" الانسان هو خاتم التراكيب وأخص أنواع الحيوان. وهو أبعد الإسناد عن حضرة الوحدة في الصورة وأقربها اليها في المعنى. وهو مركز العالم والعالم يخرج منه."[1]
يكد الانسان طول حياته من أجل اثبات ذاته ويعيش حالة المحو والجحود ويجد من أجل طلب الصحو والشهود والحال التي يعيشها هي منتقلة بين نهاية الماضي وبداية المستقبل حيث يرد المعنى من دون تصنع ولا اكتساب وآنيته هي تحقق وجوده العيني من حيث مرتبته الذاتية وحريته هي خروج عن رق الكائنات والقطع مع جميع العلائق والأغيار وحضور مطلق لدى الذات.
الذات هو منقول عن مؤنث "ذو" وتعني الماهية والحقيقة والصاحب والنفس والشيء والعين ، وتفيد في اللغة ما يصلح أن يعلم ويخبر عنه، وتطلق في الاصطلاح على ما يقوم بنفسه. ولفظ الذات يطلق على المشار اليه من حيث جوهره لا أعراضه وتدل على الأمر الذي تستند اليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها. ولكن الذات على التمام هي العلة الأولى والوجود المطلق والمفهوم الحق. وتطلق الذات على الله وعلى الانسان وعلى الأشياء ولكن وفق مراتب ودرجات ومقامات.
ان أصل لفظ انسان هو افعلان من النسيان لأنه عهد اليه فنسى وتركيبه يدخل فيه كل ما في الكون بأسره ولذك سمي بالمختصر الشريف
الذي يجمه في تركيبه بين الحق والخلق ونعته البعض بالعالم الأصغر مقابل العالم الأكبر، ولكنه يتكون من وحدة متصلة الأطراف ومسخرة لها الجوانب الأخرى تتصل فيها الروح بالبدن. واذا كانت الروح تختص في ادراك المعاني والجسم في ادراك الصور الحسية فإن الأولى هي معنية بتدبير الطرف الثاني. في ذلك أقر بعض الحكماء أن الانسان هو روح العالم وعلته وسببه وأفلاك مقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته.
"الانسان هو الحيوان العاقل...هو الجامع لجميع العوالم الالهية والكونية الكلية والجزئية وهو كتاب جامع للكتب الالهية والكونية. فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب. ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والاثبات، فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها الا المطهرون من الحجب الظلمانية، فنسبة العقل الأول الى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الانساني الى البدن وقواه، وأن النفس الكلية قلب العالم الكبير، كما أن النفس الناطقة قلب الانسان ولذلك سمي العالم بالإنسان الكبير."[2]
ذُكِر لفظ الانسان في القرآن خمس وستين مرة ولذلك فهو لفظ قرآني "يدور معظم استعمالاته على تأكيد أنه مخلوق خلقا بيولوجيا وأنه نفسيا هش، ضعيف عجول هلوع. يقبل التحدي ممن يتحداه، مسؤول عن افعاله، يكد ويكدح ثم يتحول الى انسان صلب...فالإنسان تحد ومقاومة ونصر وغلبة...والانسان هو الوحيد الحامل للأديان. وهو على وزن القرآن، الرحمن، الديان، اسم فاعل أي حركة ونشاط."[3]
أما الأصل الاشتقاقي للإنسان فهو الإنس وهو مخالف للجان والأنس بمعنى الاستئناس والمؤانسة وهو ضد الوحشة ومشهود له بالمدنية والاجتماع وجمال الحق والجلال وملازمة الهيبة والصحو والرجاء.
من المعلوم أيضا أن الانسان كائن آدمي وآدم من جهة كونه فرد هو خليفة الله وروح العالم وأبو البشرية الذي خلقه الله من طين وكرمه واصطفاه على العالمين، ومن جهة كونه ذات هو أصل وحدة الوجود والحقيقة الانسانية ،وهو الانسان من حيث هو انسان والنوع البشري في أرقى تجلياته وأبهى صوره.
" الانسان نصفان. نصفه خَلق، والثاني خُلق. فإذا صلح النصفان كمل بما هو انسان. وهو مقدمة للتوحيد وسعي مستمر نحو الكمال. وسبل مواجهة أزمة العصر موجهة الى الانسان."[4]
لكن يمكن للإنسان عن طريق الكدح أن يرتقي الانسان الى مرتبة الانسان الكامل، فكيف ذلك؟
هناك فرق بين الانسان الحيواني والانسان الكامل وبين الانسان الواقعي والانسان المثالي وبين الانسان القطب والانسان الالهي ويمكن أن يرتقي الأول الى الثاني ولكن يمكن أيضا ان ينزل الانسان الواقعي الانسان المثالي من السماء الى الأرض ومن عالم الامكان الى دنيا التحقيق.
