إن هبة الموجود من قبل الوجود كأساس محايث ليست سوى الجانب الجوهري من هبة أكثر أصالة، متعالية وحرة بالمطلق، من ذاك الذي يبقى "غير مسمى"، إذن فهذه مصداقية التأويل المصوغ هنا وفقا لبرتراند ريو تجد سندها في التحليل الذي أجرته مارلين زارادر حول الدين (يتسكين الياء) غير المفكر فيه عند هايدجر. هل من الوهم إذا شعرنا بأن عمل هايدجر تخترقه شحنة صوفية لا يمكن إنكارها؟ القاموس الذي يستخدمه، المليئ بالأصداء الدينية، هل يمكنه الارتباط بالوجود المحدود والتاريخي دون أن يخفي الأخير ما وراء كل التاريخ؟ وعندما يعتبر الإنسان حارس أو انفراجة الوجود، الذي أسندت إليه الاستجابة إلى هذه الهبة الحرة للوجود، الذي لا يوجد منفتحا إلا في التعرض للوجود، الذي يجب أن يرحب بفرح وامتنان بنعمة الوجود، كيف لا يمكننا استحضار الرجل المتدين الذي وضع نفسه تحت تصرف إلهه؟ ومع ذلك، إذا عدنا إلى تاريخ الفكر الأوروبي، نجد حينها أن السؤال عن الوجود، من حيث هو سؤال عن وجود الموجود، يطرح بصيغتين. يقتصي أولاً مع أرسطو: ما هو بشكل عام الموجود من حيث هو موجود؟ الاعتبارات المتعلقة بهذا السؤال تنتظم ضمن نطاق تاريخ الفلسفة تحت عنوان: الأنطولوجيا.
لكن السؤال: "ما هو الوجود؟" يقتضي أيضا: ما هو الموجود بمعنى الموجود الأسمى وكيف هو موجود؟ وهذا الموجود بمعنى الموجود الأسمى، نسميه: "الوجود" في حقيقته الخالصة. هكذا تفكر الميتافيزيقا في الموجود ضمن كينونته. تجد هذا الموجود في الإلهي، الذي يكمن في ذاته، اللاهوت. بهذه الطريقة لم تعد الميتافيزيقا التاسيس الوحيد للموجود في الوجود، أنطولوجيا، بل هي كذلك تأسيس الوجود في موجود أسمى، الإلهي، وبالتالي في اللاهوت (théologie). ولأنها بشكل عام تعطي الأساس، فهي Iogie-. بهذه الطريقة هي أنطو-ثيو-لوجيا.
من اللازم أن يتم بوضوح إحالة الطابع المزدوج للسؤال عن الوجود إلى الطريقة التي ينكشف بها وجود الموجود. ينكشف الوجود في خاصية نسميها الأساس (Gründ). الموجود بشكل عام هو الأساس بمعنى القاعدة (Boden) التي يقوم عليها كل اعتبار لاحق للموجود. الموجود من حيث هو موجود أسمى هو الأساس بمعنى ما يؤدي إلى وجود كل موجود. في سياق تاريخ التساؤل الأنطو-ثيو-لوجي، ظهرت، إلى جانب مهمة تبيان طببعة الموجود الأسمى، مهمة أخرى لإظهار أن الأكثر موجودا في الموجود هو أن الله موجود.
تشير مصطلحات الوجود (Existenz)، والوجود-هنا (Dasein)، والواقع (Wirklichkeit) إلى نمط من أنماط الوجود. لا حاجة بنا إلى القول إن هايدجر، وقد توصل إلى قول، فهم معنى الوجود أو حقيقة الوجود، يعبئ في الوقت نفسه جسده، مدافعا عن حقيقة الله، وجوده، وأنه أساس كل شيء؛ لأنه بالنسبة للمسيحي كينونة = وجود. لذلك سوف نجازف بالمعادلات التالية.
