لقد كان ذلك الأديب الروسي مصيبا حين قال "كلنا خرجنا من معطف غوغول"، فالقصة بحق تؤسس للأدب الروسي الواقعي وتصف حالة أغلب معدمي روسيا وربما العالم. تنطلق قصة المعطف من وصف لإدارات روسيا القيصرية وهالة القداسة التي تحيط بها، رغم حقارة أغلب موظفيها. ثم ينتقل غوغول -بعد تقديم المكان والزمان- إلى تقديم الشخصية الرئيسة، أو البطل الإشكالي بتعبير باختين. إن الوصف المسهب المعروف في الأدب الواقعي، لمولد البطل، يقدمه إلينا وكأننا نعرفه منذ مدة، وكأننا صادفناه في حياتنا، أو هو نحن متجسدا على الورق، وهو بذلك يخلق حالة من التماهي بين القارئ والبطل. بعدها نجد أن أكاكي يعمل كناسخ حقير داخل إحدى الإدارات المقدسة، ويصبح أضحوكة لدى زملائه دون أن يملك جرأة الرد عليهم أو إيقافهم. هنا يصف غوغول أخلاق الموظفين الصالحين الذين يتنمرون على أكاكي دائما بقوله "كم هو ضئيل مقدار الإنسانية في قلوب البشر، كم من نوازع قاسية فيما يعقده من صلات أولئك الذين تلقوا التربية، في النفس ذاتها نفس من يعتد به مواطنا صالحا شريفا". فرغم تفاني أكاكي في عمله الذي يجيده أفضل من غيره، وقيامه به بشغف منقطع النظير، لم يشفع له هذا التفاني ولا هذا الشغف لدى من هم في مستواه ولا من هم فوقه لتقديره حق قدره.
ومن الأشياء التي ساهمت أكثر في احتقار أكاكي بهذا الشكل المفرط، كان مظهر ثيابه الرث، فالمعطف الوحيد الذي يملكه كان قد بُلِيَّ من كثرة استعماله، ومن كثرة ترقيعه بخرق مأخوذة من ياقته، أصبح يحس بوخز برد روسيا الصقيعي في ظهره.
إن رواية المعطف حبلى بعدة ثيمات فلسفية، حاول غوغول استغلالها من أجل نقد المجتمع الروسي الإقطاعي البيروقراطي الذي كان يرزح تحت نير السلطة القيصرية التي لا ترحم، وسأحاول في هذا العرض الموجز إبراز هذه الثيمات من خلال:
الوجود والعزلة: إذ تعكس شخصية أكاكي أكاكييفيتش واقع العديد من الأفراد الذين يعانون من الوحدة والعزلة في المجتمع.
القيمة والكرامة الإنسانية: من خلال معاناة أكاكي ورغبته البسيطة في الحصول على معطف جديد.
البيروقراطية واللاإنسانية: تصف الرواية البيروقراطية الروسية في القرن التاسع عشر وكيفية تعاطيها غير الإنساني مع الأفراد.
النهاية والموت: نهاية الرواية تحمل طابعًا مأساويًا ومفاجئًا.
الوجود والعزلة:
يُصوَّر الشعور بالوجود والانعزال من خلال شخصية أكاكي أكاكييفيتش، الموظف البسيط الذي يعيش حياة روتينية ومملة في مجتمع متبلد الأحاسيس. فهو يعيش حياة منعزلة تماماً؛ لأنه موظف متواضع في مكتب حكومي مقدس، لا يحظى بأي تقدير أو احترام من زملائه، ويعيش في فقر وظروف بائسة، ولديه القليل من التفاعل الاجتماعي. حتى في العمل، يتم تجاهله والسخرية منه. وهذا الانعزال يؤثر على نفسيته ويجعله يشعر بعدم الأهمية والبعد التام عن المجتمع.
يبدأ الشعور بالوجود عند أكاكي عندما يقرر الحصول على معطف جديد ليواجه به برد الشتاء القارس. فيصبح المعطف رمزاً للهدف والأمل في حياته. وحينما يحصل أخيرًا على هذا المعطف الجديد، يشعر أكاكي بنوع من الاعتراف والقيمة الذاتية. كذلك يلاحظ الآخرون وجوده لأول مرة، ويشعر بالفخر والسعادة بامتلاكه لهذا المعطف. مع ذلك، لم يدم شعور أكاكي بالوجود طويلاً؛ إذ تتم سرقة المعطف منه، مما يعيده إلى حالة من العزلة واليأس أقوى مما كان يعيش فيهما من قبل. إن هذه التجربة تعكس الصراع الداخلي بين رغبته في الاندماج والتقدير من الآخرين وشعوره الدائم بالعزلة وعدم الأهمية.
