مفهوم العلامة ـ جان ماري شايفر – ترجمة: مصطفى ناجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تعتبر العلامة بصفة عامة بمثابة المفهوم الأساسي للسيميوطيقا. وحسب دي سوسير، فهي أيضا عنصر أساسي ضمن اللسانيات، والسبب هو أننا " ما دمنا قد منحنا اللسانيات لأول مرة مكانة بين العلوم، فلأننا ربطناها بالسيميولوجيا" ولأن السيميولوجيا هي "العلم الذي يدرس العلامات ضمن الحياة الاجتماعية". عمليا، ومنذ تطور النحو التوليدي، لم تعد إشكالية العلامة تلعب إلا دورا هامشيا ضمن النظريات اللسانية بحصر المعنى. ونتيجة لذلك، تبدو الوضعية الحالية للنظريات السيميائية المستوحاة من اللسانيات ( كما هو الشأن خاصة بفرنسا ) مفارقة لأنها تتأسس على تصور للعلامة لم يعد يلعب أي دور حتى داخل المجال المعرفي الذي وضع لأجله أصلا. سنتناول هنا العلامة كمقولة سيميائية، أي كمفهوم مأخوذ من الدراسة العامة للمنظومات الرمزية. ومن هذا المنظور، فإن العلامة اللسانية ـ ومهما كانت منزلتها المركزية ضمن الأنشطة  السيميائية الإنسانية ـ ليست موضوعا يحظى بالامتياز. ليس فقط لأن الإنسان يستخدم منظومات سيميائية غير لفظية عديدة ( انظر مثلا إيكمان و فريزن 1969)، ولكن أيضا، وإن كان الإنسان يبدو بمثابة الحيوان الوحيد الذي طور اللغة، فإن القدرة السيميائية ليست حكرا على الإنسان : فمن النحل حتى كبار القردة، يعرف التواصل بين الأفراد عن طريق العلامات انتشارا واسعا داخل مملكة الحيوان.

تحديدات مفهومية

 لا يوجد حاليا توافق حول الوقائع القابلة لأن تحشر ضمن مفهوم العلامة ، وهو ما يكشف عن الصعوبات التي تواجهها السيميائيات حين تحاول تحديد حقل دراستها. هنا تبدو أربع نقط خلافية خاصة غنية بالنتائج:

أ) العلامة والتجلي الحسي: يمكن أن نحدد العلامة كعلاقة إحالة ( كما هو الشأن عند لوك ) ، أو بصورة أدق كعلاقة إحالة متحققة بواسطة حدث محسوس ( كما يرى القديس أوغسطين حيث يقول: " العلامة، عدا ما تدركه الحواس، شيء يستدعي من تلقاء نفسه إلى الذهن شيئا آخر". وفي الحالة الثانية، فإن الحالات الوجدانية (1) ( مثل المدركات، المعتقدات، الرغبات، الخ) ،  وبالرغم من كونها علاقة إحالة، فإنها ليست وقائع مدركة ( من طرف أشخاص آخرين)، ولن تدخل ضمن  مجال العلامة. وإذا اخترنا التعريف الأكثر اتساعا ـ والذي يعتبر أي واقعة س تدل على واقعة ص، بمثابة علامة ـ  يبقى من الضروري مع ذلك أن نميز في مرحلة ثانية بين العلامات  كحالات وجدانية ، وتلك التي تمثل التجلي المحسوس لهذه الحالات الوجدانية : يجب ألا نخلط بين الحالتين، على الأقل لأن الحالات الوجدانية ليست في متناول الغير إلا من خلال علامات محسوسة يجب تأويلها، بينما لسنا في حاجة إلى تأويل حالاتنا الوجدانية الخاصة. إن أغلب التصورات "السيميائية الموسعة" حول العلامة لا تعير اهتماما لهذا الاختلاف الحاسم.