من هذا المنطلق يصير الانسان الكامل البرزخ بين الأيس واليس والواسطة بين الحق والخلق وهو الانسان الذي يماثل الحق من جهة المعرفة ولا من جهة الوجود. ويوصف الانسان الكامل بكونه الجامع لكل العوالم الجزئية والكلية.
زد على ذلك الانسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود، والمقرب من الحق بالأعمال الجليلة ويتفوق الانسان الكامل على الانسان الحيوان الذي يقتصر علمه على الصنائع بالفكر والروية والاستنباط بما يحمله من حقيقة كلية جامعة حصلت له عن ولاية وحكمة واتقان فكر صحيح.
"الكمال مقولة انسانية وهو أيضا مقولة وجودية والوجود يتجه نحو الكمال...فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي يتوق نحو الكمال. والكمال مطلب انساني والانسان الكامل مثل أعلى."[5]
صفوة القول أن الانسان لا يصير انسانا كاملا الا بالرياضة والمجاهدة والتسلح بالهمة والنية والارادة والعزم وتطلق الهمة على من جرد قلبه للمنى وصدقت ارادته وكان الهامه صافيا وانتباهه مستيقظا.
ان الهمة هي توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية الى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره. والهمة الحقيقية هي أعز وأجل ما وضعه الله في الانسان وتتمثل صفاء الالهام وجمع الصفات ووحدة الكثرة ولا تصدق الهمة الا اذا تحولت حركات الانسان وسكناته الى تسبيح وشكر للحق وحصل قطع اليقين بحصول الأمر المطلوب على التعيين.
" لا يوجد فصل بين الحقيقة المحمدية والانسان الكامل كلاهما تجليات للذات."[6]
على هذا النحو ان الحقيقة المحمدية هي أولا النور الذي خلقه قبل كل شيء وخلق منه كل شيء وتجلى في آدم واستمر في سائر الأنبياء وتحولت الى مصدر العلم ومنبعه وتجمع في نفسها كل حقائق الوجود.
الحقيقة المحمدية هي " الذات مع التعيين الأول وهو الاسم الأعظم"[7].
من ناحية ثانية تعبر الكلمة عن الحقيقة المحمدية وهي مبدا التكوين والتدبير والحياة والحقيقة الانسانية وعين جلاء مرآة العالم والنشء الدائم الأبدي وتساوي الدرة البيضاء كقوة عاقلة سارية في جميع أنحاء الكون، لذلك من حاز على الكلمة امتلك علم التفصيل والقلم الأعلى ومشكاة خاتم الرسل وفهم الكتاب.
لكن هل يؤدي بنا هذا الاقتران بين الانسان الكامل والحقيقة المحمدية والذات الالهية الى القول:" نشأ الانسان بعد الخلق طبيعيا وقبل الخلق معنويا. فقد خلق الانسان بعد تمهيد مملكته له. جعله خليفة في أرضه ونائبا عنه فيها. وجعله نسخة من العالم كله. الانسان هو الكلمة الجامعة للعالم، المختصر الشريف. حقائق العالم كلها فيه. وأسرار الكون في نشأة الانسان."[8]؟ وألا يوجد تناقض بين انتماء الانسان الى مملكة الحرية من جهة وانتمائه الى مملكة الحيوانية من جهة أخرى؟ وهل يمنع هذا التناقض من تحقيق الآدمية؟ وما السبيل الى تخطي مسببات ارتكاب النقائص والمفاسد وتسديد الأفعال نحو جلب المنافع والخيرات؟
المراجع:
حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف، دار المدار، بيروت ، الطبعة الأولى 2009.
الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
كاتب فلسفي
[1] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف، دار المدار، بيروت ، الطبعة الأولى 2009.ص.576.
[2] الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000. ص.ص.41-42.
[3] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، ص. ص. 561- 562
[4] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء،.ص،563.
[5] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، ص. 567.
[6] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، ص.576.
[7] الشريف الجرجاني ، التعريفات، ص.95.
[8] حسن حنفي، من الفناء الى البقاء، ص.603.