بعض الصدف كالشرارة، لا تخلف إلا الحرائق التي لا يقدر أحد على إخمادها. وتلك المكالمة التائهة ألهبت في هشيمه نارا لا قدرة له على إيقاف تقدمها. كانت أرضه هشيما مصفرا. وكانت كلماتها زيتا سُكب على ذلك الهشيم. عجز عن كبح لجام نفسه، وأطلق لها العنان تَصَحَّر به من بيداء إلى بيداء. لم يتوقف عن مهاتفتها يوما. ما إن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيه حتى يسارع إلى وضع الشريحة الثانية في هاتفه ويتصل بها، ويعطر صباحها بعذب كلامه وينثر حولها عبيره ويتركها بين حلم ويقظة. كثيرة هي المرات التي أيقظها من نومها باتصاله. داما على تلك الحال حينا من الدهر. أدمن كل منهما صوت الآخر. تحولت المكالمات إلى لقاءات افتراضية عبر الفايسبوك. أعجبتهما اللعبة واتفقا دون تصريح على مواصلتها. تبادلا أعذب الكلمات. روى لها النكت المتنوعة. اخترع قصة لحياته وحكاها لها. صدقته في كل ما قال. شهران متواصلان ظل يحدثها وتحدثه. وظل يصدقها وتصدقه إلى أن أدمن كل منهما الآخر.
كتب لها يوما وهو يعانق صفحتها على الفايسبوك حين عثر عليها متصلة:
"نورتني يا خير زائرة أما خشيتِ من الحراس في الطرق"
فجاوبته:
"من يركب البحر لا يخشى من الغرق".
مدت هذه الكلمات جسر التواصل بينهما، وتوغلا في الحديث وخاضا في لججه، سافرا بعيدا. لا رقيب يهابانه ولا عيون قد تفضحهما. حدثته عن زوجها الذي لا يأبه بجمالها، ولا يُسمعها مثل هذا القول الذي يلامس القلوب فيحييها. لم يُسعدها يوما بهدية تذيب كثل الثلج التي تراكمت بينهما. لم تكن، حين تزوجته، تريده زوجا فحسب، بل كانت تريده صديقا وحبيبا ومؤنسا، يُلبِسها لبوس الأنوثة ويبث في روحها الأمل والتفاؤل. يزرع مساحات الفرح في حقولها. أرادته أن يحييها بعد أن ذبلت أوراق ربيعها. أن يبذر في تربتها بذور الفرح ويرويها، لا أن يحول بساتينها الزاهية إلى جدب لا يُنبت إلا الأشواك.
موجوعة كانت وهي تخبره تفاصيل حياتها. كتبت له مرة تحدثه عن زوجها: "لم نتحادث يوما حديثا وأتممناه. يوصد الأبواب المشرعة، ويظل يخبط خبط عشواء للعثور على مخرج بعد أن يزج بنفسه في متاهة موحلة". كانت نفسها مكلومة وجراحها نازفة. أراد أن يلتقيها ليفرح بلقائها. وها هو يتحول إلى جب عميق تطمر فيه آلامها. وها هي تلقاه لتنفث في روحه سمها ليسري في كامل جسده ويفتته. متألمة وتريد أن تُشفى. اكتشف أن جراح روحها عميقة ومتقيحة أنى وضع إصبعه غاص. بدا عاجزا عن لملمة تلك الجراح. فسح لها المجال للشكوى والبوح لعل البوح أن يخفف عنها حملها الثقيل، وعليه أن يحسن الإصغاء ويصبر على سماع شكواها. أن يسايرها.
بحثت لها عن ملجأ تلوذ إليه كلما أرهقتها الحياة أو رجّتها اهتزازات الواقع العنيفة. وجدت ملاذها في صفحات الفايسبوك، تنشئ صداقات متنوعة وهي في بيتها، تحادث من تشاء وتهدي عذب كلماتها لمن تشاء، وتهذي مع من تشاء، وتبحث عن كلمات عِذَابٍ ممن تشاء. كانت تبحث عمن يجعل أكمام أزهارها تتفتح، ويسقي أشجارها لتورق وتثمر. كانت تريد أن تكون أنثى لا أن تكون امرأة فقط. ولما وجدته تشبثت بتلابيبه. تخلت عن كل الذين عرفتهم قبله. كانت كلماته ترياقا لكل السموم المنفوثة في روحها، كانت لقاءاتها الافتراضية به دواء لجراحها النازفة.