ب) العلامة والقصد: هل يجب أن نقصر مفهوم العلامة على التجليات المحسوسة المرسلة عن قصد كعلاقة إحالة، وبالتالي كشيء ناتج عن نية تواصلية، أم نوسع مفهوم العلامة ليشمل أيضا تلك التي لا توجد كعلامات إلا على مستوى التنبيه (2) السيميائي ، أي كظواهر تأويلية؟ إن ما نسميه عادة "علامات" ( أعراض، الخ) ينتمي لهذه الفئة الثانية . ولا يوجد إجماع بشأن هذه القضية: إن بوسينس مثلا ( 1973) أو سيرج ( 1970) يرفضان الاعتراف بالمشيرات (3) الطبيعية كعلامات، على اعتبار أن وجود نية الدلالة عنصر ضروري في العلامة. وهناك آخرون مثل كريماس ( 1970)، الذي يسلم بوجود سيمياء للعالم الطبيعي، أو إيكو (1988) الذي يعود إلى التعريف التنبيهي الخالص للعلامة المقترح من طرف موريس ( "إن عنصرا ما لا يعتبر علامة إلا إذا تم تأويله كعلامة على شيء ما من طرف متلق يؤوله كذلك"، موريس (1938)،  إن كريماس و إيكو يعتبران أن علاقات الإحالة التي تتحقق على مستوى التنبيه، تنتمي بشكل مشروع لمجال العلامات. إن الظواهر المؤسسة كعلامات بواسطة تنبيه سيميائي ليست بالضرورة وقائع طبيعية، على الأقل إذا قبلنا أطروحة بارث (1964) القائلة : "إنه بمجرد وجود مجتمع، فإن كل فعل يتحول إلى علامة دالة على هذا الفعل" ( الأمر الذي يطرح مشكل رسم الحد الفاصل، داخل ركام العلامات ، بين العلامات المرسلة عن قصد، وتلك التي لا توجد إلا على مستوى التأويل). يبدو في جميع الأحوال أنه من الضروري أن نميز بوضوح بين العلامات المقصودة  والعلامات المنبهة ، لأن الصنفين يحيلان على علاقات سيميائية غير قابلة للتداخل. فعلا، رغم أن التنبيه يمثل شكلا من أشكال المقصدية ( ما دامت تؤسس لعلاقة إحالة) ، فإن  العلامة التنبيهية لا يتم إرسالها كعلامة. وهكذا فإن العرَض الطبي، كالزكام مثلا، ليس في ذاته علامة ، بل جزء من المرض أو نتيجة له: إن الزكام ليس علامة إلا بالنسبة للطبيب ، وذلك في حالة ما لم ير فيه الطبيب مجرد حدث بيولوجي ، ولكن مشيرا يدل على وقائع بيولوجية غير مرئية ( حساسية أو تعفن بكتيري مثلا). وفي حالة العلامة المقصودة ، على العكس من ذلك ، فإن إنتاج الظاهرة المادية يمثل مسبقا فعلا سيميائيا، بمعنى أنه يندرج ضمن منظور تواصلي.

ج) العلامة والاستدلالات المنطقية. تم الاعتقاد أحيانا بأن جذور السيميائيات توجد في المنطق القديم ومنطق القرون الوسطى ( كما يرى ديلي مثلا، 1988). ومهما يكن، فإن تأويل عمليات الاستدلال المنطقي كعلامات، يرجع إلى زمن بعيد، ما دام الرواقيون سبق أن حددوا العلامة كـ "حمل يتشكل من ربط سليم ودال على النتيجة". وفي ما بعد قرأ هوبز العلاقات المنطقية بين المقدمة والنتيجة من زاوية العلامة : " العلامة هي المقدمة الصريحة للنتيجة، أو هي على العكس من ذلك، نتيجة للمقدمة إذا تمت ملاحظة النتائج المتناظرة مسبقا، وكلما تمت ملاحظة هذه النتائج بكم أكبر، كلما كانت العلامة يقينية أكثر". ( ليفياتان ،). في زمرة بيرس، اقترح بعض السيميائيين المعاصرين بدورهم ( مثل إيكو 1988) أن تعاد ترجمة عمليات الاستدلال المنطقي من زاوية سيميائية: وهكذا، ففي حالة الاستنباط ، ستشكل المقدمة العلامة اليقينية ( "المقدمة البديهية" عند هوبز) الدالة على النتيجة، ما دامت تتضمنها على المستوى التحليلي؛ أما الاستقراء فيمكن اعتباره تأويلا لعرَض( حيث أن الحالة الخاصة ينظر إليها كعرَض للقسم الذي تم  تعميمه بواسطة الاستقراء) وإن أقسام هذا العرَض( أي مجموع التوكيدات اللاحقة) سيؤدي إلى تشكيل شفرة كفيلة بالمصادقة بشكل استرجاعي على عملية الاستدلال العرضي البدئي ( يصف هوبز نفس العلاقة بقوله إن النتيجة هنا علامة دالة على المقدمة).

