كان كل شيء يتدهور ويتفتت ويتقلص تدريجياً، تراقبه الأعين ببرود ولا مبالاة، لاعتيادها عليه، لكن من يراقب جيداً سوق مريدي، يستطيع أن يخرجه من هذه القاعدة، فمع الشروع بالتدهور والتفتت والتقلص، كأن هذا السوق يتنامى ويتماسك ويتمدد، المساحة الأصلية للسوق اصبح يشغلها بائعون ومتبضعون يزدادون يوماً بعد آخر، إضافة إلى مساحات جديدة يحتلها هذا السوق يومياً، بحيث يغدو من الصعب تحديد نقطة بداية او نهاية له، وكل بائع مهما ابتعد بمسافة عن السوق فهو مراديّ الهوى، وعينه تراقب دائماً المسافة التي بينه والسوق، وكيف يظهر فيها نهار كل يوم جنبر جديد، حتى تتزاحم في النهاية فوق مساحات صغيرة متجاورة.
أحياء كاملة ابتلعها هذا السوق، وضمها إليه، فمن جنبر أو اثنين يتمركزان في بداية الفرع، وعيون أصحابها على القبلة المرادية، يمكن التنبؤ بأن بيتاً مجاوراً سيحوّل غرفه أو واحدة منها ـ تلك التي تطلّ على الشارع ـ إلى محل لبيع الملابس المستعملة، أو لتصليح أخشاب غرف النوم.. ثم تسري العدوى في البيوت المجاورة، ليفقد كل راكز راية لنهاية السوق شرعيته فيسلم الراية للذي وراءه، وهذا يسلمها بدوره بعد فترة للذي خلفه.. وهكذا.
وخشية أن تتحوّل مدينة الوردة اللامرئية بين ليلة وضحاها إلى مستعمرة مراد، دخلت الجرافات وصنعت لنفسها شوارع عبر أكداس البضائع والجنابر وعربات العصير واللبلبي والملابس والأحذية والكتب، ليفرّ أصحابها ويختلطون بالمتبضعين حاملين في أيديهم ما استطاعوا حمله من بضائعهم متقافزين على الساعات الجدارية المرصوفة على الأرض. وأجهزة التسجيل والمصابيح النفطية.. لينتهز السرّاق والنكرية هذه الفوضى فيكونون مع الباعة المنكوبين ايضاً، حاملين ما شاؤوا من أشياء لن يلاحقهم عليها أحد في كل الأحوال. لكن السوق يعود ليضمد جراحه، ويردم بصمت الشوارع التي خلّفتها الجرافات بجنابر جديدة حتى غدا من الصعب على سائقي السيارات أن يضمنوا خروجاً سريعاً لسياراتهم حين تدلف الشارع الإسفلتي الذي امتصه السوق وألحقه بممتلكاته، لذا فقد اجتهد بعض السواق ليغيروا من طريقهم باتجاه شوارع أخرى، أو حتى من خلال الأفرع بين البيوت، وهناك واحد أو اثنين من الركاب آثارهم هذا التحول الفجائي في طرق السيارات.. إذ كان وارداً أن يقول أحدهم للسائق: (نازل)، وحين تتوقف السيارة داخل الفرع يقفز هذا الراكب من باب السيارة إلى حوش بيته مملوءاً غبطة وسعادة. وفي البحث عن نقطة المركز في هذا السوق المترامي الأطراف كالاخطبوط ـ والذي يقال انه تأسس في بداية الستينيات بسبب جلوس الحاج مراد ببسطة المخضر التي له على أحد الأرصفة ـ هناك من يقول ان بائعات السمك بتحالفهن العتيد الذي امتد منذ أسلافهن (حيتان الأنهر والأهوار) في هذا المكان، يشكلن الوتد الثابت فيه، فما من جرافة استطاعت زحزحة طسوتهن قيد انملة، وتشكل المسافة غير المشغولة بينهن وباقي بائعي الأشياء المختلفة الأخرى، بسبب الزفر المتصاعد من أوانيهن وثيابهن وحتى السنتهن السليطة.. هالة من المهابة وحجاباً ينزههن عن التماهي مع باقي أجزاء السوق، غير أن بؤرة أخرى مضادة تماماً تنافسهن على هذه المركزية.. تتمثل ببائعي الأجهزة الكهربائية والمسجلات والتلفزيونات المستعملة وأشرطة الفيديو والكاسيت والبوسترات والعاب الأتاري والبلي ستيشن، غير انهم سرعان ما يتفرقون وتذهب ريحهم، هاربين بأجهزتهم حالما يشمّون رائحة جرافة تقترب.
لم يكن أحد من بائعي الشاي أو القماصل العسكرية والبساطيل والبيريات أو أصحاب جنابر السكائر المتنقلة المربوطة إلى رقابهم بشريط قماشي.. يؤمنون على أية حال بأن جسد الحاج مراد سيستمر في نموه دون إزعاج، ففي يوم شارف على الانتهاء.. وإذ انحدر قرص الشمس المحمر وراء العمارات والبيوت.. كانت هناك ضجة في أقصى أطراف السوق.. اعتقد الناس انها بسبب القبض على لص أو مزور وثائق دراسية ودفاتر تجنيد وجوازات وكان ذلك مألوفاً ويتكرر يومياً، لكن الضجة أدخلت إليها أناساً آخرين.. حتى اقتربت كثيراً من أواسط السوق، ليتكشف الأمر في النهاية عن جرّافة عملاقة صفراء اللون لم ير أحد مثيلاً لها من قبل، ترفع فكها المفغور إلى السماء بشراهة وعدوانية.. وهي تتقدم لتسحق أي شيء أمامها. تدارك البعيدون أمرهم وحزموا بضائعهم بسرعة هائلة، وتعاونوا على حمل مسقفاتهم المصنوعة من القضبان المعدنية الصدئة والبطانيات والقماش والحبال.. وتفاجأ آخرون بفك الجرافة العملاقة وهو يقضم بضائعهم.. ولولا يد أحدهم التي سحبتهم لكانوا بين العجلات المسننة الضخمة للجرافة، تتقدم الجرافة ويتكوّم المتراكضون فوق بعضهم البعض.. مختلطين بالملابس والخضار والشرابت والكتب وأواني الطبخ والصحف القديمة العائدة إلى العهد الملكي، والسجّاد القديم والمسابح وخرز الرزق والحظ.