القيمة والكرامة الإنسانية:
يصبح المعطف رمزًا قويًا للقيمة والكرامة الإنسانية من خلال تأثيره العميق على حياة شخصية أكاكي أكاكييفيتش؛ من خلال:
الاحتياج الشخصي: فأكاكي أكاكييفيتش يعيش حياة مليئة بالفقر والعزلة. معطفه القديم والممزق يحيل إلى وضعه الاجتماعي المتدني وإحساسه بعدم القيمة. عندما يدرك أكاكي أنه يحتاج إلى معطف جديد ليحميه من برد الشتاء، يتحول هذا الاحتياج إلى هدف وحلم يملأ حياته بالأمل والتطلع إلى غذ مشرق؟
التغيير في النظرة الشخصية والمجتمعية: بعد حصول أكاكي على المعطف الجديد، يتغير شعوره بنفسه تمامًا. فهو يشعر بالثقة والفخر، ويبدأ الآخرون في ملاحظته ومعاملته باحترام أكبر. هذا التغيير يشير إلى كيف أن تحسين المظهر الخارجي يؤدي إلى رفع المكانة الاجتماعية والنفسية.
المعطف كرمز للكرامة والأمل: المعطف الجديد يرمز إلى ما يمكن أن تمنحه الأشياء البسيطة من شعور بالكرامة، فالبطل يجد فيه معنى لحياته ويشعر بتحقيق ذاته.
السرقة والانعكاس: عندما تتم سرقة المعطف من أكاكي، تعود القصة إلى نقطة الصفر، ويشعر بطلنا بفقدان الكرامة والأمل مجددًا. يتجسد الرمز هنا في كيفية تلاشي القيمة الإنسانية والكرامة بغياب ما كان يوفر له الشعور بالأمان والتقدير.
البيروقراطية واللاإنسانية
تلعب البيروقراطية دورًا محوريًا في تشكيل شخصية أكاكي أكاكييفيتش وتطور الأحداث. يمكننا تحليل تأثير البيروقراطية على أكاكي وعلى الرواية بشكل أعمق من عدة جوانب:
- اللامبالاة والإهمال:
- أكاكي يعمل كموظف في نظام بيروقراطي يتسم بالرتابة والروتين. يعامل من قبل زملائه والرؤساء بلا مبالاة واحتقار، مما يعزز شعوره بالعزلة واحتقاره لذاته.
- فقدان الكرامة:
- البيروقراطية تساهم في تدهور كرامة أكاكي. لا يُعتبر إنسانا ذو احتياجات، بل جزءًا حقيرا غير مهم في آلة إنتاجية ضخمة. هذا الفقدان للشعور بالكرامة يظهر بوضوح عندما يتم تجاهل معاناته وحاجته الملحة لمعطف جديد.
- الروتين القاتل:
- الروتين اليومي والمهام المتكررة التي يقوم بها أكاكي تعكس الجو القاتم للنظام البيروقراطي. هذا الروتين يقيد خياله ويقتله إبداعه، مما يجعله يعيش حياة بلا معنى مليئة بالرتابة والملل.
إن استخدام البيروقراطية هنا كرمز للتجريد من الإنسانية والكرامة في المجتمع. من خلال معاناة أكاكي وتعامل النظام البيروقراطي معه، يُظهر كيف يمكن للنظام الاجتماعي أن يكون غير مبالٍ وقاسيًا تجاه الأفراد. إن الرواية تدعو إلى إعادة التفكير في كيفية معاملة الأشخاص وضرورة الحفاظ على الإنسانية والرحمة.
الموت والنهاية
إن ثيمة الموت في رواية "المعطف" لنيكولاي غوغول تحمل دلالات فلسفية عميقة وتعزز الرسائل التي يسعى الكاتب إلى إيصالها بطرق عدة. فموت أكاكي يعكس الهشاشة البالغة للوجود الإنساني. رغم كل ما عاناه وتحمله، نجد أن فقدانه لمعطفه -الذي كان يمثل الأمل والقيمة الإنسانية بالنسبة له- يقوده إلى موت مفاجئ، ونهاية مأساوية كانت تتأجل بواسطة الأمل في الحصول على تقدير من خلال هذا المعطف الجديد. ففي النهاية أكاكي يموت دون أن يحصل على أي دعم أو تعاطف من المجتمع أو السلطات، مما يبرز النقد الحاد لغوغول تجاه القسوة والتعامل غير الإنساني.
يظهر أكاكي في النهاية كشبح يبحث عن معطفه المسروق. إن هذا العنصر الفانتازي يستخدمه غوغول كنوع من العدالة الشعرية، حيث يحصل أكاكي في موته على الاعتراف والتقدير الذي لم يحصل عليه في حياته. وهنا يشير الكاتب إلى أن العدل قد يتحقق في النهاية بطرق غير متوقعة، حتى بعد الموت.
في الختام يمكن القول إن غوغول أبرز ضرورة التعاطف الإنساني في مجتمع تهيمن عليه البيروقراطية واللامبالاة. وتطرح روايته سؤالاً عميقًا حول قيمة الفرد والكرامة الإنسانية، وكيف يمكن أن يؤثر الموت على تمثلنا لهذه المفاهيم.