د) العلامات وعمليات الإدراك. إن إدماج الإدراك ضمن حقل إشكالية العلامات يمكن أن  يجد تفسيره في خاصية القصد التي تسم عمليات الإدراك ( هوسرل 1922، سورل 1985): إن التجربة الإدراكية هي التي تفسر قضية ( الإحالة على شيء ما). إن محاولات ترجمة العمليات الإدراكية  كعلاقة سيميائية تستخدم عامة مفهوم الاستدلال الهش عند بيرس ( ويعني استدلالا افتراضيا مبنيا على مقدمات غير يقينية، وهي بالمناسبة مقدمات تتعلق بتجربة حسية): إن المنبهات الحسية غير المميزة تصبح علامات ( فتوحي بالتالي بما كان سببا في وجودها) ، وهي منبهات تتشكل من مقولات منظمة وفق نماذج تؤدي وظيفة شفرة سيميائية. إن بعض المفكرين ( خاصة إيكو 1988) يطابقون بدرجة ما بين هذه النماذج الحسية  وبين التقطيع اللساني للعالم. اختزال التحديدات الحسية إلى مقولات لسانية يبدو مع ذلك غير قابل للتلاؤم ليس فقط مع العمليات الإدراكية لدى الإنسان (تقطيع العالم لدى الإنسان ليس له دائما تقطيع مناسب في اللغة )، ولكن أيضا مع كون الحيوانات  تتوفر بدورها على قدرة على التعرف الحسي بشكل يفوق قدرات الإنسان، رغم أنها لا تتوفر على لغة. (لدى الحيوان تقطيع للعالم لكن دون لغة تترجم هذا التقطيع ) ، ( كمثال على ذلك القدرة البصرية للحمام).

بعض السمات الأساسية للعلامات

نظرا للتنوع الكبير في تصورات العلامة التي دافع عنها السيميائيون، ( والتي قد تستعصي على العد) ، يبدو من الصعب أن نجد لها نواة مركزية . لكن يمكن مع ذلك أن نبرز عدة نقط ذات أهمية مؤكدة لتحديد العمليات السيميائية :

أ) يميز أغلب المؤلفين بين ثلاثة أقطاب ضمن العلامة: العلامة باعتبارها حاملا ماديا، الشيء الذي تحيل عليه ( وقد يكون قسما فارغا) والمظهرالذي تتستر تحته الإحالة على هذا الشيء, وهناك تسميات مختلفة مقترحة لهذه الأقطاب (4). ويقال غالبا إن تصور سوسير للعلامة يميز بين قطبين فقط، الدال ، أي الظاهرة المادية، والمدلول ، أي التصور ، ولكن هذا راجع فقط لكون دي سوسير يتبنى منظورا داخليا خالصا لدى حديثه عن العلامة؛ لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بالوظيفة المرجعية، كما يتجلى من إلحاحه على ضرورة التمييز بين المدلول والمرجع. ورغم أن هذه المقولات لا تتطابق تماما ، فإنها مع ذلك تشترك في إلحاحها على ضرورة التمييز بين المعنى والمرجع: إن العلامة لا تحيل أبدا على موضوع ما بشكل مباشر، ولكن فقط من خلال مدلول ينتقي بعض سماته التي يفترض أنها مناسبة لعلاقة الإحالة المقصودة. أما التعليق المنهجي للوظيفة المرجعية من طرف سوسير، المبرر على مستوى التحليل الشكلي المحايث للغة، فلا يمكن الالتزام به على مستوى التحليل الشامل لمفهوم العلامة، حيث لا يمكن التغاضي عن وظيفة الممارسات السيميائية ، وهي تمكين الإنسان من التفاعل مع ما لا ينتمي لعالم العلامات.

ب) سيرا على نهج موريس ( 1938)، يتم التمييز عامة بين الأبعاد الدلالية ، التركيبية والتداولية للعلامة. الدلالي يهم العلاقة بين العلامات وما تدل عليه؛ والتركيبي يهم علاقة العلامات ببعضها؛  والتداولي يهم علاقة العلامات بمستعمليها ( تودوروف 1972). عمليا يشكل، يشكل مفهوم البعد الدلالي مجالا غامضا، لأنه قد يهم العلاقات بين الدال والمدلول (5)  ، أو العلاقات بين العلامة الكلية والمرجع (6) . من المنظور الوضعي لموريس، فإن هذا لا يؤدي إلى أي نتيجة ما دام يتناول التعيينات (7) كأقسام ( متعلقة بأشياء) و الإحالات (8) كعناصر ضمن هذه الأقسام ، مع العلم أن أحد هذه الأقسام قد لا يتضمن أي عنصر. ومع ذلك، فإن كثيرا من المؤلفين يوفقون بين التصنيفات المنطقية  لدى موريس والتمميزات اللسانية المقترحة من طرف سوسير، ويتناولون العلامة كوحدة بين الدال والمدلول، اللذين يفترض أن يشكلا نقيضا شاملا للمرجع كشيء خارجي تتم الإحالة عليه: إذا تبنينا هذا التصور، سنضطر طبعا للتمييز بين العلاقة الدلالية ( الموجودة داخل العلامة) والعلاقة المرجعية, هذا الغموض يعود إلى الظهور عند رسم حدود البعد الركيبي : ويمكن أن نقصد بهذا المصطلح دراسة تنسيق العلامات (مع بعضها) ، وذلك في مقابل الدراسة الدلالية التي قد تهم العلاقة بين العلامة وإحالاتها. وعلى العكس من ذلك، وفي إطار التمييز السوسيري، فإن مجال التحليل التركيبي يهم التنسيق بين الدوال .