كان عباس السمين الأصلع بشاربيه الكثين يحدق بعينين جاحظتين كعيني ثور يجسد الجرافة، الاصفر وهو يأتي على جنابر رفاقه ويسحبها أمامه بكيلته الكبيرة.. هزه أحدهم من كتفه.. وهو يحذره قائلاً.. ألا ترى.. ماذا بك.. اهرب، لكنه كان يعرف تماماً ما الذي يحدث في تلك اللحظة، نظر إلى جنبره الذي يبيع فيه العطور الشعبية التي يسحبها من قناني كبيرة بـ(سرنجة) من الـ(ستيل) ويملأ بها للزبائن ما يفضلونه من عطور داخل أنابيب صغيرة بسمك القلم وبطول الإصبع تنتهي بسدادة من المطاط.. تأمل جنبره وكأنما للمرّة الأخيرة.. ثم رجع ببصره مسلطاً إياه على الجسد الأصفر للوحش الهادر.. كأنما ذلك يكفي منه لحرق الجثة المعدنية المتقدمة وهي تدفع الجنابر اليائسة أمامها. في النهاية كتّفه أصدقاؤه بأيديهم وهو يصرخ لاعناً وشاتماً، طالباً منهم أن يتركوه، لكنهم سحبوه بعيداً عن الفك المسنن للجرافة الضخمة في اللحظة الأخيرة والتهمت جنبره وأحس وهم يسحلونه بعيداً بالروائح تلاحقه من الخلف متغيرة بين عطر وعطر.. معلنة تكسر زجاجاته الضخمة التي تمثل كل رأسماله. كان المتبضعون واقفين على مبعدة يراقبون بانذهال كبير، شاعرين مع أنفسهم بأنهم متورطون في القضية، وفي النهاية يجب أن يكونوا في صف أحد الطرفين، إما مع الجرافة، او الجنبر، غير أن حسم الموضوع بسرعة لم يكن سهلاً لديهم، صرخ عباس وهو يرى جنبره يختلط مع الجنابر المأكولة.. وحاول اكثر من مرة الإفلات من قبضة الأذرع الرحيمة بحاله، صرخ موجهاً كلامه إلى الذين حوله: (والله أسافر..إذا تحطم جنبري..والله أسافر).
* * *
عند انتهاء النهار، وحين جمعت الجرافة العملاقة كل جنابر السوق على شكل هرم كبير من أسلاك الحديد والبطانيات وخوص وجريد النخل وأكياس الجنفاص المخاطة على قضبان معدنية نحيفة وصفائح جينكو وعشرات القطع القماشية التي حال لونها من الشمس، كان الجميع يرى مع عباس كيف ان قمة هذا الهرم كانت جنبرا لعطور العائد له، ولم يعرف أحد لماذا بدا الأمر مضحكاً أو مبهجاً، حيث اندفع هؤلاء المنكوبين يتلاغطون ضاحيكن.. مصفرين ومهللين.. لان جنبر عباس كان متربعاً على هذه الأنقاض.. سالماً كأنما يد رافعة وضعته فوق عرش الحطام هذا، صاح أحدهم (انظروا إلى جنبر عباس كأنه ملك) وقال آخر منفعلاً كأنه يهتف (انه ملك الجنابر).. وضحك آخرون لان عباس لن يسافر، كان يخالجهم هذا اليقين وهم يشاهدونه متهلل الوجه مذهولاً.. بعد أن ملأ صياحه ووعيده السوق بأكمله.
* * *
حين تكشف الصباح، اندفعت النساء من البيوت المجاورة تنوح وتخمش الخدود بجوار الأجساد الجنبرية الممضوغة، وبعض الرجال يتجولون بين الأنقاض.. بحثاً عن بقايا رمق لجنابرهم.. ولم يخرج المتبضعون للسوق احتراماً لقدسية اليوم الحزين، ووقف أحدهم على صفيحة ملقاة كان يستخدمها نهار البارحة أحد باعة الشاي ككرسي له.. ثم ألقى هذا الشخص خطبة قصيرة في ضحايا الجرافة العملاقة.. يذكرهم فيها بما كان يقوم به الحاج مراد في مثل هذه الظروف.
كان عباس الملك يراقب هادئاً من بعيد الحشد المأتمي، ثم يجول بنظره في ارض البارحة.. ويشاهد السيارات تمرق بيسر وسهولة عبر الشارع الإسفلتي قادمة وذاهبة فيغمض عينيه، ويستطيع لحظتها أن يتشمم بأنفه المدرب.. روائح رأسماله العطري، وهي تأتي من أرجاء الجسد المراديّ المسجّى.