كان يصغي لآهاتها أثناء بوحها، ويسمع شهيقها ويرى دموعها تتناثر خارج شاشة جهازه. شعر مرة أنه أحق بالشكوى منها. رغب مرة أن يبوح لها بأوجاعه لكنه فضل الصمت. خاف من أن يضيف إلى أحمالها أحمالا قد لا تكون لها طاقة على تحملها. فصام عن الكلام. وظلت شكواه تتحشرج في صدره. أردا أن يحدثها عن زوجته التي لا تبالي به، وأن يقول لها إنها لا تتزين إلا عندما تخرج كأنها تتهيأ ليراها العابرون. وإنه لم يجد فيها ما ينسيه شقاءه، ضاعفت همه واستوطنت حياته وأرهقته بشكواها وتذمرها وطلباتها التي لا تنتهي. كان يريدها إلفا يجعل منه جناحا يحلق به من سماء إلى سماء، لكنها لم تكن بالنسبة إليه سوى ربقة مشدودة إلى وتد دُقَّ في أرض صلبة كبلته وقيدت حركاته وقتلت فيه كل روح للفرح والإبداع.
لم تترك له مجالا للبوح. كانت بها حاجة ملحة للحديث، تقتنص اللحظات التي تعثر عليه خلالها لتقول كلاما كثيرا. رأى دموعها تنهمر جمرا وتغمر شاشة هاتفه. وسمع آهاتها وهي تخبره أنها وأدمنت اتصالاته وترجته أن لا يتركها، فهو طبيب روحها.
وتواعدا على اللقاء.
حث خطاه ليلحق بها، متقيا حرارة الشمس بجريدة اقتناها منذ قليل من صبي يحمل حزمة من الجرائد المتنوعة. آلمه أن يراه يذرع الشوارع جيئة وذهابا وصوته يتلاشى بين العابرين وهو يغريهم بعناوين تلك الصحف وبعض أخبارها، لكنهم لا يلتفتون إليه. لقد ولى زمن الجرائد منذ غزا الفايسبوك العقول والبيوت، وتربع على عرش المعلومة بأخباره الزائفة والحقيقية. هو يعلم يقينا أنه لن يتجاوز في قراءة الجريدة حدود "حظك اليوم"، ليضحك بما يكتبه الضاحكون على عقول الكثيرين. أو سيطلع على بعض القضايا في صفحة "صدى المحاكم". فما أسرع انتشار الجرائم هذه الأيام، وما أرفق القضاة في أحكامهم. ومن تلك الصفحة اكتسب ثقافة قانونية مكنته من مجادلة بعض زملائه في العمل.
كانت تودّ أن تنتظره، لكنها تخشى العيون الكثيرة المبثوثة في كل مكان، في الجدران وفي جذوع الأشجار وفي القضبان الحديدية التي تحكم قبضتها على النوافذ وتحاصر الساكنين خلفها. حين رآها تمر أمامه وهو جالس على الطوار يدخن سيجارة ارتج فؤاده. هو يجلس في المكان المتفق عليه وفي الموعد المحدد. وهي بلباسها الذي ذكرت أنها ستحضر به. تردد في الدنو منها، خاف الخيبة والفضيحة. أومأت له بحركة من رأسها. رسالتها النصية التي رن هاتفه معلنا وصولها أذابت كل شك في نفسه. إنها هي. اتجه نحوها راغبا في الحديث إليها وإيقاف الزمن وتخليد لحظة التقائه بها. وحدقت فيه مسكونة برغبة احتضانه الدنو منه أكثر. التقت الرغبتان.