أما دراسة البعد التداولي، فقد تطورت خاصة في ميدان العلامات اللسانية ، حيث تشكلت التداولية  كمجال معرفي مستقل.

ج )  حين نقوم بتعميمات غير محسوبة انطلاقا من اللغة ،  فإننا نعتقد غالبا أن العلامة لا توجد أبدا إلا كعنصر خلافي، وأنها  بالتالي لا توجد إلا كجزء من نسق. وهكذا فإننا نخلط غالبا بين مشكلتين. صحيح أن علامة ما، وما دامت تشير إلى فئة  ما "س" ( مجموع الاحتمالات التي تتحقق العلامة من خلالها)، فإنها تشير في نفس الوقت إلى عدم تحقق الجزء المناقض لهذه الفئة ( النقيض الذي يتشكل من مجموع الاحتمالات التي تنفيها العلامة). وهكذا فإن عكاز المكفوف يشير إلى حالة عدم الرؤية، وبالتالي يشير كذلك إلى عدم تحقق الحالة المناقضة ( الرؤية )؛ وبنفس الدرجة، فإن إثبات الحمل "أ" يستلزم أيضا إثبات عدم تحقق الحمل "لا أ". وبهذا المعنى،  فإن أي علامة تحمل سمة خلافية. وهكذا إذا كان نقيض الحمل "أ" في ذاته علامة، ونقصد الحمل "لا أ"، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لعكاز المكفوف: " إن شخصا يحمل عكازا أبيض وآخر لا يحمل هذا العكاز لا يرسلان إشارتين مختلفتين، فالحالة الثانية لا ترسل أي إشارة بكل بساطة". ( برييتو 1966). ورغم أن العلامة باعتبارها كذلك تمثل كيانا خلافيا، فليس من المستحيل منطقيا أن تشتغل خارج أي نسق، ما دامت الفئة المناقضة لها لا تمثل بدورها بالضرورة علامة. 

وفي المقابل، يكفي أن تمثل الفئة النقيضة بدورها علامة لكي نصبح أمام نسق، حتى ولو كان محدودا. يجب إذن أن نميز بين الشفرات ذات المقوم الوحيد ( كالذي يمثله عكاز المكفوف) والشفرات التي يغيب فيها إنتاج الإشارة فيشكل هذا الغياب بدوره رسالة. وكمثال على النسق الأدنى ( الذي يسميه برييتو  شفرة ذات الدال الفارغ) الشفرة التي تمثلها الراية على ظهر سفينة القيادة الحربية : فإذا كان وجود الراية إشارة إلى وجود القائد، فإن غيابها يعني أن القائد غير موجود على متن السفينة. وما دام المرسل في النسق ذي الدال الفارغ يرسل دائما إشارة معينة، فإن مثل هذه الأنساق لا تشتغل بشكل مناسب إلا في سياقات محددة بدقة عالية. وهذا يفسر ندرتها  النسبية بين الأنساق الرمزية التي طورها الإنسان: ففي أغلب الأنساق يشكل إنتاج العلامة وحده رسالة، وهو ما يعني أن علامة معينة لا تعتبر عنصرا خلافيا إلا من خلال تعارضها مع العلامات الأخرى داخل نفس النسق ( وليس تعارضها مع غيابها الخاص).

د ) بمجرد أن يتم تنظيم العلامات ضمن نسق، يمكننا أن نتحدث عن نظام استبدالي، أي عن تنسيق خلافي لقائمة الرموز القابلة للاستعمال، وهي القائمة التي تشكل محور الانتقاء: ويساعدنا النظام الاسبدالي على أن ندرك أن علامتين ما متشابهتان أو مختلفتان، أن إحداهما تتضمن أو تقصي الأخرى، إحداهما سابقة أو لاحقة للأخرى، الخ. يحيل بيرس على هذه الخاصية في العلامات بكلمة مؤول (9)  ، أو بعبارة "المعرفة الجانبية"؛ وفي حالة اللغة، فإنها تشكل جزءا مما يسميه سوسير القيمة ، ويسميه هيلمسليف شكل المحتوى، وسميه بينفنست التأويلية(10) ( تودورف 1972).