يظن الملتصقون بالحس المشترك أن الفلسفة هي العدو اللدود للإيمان. لكن، ما هو الإيمان عند هايدجر؟ في جملة قصيرة، يعرفه على النحو التالي: “الإيمان هو وسيلة للانعقاد في الحقيقة". لنلاحظ جيدا أننا أمام نفس التعريف الذي خص به المعرفة، ومن هنا جاءت المعادلة الصغيرة: إيمان = معرفة عند هايدجر. من يعرف حقا يستطيع أن يقول إن الله موجود. وبما أن الفيلسوف هو من يعرف، إذن حسب معادلتنا
لا يستطيع أن ينكر الإيمان، لأن إنكاره هو أيضا إنكار للمعرفة. كل الفلاسفة متفقون على هذه النقطة: تكون المعرفة دائما صحيحة، وإلا لن تكون معرفة. هكذا إذن لا يمكن ولا يجب أن يكون هناك أي تعارض بين الفيلسوف والإيمان. بعد ذلك، سوف نتطرق إلى المسألة الشائكة المتعلقة بالتزام هايدجر القومي الاشتراكي.
بمقارنة التعريفات التي أعطاها هايدجر للوجود والحقيقة، لم تعكس أقواله أي سلوك عنف تجاه تعاليم الإنجيل؛ سنبين ذلك من خلال بعدين: (1) طبقا لمعنى الوجود، و(2) طبقا لمعنى الحقيقة. فيم تتفق التصريحات الهيدجرية حول الوجود مع تعاليم الإنجيل؟ قلنا سابقا (انظر ص: 102 في النص الأصلي) إن الله من حيث هو خالق غير مخلوق "موجود"؛ الوجود "موجود". حقيقة الوجود أو الله، هي ظهوره، انكشافه، خروجه إلى النور.. الحقيقة تنتمي إلى ماهية الوجود. الوجود ينكشف كحضور دائم، بل "حاضر" يتحدث لغة العصر.
يقول هيدجر: عندما يبلغ الزمان ثراءه، يبلغ الوجود ذاته امتلاءه. يسمي هيدجر الزمان بأفق الوجود، والزمان بالنسبة إليه ليس هو الزمن الذي أوله أرسطو ميتافيزيقيا، أي انطلاقا من الوجود، كحضور (ousia) لتحديده بشكل قانوني على أنه سلسلة من اللحظات. مع توالي اللحظات، يتعارض حسب هايدجر، ، ذاك الذي يحتوي على كل الأشياء معا، من خلال تأسيسه زعما على لحظة الأبدية. يقول هايدجر بخلاف ذلك: الأكثر راديكالية من المتعاقب وحتى من الأبدي هو الحاضر الذي تحتضنه في ذاتها تسمية الوجود، الذي من خلاله يتلاقى الماضي والمستقبل معًا أو بالأحرى يتجاوبان بطريقة مختلفة تماما عما تقوله عبارة "تباعا". الحاضر، الماضي والمستقبل، بعيدا عن تشكيل متوالية، هم على نحو ثابت إلى حد ما معاصرون في عالم لا يمثل حاضره اللحظة العابرة، بل يمتد بعيدا بحيث يستجيب حاليا مستقبل لماض... من خلال التفكير في الوجود "تحت أفق الزمان" وليس العكس، يدعو هايدجر القارئ إلى التراجع عن الميتافيزيقا وسؤالها عن الوجود نحو فكرة أكثر راديكالية وهي، كما قال عام 1927، فكرة معنى الوجود أو حقيقة الوجود ذاته، التي من العجب أنها لا تظهر في مكانها الخاص إلا ضمن "انفراجة الزمان". وهذه أعجوبة يمكن مطابقتها مع أعجوبة الإنجيل.