لم يرها من قبل اكتفى بسماع صوتها عبر كلماتها حين دعاها لصداقة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، فوافقت. أرسلت له رقم هاتفها. اندلعت أول شرارة حين تصافح صوتاهما في لحظة عابرة وخاطفة. نسي كل شيء وحفظ الأرقام الستة المكونة لرقم هاتفها. عدل يومها عن فكرة الاتصال بصديقه الذي ألف مجالسته في مثل تلك الساعة، وتهالك على كرسي في المقهى وظلا يتحادثان إلى أن غابت الشمس وراء الجبال معلنة عن زحف ليل موحش على قلبه. نهض متثاقلا وعاد إلى بيته وفي أحشائه يتخبط جنين يرفض المكوث أكثر في الظلام.
تباطأت متظاهرة بشد الإزار الذي غطى كل جسدها، وأسرع هو في مشيه، انعطفت، فانعطف وراءها. وجدها تنتظره. سارا معا جنبا إلى جنب. عيناها الشاردتان تبوحان بما في نفسها من عطب. الكمامة التي يضعها كل منهما تحجب ملامحه. فلم تظهر من وجهه سوى العينين شديدتيْ السواد. أما عيناها فقد صفا بياضهما صفاء عجيبا فصارتا نقيتين كعينيْ ديك، أُسبلت أهدابهما السوداء الطويلة فزادتهما إغراء وغواية. برز له حاجباها المقوسين بعناية فائقة، وهزه عطرها. أربكته هذه المرأة بعنفوانها ورأى فيها ما لم يره في غيرها من النساء. رأى أنوثة طاغية تكاد تتحول إلى فتنة
الطريق الممتدة الطويلة لا تنتهي، وهذه المرأة لا تتكلم. ما أروع صمت الأنثى، يزيد من جمالها ورقتها. شعرت نحوه بألفة عجيبة. تجرأت وأزاحت قليلا اللحاف الذي يحجب جسدها وشبكت أصابع يمناها المخضبة بالحناء في أصابع يسراه. أرادت أن تكون قريبة من قلبه حتى تفتح لنفسها طريقا تقودها إليه. أربكته جرأتها. لكنه تمالك لم يخط الخطوة التالية. اكتفى بمسايرتها في حركاتها رغم إشاراتها الواضحة.
انعطفت بهما الطريق، فتوقفت ودعته إلى العودة، أعلمته أنها دنت من الحي الذي تقيم فيه وهي تخاف أن يراهما أحد معارفها. لم يمد له يدها مودعا لأنه يكره لحظات الفراق.
تركها تعبر أمامه وقد أسكره عطرها. وظل يتبعها بنظراته الذاهلة. وقرر حين أفاق من شروده أن يتبعها ليعرف سكناها. عبرت الشارع ثم انعطفت يمينا. توارى خلف جذع شجرة سرو عملاقة وظل يراقبها. أمتعته هذه اللعبة. كلما تقدمت تقدم. وكلما التفتت توارى. أصر على مراقبتها داهمه إحساس غريب أنه يعرفها. لعن الكورونا وهذه الكمامة التي تمعن في إخفاء ملامحها وتساءل ما الذي منعها من أن تكشف له وجهها؟ ولماذا عاندها حين أرادت أن ترى وجهه وأصر على عدم نزع كمامته؟
دلفت زقاقا معتما، فتسمر وراء جدار. سارت غير بعيد وهي تقف أمام باب أحد المنازل. وها هي تفتح حقيبة يدها وتبحث داخلها بين الأشياء الكثيرة المحشورة فيها، وتخرج منها مفتاحا وتضعه في كوة الباب. تدير المفتاح وتدفع الدفة وتدلف. قبل أن تغلق الباب أزاحت اللحاف ونزعت الكمامة لتنكشف ملامحها كاملة. وقف مذهولا من هول الصدمة، لم يصدق ما رأى.
رن هاتفه، فتأمله، فإذا أرقام هاتفها تتراقص فوق الشاشة، فأخمد صوت جهازه وأعاده إلى جيبه ثم انعطف متجها نحو المقهى غير مصدق ما رأت عيناه.