إن وجود نظام استبدالي لا يحتم بالضرورة وجود نظام تركيبي، أي إمكانية تنظيم العلامات ضمن متواليات بمساعدة قواعد التنسيق: إن الشفرة ذات الدال الفارغ التي تمثلها الراية على ظهر سفينة القيادة تتوفر على نظام استبدالي ( يمكن أن نختار بين دالين يحيلان على مدلولين مختلفين) ولكن ليس لها بعد تركيبي ( العلامات التي تشكل هذه الشفرة لا يمكن أن تركب مع بعضها). ولكن بمجرد أن تصل المعلومة المراد تبليغها درجة من التعقيد، فإن مبدأ الاقتصاد يفرض علينا اللجوء إلى نظام تركيبي يتيح عملية تفكيك للرسائل إلى وحدات أصغر. ويبين النسق الثنائي المستعمل في التشفير المعلوماتي أن مادة التعبير المكونة من عنصرين ( 0 و 1 ) تكفي لنظم عدد غير محدود من العلامات. أما اللغات الطبيعية فتتمكن من نظم كل الرسائل بواسطة حوالي عشرين حرفا فقط.

تصنيفات أنساق العلامات

هناك محاولات عديدة لتصنيف العلامات، تختلف في نفس الوقت من حيث امتداد المجال الذي تهتم بدراسته، ومن حيث مقياس التصنيف. وقد كشف إيكو ( 1988) وهو يحاول أن يعرض التصورات المختلفة للعلامة عن تسعة مبادئ للتصنيف: حسب مصدر العلامة، حسب وضعها الطبيعي أو المصطنع، حسب درجة خصوصيتها السيميائية ( التمييز بين العلامات الخالصة والعلامات الوظيفية، مثل أدوات الاستعمال) وحسب وضعها كعلامة مقصدية أم لا، حسب قناة الإرسال والجهاز المستقبل، حسب العلاقة التي تربط الدال بالمدلول، حسب قابلية العلامة لإعادة الإنتاج أم لا ، حسب نوع الصلة بين العلامة والمرجع، وأخيرا حسب السلوك الذي يولده لدى المتلقي. وكل هذه المعايير ليست على نفس الدرجة من الأهمية: وهكذا فإن التصنيفات على ضوء المصدر أو حسب قناة الإرسال لا يهمان إلا التجلي المادي للعلامة ( الدال بلغة سوسير)؛ التصنيفات حسب الطابع المصطنع أو الطبيعي والتصنيفات حسب الوضع المقصدي أو غير المقصدي تلتقي فيما بينها وتغتني إذا تم تعويضها بالتمييزات بين العلامات المقصدية (11) والعلامات التنبيهية (12) .  وبصفة أعم، يمكن أن نتساءل عما إذا كان تباين المعايير هو ما يعكس الطابع التوفيقي لمفهوم العلامة. ومهما يكن، فإننا سنحتفظ هنا بأربعة مقاييس تبدو دالة بشكل خاص:

أ) حسب قابلية العلامة للاشتقاق، يمكن أن نصنف العلامات إلى علامات ( أو منظومات علامات) قابلة لأن نميز ضمنها بين الجذر والمشتقات وعلامات لا يمكن بصددها هذا التمييز. الجذر يمكن تحديده كعنصر مطلق، أو كصنف تمثل مشتقاته حالات فردية لهذا الجذر: هكذا نميز، داخل مجال العلامات اللسانية، بين الجذر العام لكلمة "حصان" والمشتقات المتعددة والمتنوعة لكلمة حصان في الملفوظات الخاصة. يمكننا أن نسجل أن العدد الإجمالي للكلمات في ملفوظ معين يقدم لنا عدد العلامات المشتقة، بيما يقدم لنا مجموع الكلمات المختلفة عدد الكلمات الجذرية. ويتجلى التحليل الأكثر صرامة لهذا التمييز في نظرية التدوين(12) التي اقترحها ن. كودمان (1968)، رغم إعادة صياغتها ضمن إطار النظرية الاسمية التي جعلت كودمان يتخلى عن مفهومي الجذر والمشتق: فقد ميز بين الحروف(13) و العلامات (14)، حيث يحدد الحرف كفئة من العلامات ( التي تتحقق في شكل إصدارات(15) و تسجيلات)(16). وتمثل العلامات المختلفة نسخا لبعضها ( أكثر مما تمثل  تجسيدا لعنصر مطلق). وحسب كودمان، فإن أي نسق رمزي يؤدي إلى وجود مجموعة من العلامات التي تتصل بمجال من المرجعيات. ولكي يكون التمييز بين الأصل والتمظهرات واردا، يجب أن يتوفر النسق الرمزي على خطاطة تركيبية: ويجب أن تكون حروفه متمايزة ( وليكن الأمر متعلقا مثلا بعلامتين تمثلان تسجيلا لحرف معين، فيجب ألا يرتبط أي تسجيل منها بحرف لا يرتبط به التسجيل الآخر)، و متمفصلة ( وليكن مثلا زوج من الحروف، فيجب أن يكون ممكنا، في حالة العلامة التي لا تتصل بالحرفين كليهما، أن نقول إنها لا تنتمي إلى أحد هذين الحرفين أو لا تنتمي إلى الثاني). هاذان الشرطان يتحققان في اللغة اللفظية وفي التدوين الموسيقي؛ وفي المقابل، فإنهما لا يتحققان في علامات الفن التشكيلي حيث لا توجد إجراءات للتمييز الدقيق: ليس هناك إمكانية لنظم العناصر تركيبيا في الرسم. وحينما لا تتحقق هذه الشروط، يكون من المستحيل أن نقرر ما إذا كانت نسخا لبعضهما أم لا، وبالتالي هل تتعلقان أم لا بنفس الأصل: هنا نكون أمام اشتغال رمزي أوتوغرافي (17) ، بمعنى أننا أمام نسق يمثل فيه أي تحقق أصله الخاص بشكل ما. وفي حالة العكس، يكون النسق ألوغرافيا (18)  بمعنى أنه يقبل الاستنساخ، كما أن التمييز فيه  بين الأصل والتمظهرات يكون واردا.

