق العاصف، ولا هو قدر على مجاراتها، فاستكان مع حمرة الشفق الأخير.
عاندتِ الحياة، كمن قتلت ابنها، وبكته عمرا كاملا، عاقبت روحها باحتراق ذاتها، وتطهرت بالندم من جريمة شبه مكتملة الأركان.
قصمه بعدُها، وحيرها ضعفُه، فلا هو اقترب من العين، ولا هي غادرتِ القلب، معادلة من درجة مستحيلة.
لا هي بهزيمة كاملة، ولا هو أمل منطقي، استباحَتْ حنوَّه فدمرته، وأبت أن تهشِّم فيه الخيبة المقيمة.
لم يستطع إخراجها من روحه، ولم تسعفه بخطوة إلى حضور الجسد، تأرجحا في منطقة الوسط القاتل، واهتزّا كأغصان شجرة خضراء، في خريف نحيب مائج، لا هي انكسرت فأراحت، ولا بقيت فأسعدت.
في العيون سكنا معا، وفي المكان تقاطعا، كان الزمان مبكرا حد الإجهاض، وخديجا حتى السُكر.
أخرست شعره، ولم يسمع نثرها، تساقطا كلمات وصورا، وتاها تعابير وبلاغات مفرطة، بلغة أقصر من تداني النبض الصاخب، وأشعة أكثر حدة من قدرة الحدقات المطفأة على إدراكها.
رانيا، كانت ومضة سحر عابر في ساحة اكتئابه الأبدي، محطته الأخيرة في قطار عمر لم ينطلق، عذاب عشقه كله، فرق التوقيت القاتل.
مدَّ يده بالسلام، تعثر اللفظ على أعتابها المضرجة بلهيب الرغبة الشاقة، ضاعت بين القرنفل والجوري تمتمات حروفه الطائرة، قُتلِت قوافيه المتطرفة على عتبات التأتأة المحبطة.
صادف غروبُه الوادعُ شروقَها العاصفَ المبكر، وصل بعد الأوان، رحلت قبل اشتعال الحركات الأولى.
كان ومازال، بلا اسم محدد، عنوانه الثابت الوحيد ملقى على حيطان المدن المهاجرة، كان اسمها رانيا.
تلاقت سهام العيون، واحتارت دفقات الأفئدة، الشوق أكيدٌ كلحظة ولادة، والفراق قدريٌّ كموت مشتهى.
ارتدتِ السواد بلا حداد، وتدثر بالابتسامة الكدرة، تبادلا الأدوار في لحظة الذروة، فخرجا من واقع الممكن المحدود إلى أفق الخواء المستحيل.
ظنّ انتظاره حكمة امتلاك الوقت، وما رأته إلا وهنا، انكسرتْ ساعتُه الرملية، انحصرتْ آخر حباتها في العنق المختنق.
تهاديا تهما وعتابا:
-ترددكَ فاق صبري.
-بل أنتِ من استعجل الرحيل.
رانيا لم تنتظر، وهو لم يُقدم، فانتهت حكايتهما قبل أن تبدأ.
ما عجز عن قوله همسا في أذنيها، رتلّه بطلاقة بعد غيابها، ما أخفاه سرا في احتدام الأيام الأولى، فضحه علانية في رثاء الوداعات اليائسة.
مضى وقد أضحى وراءَ المستقبل، تبعته أحزانه وذكرياته، أغانيه ونغمات نايه، أمطار أيامه، أقمار لياليه ونجومها.
ترجَّل رفاقه مع مفارق الدروب، و بقيت رانيا ساكنة تحت السنديانة الفتية.