ب) حسب صلة العلامة بمرجعها، يمكن أن نميز، كما فعل بيرس، بين الأيقون، المؤشر والرمز. يحيل الرمز على موضوعه بقوة قانون يضبط تأويل الرمز بالإحالة على الموضوع المقصود؛ ذلك هو شأن الكلمات في اللغة. والمؤشر هو علامة تحيل على الموضوع المقصود لأن له صلة فعلية بهذا الموضوع مثلما هو الشأن بالنسبة للعرض الدال على المرض، أو بالنسبة لانخفاض مقياس درجة الحرارة، أو لمروحة الطقس التي تشير لاتجاه الريح، أو للإشارة باليد في اتجاه معين، الخ. وفي مجال اللغة، فإن الموجهات، أي الكلمات مثل أنا، أنت، هنا، الآن، الخ، تتعلق  بالمؤشر، مع احتفاظها بطابع الرمز: إنها "رموز مؤشرة". وأخيرا، يمثل الأيقون علامة تحيل على موضوعها عن طريق خصائصها فقط: "إن أي شيء، أي خاصية، أو أي فرد موجود أو أي قانون، يمثل أيقونا لشيء ما ، شريطة أن يشبه هذا الشيء، وأن يستعمل كعلامة دالة عليه". ذلك هو الشأن مثلا بالنسبة للعينات، للمحاكاة الصوتية، للصور، الخ. ( تودوروف، 1972). تلتقي العلاقة الأيقونية جزئيا مع نوع الإحالة التي يسميها كودمان "تمثيلا توضيحيا" (19)، مع وجود فرق يتعلق بكون التمييز بين الدلالة المباشرة والتمثيل التوضيحي لا يتمثل في التعارض بين أنواع مختلفة من العلامات، ولكن بالتمييز بين أنواع من الإحالة قد توجد في أي نوع من العلامات.

ج) حسب نوع التمفصل، نميز بين شفرات دون تمفصل، شفرات ذات تمفصل أولي، شفرات ذات تمفصل ثان، وتمفصلات ذات تمفصل مزدوج. إن الشفرات ذات المقوم(20) الوحيد ( مثل عكاز الأعمى) هي شفرات دون تمفصل. وفي شفرة ذات تمفصل أولي، هناك تطابق أحادي متبادل بين تفكيك الدال وتفكيك المدلول: كذلك الشأن بالنسبة لنظام الأعداد العشرية. ولكن كثيرا من الأنظمة لا تحافظ على التطابق بين النظام الأحادي النظير أثناء تقطيع الدال وتقطيع المدلول. هنا نتحدث عن تمفصل ثان: إن المحور الاستبدالي للوحدات الدنيا في شكل التعبير لا يتطابق مع محور وحدات المدلولات الصغرى: كذلك الشأن بالنسبة للإشارات البحرية "بواسطة الدراعين" حيث تمثل الوضعيات المختلفة للدراعين "صورا" (بلاغية) (برييطو) لا تناسبها دلالات معينة ( فالوحدات الدلالية الصغرى تولد من توليف هذه الصور). يجب أن نسجل أن العلامة، في مثل هذه الأنساق، تكف عن أن تكون متمثلة في الوحدة السيميائية الصغرى. أما الشفرات ذات التمفصل المزدوج (مارتيني) فتمتلك تقطيعا مزدوجا، أحد التقطيعين يحافظ على التوازي بين شكل التعبير وشكل المحتوى، بينما الثاني يلغي هذا التوازي: ذلك هو شأن اللغات الطبيعية حيث يوجد في نفس الوقت تمفصل أول يحافظ على التوازي بين وجهي العلامة ( إنه مثلا حال تقطيع الكلمات إلى مونيمات) وتمفصل ثان يلغي هذا التوازي ( كما هو الشأن في تقطيع المونيمات إلى فونيمات).

د) إن التحديد المتبادل بين الدال والمدلول يمكن أن يكون أكثر أو أقل قوة. هكذا نميز عادة في اللغات الطبيعية بين العلامات الأحادية الدلالة، العلامات المتعددة الدلالة ( كالجناسات) والعلامات الغامضة (كالصور البلاغية). وهناك تمييز أكثر أهمية لأنه أكثر تعميما، وهو التمييز الذي اقترحه نيلسون كودمان بين الأنساق الرمزية ذات النسق الاصطلاحي والأنساق التي لا تتوفر على مثل هذا النسق. إن النسق الرمزي لا يقتضي فقط وجود خطاطة تركيبية، ولكن أيضا علاقات دلالية واضحة ( علاقات تطابق ثابتة بين التوازي التركيبي والتوازي الدلالي) تتيح أقساما من التطابق (الدلالي) منفصلة ومتمايزة في نفس الوقت بصورة تامة. إن اللغات الطبيعية، ورغم توفرها على خطاطات تركيبية ، لا تمثل أنساقا اصطلاحية: إن العلامات اللفظية، حين يراد تأويلها، تبدو غامضة وغير مستقلة ( إن معنى كثير من المفردات يتداخل جزئيا ). وهنا تتعارض اللغة مع شفرة الكتابة الموسيقية التي تلبي شروط نسق اصطلاحي حقيقي، شريطة أن نتفق مع كودمان على أن العلاقات الدلالية السليمة هي التي تربط بين النوتة الموسيقية وتأويلها، وليس تلك التي تربط العمل الموسيقي ( مقروءا كنوتة أو مؤولا) بدلالته الممكنة ( بالمعنى المبتذل للكلمة، كما حين نتحدث عما تدل عليه الموسيقى المبرمجة).

وقد ذكر تودوروف ( 1978) أن العلاقة الدلالية ليست ثابتة داخل نسق رمزي معين: فما عدا  الدلالة المباشرة ، يصبح كل نسق رمزي مستخدم قابلا لأن يخلق معاني ثانوية أو غير مباشرة يتم استحضارها عن طريق التداعي. هذه الوقائع ـ التي يشكل "المعنى المجازي" و "المعنى الاستعاري" المدروسين من طرف الهرمنوطيقا التقليدية ـ هذه الوقائع التي اقترح لها تودروف مصطلح الرمزية، لا تنتمي للفهم الدلالي للغة، بل تشكل جزءا من التأويل السيميائي للخطاب، وهو تأويل ينظر إليه كشكل من أشكال الاستدلال: "إن نصا أو خطابا يصبح رمزيا حين نكتشف له، بواسطة عملية تأويلية، معنى غير مباشر". إن قلب المصطلحات الذي اقترحه تودروف ـ والذي يعنى فصل السيمياء عن دراسة العلامات ، والنظر إليها، على العكس من ذلك، كتأويل رمزي ـ لم يفلح في فرض نفسه، ولكن تحليله يشير بدقة إلى ضرورة التمييز بين الأشكال المختلفة للعلاقات الدالة، والتي تهدد تسميتها المشتركة بـ "العلامة"  بجعلها مترادفة.

إن التمييزات والتصنيفات التي قمنا باستعراضها الآن بعيدة عن تؤدي إلى ولادة نظرية موحدة حول العلامة. فحتى الآن ـ ورغم محاولات بيرس وموريس، إيكو وآخرين ـ فإن مفهوم العلامة نفسه ليس مفهوما إجرائيا خارج مجال تحليل أولي: فإما أن يتم تحديدها بشكل يجعلها ذات وظيفة تمييزية إجرائية معرفيا، لكن في هذه الحالة يمكن تعويضها بمفاهيم أكثر خصوصية ( وهو ربما ما يفسر أنها لم تعد قوية الحضور في ميدان اللسانيات)؛ وإما أن نمنحها امتدادا أكثر اتساعا، آخذين بعين الاعتبار كل الوقائع القابلة للتأويل كعلاقات إحالة، ولكنها تصبح في هذه الحالة غير مميزة بدقة مما يجعل فائدتها التحليلية محدودة جدا. هذا المشكل الأخير هو الذي نجده مثلا حين نوسع مفهوم العلامة ليشمل العلاقات المنطقية والعمليات الإدراكية. وهكذا، حتى وإن أردنا تناول عمليات الاستدلال المنطقي والإدراكات كعمليات تشغيل للعلامات، فإنه يبقى علينا أن نميز بين ثلاثة أشكال لمعالجة المعلومة ـ الاستدلال ( المعرفي)، الفهم ( فهم المعنى) والتحديد ( الإدراك) ـ حيث يشير كل شيء إلى أن هذه الأشكال تخضع لصيغ اشتغال مختلفة. إن تمييز تودروف بين الفهم الدلالي والتأويل يؤكد نفس المشكل، ما دام التأويل الرمزي ذا طبيعة استدلالية ويشتغل إذن بشكل مخالف للفهم الدلالي. وبنفس الشكل، فإن إدماج اللغات الطبيعية ضمن نظرية موحدة للعلامة قد كان دائما مصدرا للعديد من المشاكل: فإما أن الدارسين حاولوا أن يجدوا في السمات الخاصة باللغة قوانين كونية تهم العلاقة السيميائية، مما أدى بشكل عام إلى إغفال كيفيات الاشتغال الخاصة ببقية الأنساق السيميائية ؛ وإما أنه تم ، على العكس من ذلك تعويم تحليل اللغات الطبيعية ضمن نظرية عامة للعلامات، وهو بالتالي أمر لا يمكن من الكشف عن بعض السمات الأكثر وضوحا في اللغات الطبيعية، مثل خاصيتها الانعكاسية ووظيفتها كأداة تأويل عليا بالنسبة للأنساق الرمزية الأخرى، أي لكوننا نستطيع استخدام اللغة للحديث عن الكلمات نفسها التي تكون اللغة، وأكثر من ذلك ، للحديث عن أنساق أخرى من العلامات. يجب ألا نستخلص من ذلك أن مفهوم العلامة مفهوم ثانوي زائد. فهو، وإن لم يمكن من تحديد حقل موضوعي موحد، فإنه يساعد على الأقل على تحديد خليط من الأنشطة الإنسانية المتعلقة بــ "تشغيل العلامات"، حتى وإن كانت إمكانية اختزالها في مفهوم أساسي مشترك لازالت، على نطاق واسع، مجرد افتراض.

Jean-Marie Schaeffer, Le Signe, in Nouveau dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Éditions du Seuil, 1972, 1995, pp. 253-265.

هوامش:

أسماء الأعلام:

فريزن Friesen

بويسينس Buyssens   

سيرج Serge  

 كريماس Greimas 

موريس Morris  

بارث Barthes

هوبز Hobbes

ليفياتان Leviathan

بيرس Peirce

مشير indice

ديلي Deely

سورل Searle

برييطو Prieto

هيلمسليف  Hjelmslev

تودورف Todorov

إيكو  Eco 

ن. كودمان Nelson Goodman

مارتيني Martinet

 

هوامش ببعض المصطلحات والمفاهيم

(1 ) états intentionnels

(2) attention

(3) indices       

(4) يميز Frege بين  Zeichen ، Sinn و Bedeutung ؛ ويميز Peirce بين representamen ، interpretant و object ؛ ويميز Morris بين sign vehicle ، designatum و denotatum ؛ ويميز كل من Ogden و Richards بين symbol ، thought و referent .

( 5) designatum

(6)  denotatum

(7) designata

(8) denotata

(9) interprétant

(10) interprétance

(11)  intentionnalité

(12) attentionnalité 

يفهم من السياق أن العلامات المقصدية هي التي يوجد خلفها مرسل يتوفر على نية تبليغ رسالة معينة إلى متلق معين، بينما العلامات التنبيهية ينتفي فيها المرسل الذي يحركه قصد معين ورسالة معينة يريد تبليغها.

إن أنين المريض يمثل رسالة مقصدية يهدف من خلالها المشتكي إلى تنبيه المحيطين به إلى ألمه، أما درجة حرارة جسمه فتنتفي فيها المقصدية لآنها ليست أمرا إراديا من المريض، لكنها تثير انتباه الطبيب فيفهم منها أن الجسم يعاني من خلل ما ، ( المترجم ).

(13) théorie de la notation

(14) caractère

(15) marque

(16) émissions

(17) inscriptions

(18) autographique

(19) allographique

(20) exemplification

(21)   sème

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