والآن، ماذا عن التزام هايدجر القومي الاشتراكي في ضوء إصرار فكره على العلاقة بين وجود-حقيقة-حرية؟ هذا السؤال يقتضي الآن سؤالا آخر حقيقيا، يطرحه كل إنسان يحركه، في هذه الحالة، الاهتمام بالتفكير: ما الذي حدث لهايدجر عام 1933-1934، حتى ينقاد إلى دعم النظام الذي تم تأسيسه للتو دون تحفظ من خلال الوعد بـ "ثورة قومية اشتراكية"؟ قبل أن نتناول هذا السؤال الحارق، نود أن نوضح ما يلي: (1) رغم أن هايدجر لم يسحب بطاقة عضويته لمدة خمس سنوات تقريبا، فهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن قناعات هايدجر في ما يتعلق بالأيديولوجيا القومية الاشتراكية لم تدم أكثر من سنة توليه رئاسة الجامعة، وهي السنة التي استقال في نهايتها. (2) تم إدراك الالتزام القومي الاشتراكي نفسه - بسذاجة دون شك - كالتزام بالهيمنة السياسية والثقافية لألمانيا في أوروبا، الهيمنة التي من خلالها كان على الأمة الألمانية أن تحقق حريتها وحقيقتها. ولكن هذا لا يصل إلى العلاقة الأساسية التي يقيمها الفيلسوف بين الحقيقة والحرية. وفي ما يلي شرح هاتين
القصيتين.
(1) لفهم انخراط مارتن هايدجر في الاشتراكية القومية وأنشطتها في ظل نظام هتلر، سيكون من الضروري الاهتمام بتحليل الحركة الطلابية في الجامعات الألمانية. وهذا قد يسمح لنا بالمشاركة بشكل أفضل في النقاش حول إصلاح الجامعة والمواجهات التي أطلقها. إنما في علاقة بهذين المشكلين، يؤكد فيكتور فارياس، سيتخذ مارتن هايدجر قرار الانخراط بوضوح في المعركة السياسية. وقد لاحظ هتلر التوجه السياسي لحركة الشباب، ولا سيما الحركة الطلابية، وقدرتها على التوسع منذ عام 1930. وأشار إلى اختراق حزبه صفوف الطلاب: تجاوز عدد مناضليه بكثير عدد المجموعات الجامعية المنظمة الأخرى مثل المنظمات القومية الإشتراكية غير الطلابية. ومن المؤكد أن أساتذة الفلسفة والتاريخ والاقتصاد كان معظمهم مقتنعين بأن الشعب الألماني هو "شعب ميتافيزيقي في معارضة عنيفة لسطحية الغرب الديمقراطي." كما يشير فرانسوا فيدييه في: "هايدجر، تشريح الفضيحة"، بعد حرب عام 1946 مباشرة، كتب جان بوفريه رسالة إلى هايدجر، سأله فيها هذا السؤال: "كيف نعيد إعطاء معنى لكلمة إنسانية"؟ إذا لم يُفهم هذا السؤال على حقيقته، أي كسؤال يطرحه التاريخ الحديث، وعلى وجه الخصوص، الرؤية التي كانت لنظام هتلر وأتباعه، تعظم المجازفة بعدم الاستماع إلى جواب هايدجر. ذلك أن "رسالة في النزعة الإنسانية" تجيب على هذا السؤال. هذه الرسالة، وفقا لفرانسوا فيدييه، ليست على الإطلاق رسالة ضد الإنسانية (مثلما أن فكر هيدجر الأخير ليس ضد الميتافيزيقا، ولا ضد التكنولوجيا). الجواب نجده في الصفحة 345 من المجلد التاسع من الطبعة الكاملة، ننقله حرفيا كما يلي:
"إعادة إعطاء معنى بكلمة [الإنسانية] لا يمكن أن يعني إلا ما يأتي: إعادة تحديد معناه. هذا يتطلب، من ناحية، القيام بتجربة نمط وجود خاص بالإنسان بطريقة أكثر أصالة؛ الشيء الذي يعني، من ناحية أخرى، إظهار إلى أي مدى هذا النمط من الوجود، على طريقته، مرتبط بمصير".
ماذا تعني تجربة نمط الوجود التي تحقق الإنسانية في الإنسان؟ هل يمكننا القيام بهذه التجربة دون أن نكون، بهذا المعنى الأصلي، ملزمين بالوجود؟ هل ما زال من الممكن، هناك، التمييز بين الممارسة والنظرية، مثلا؟ في نفس الكتاب، يقول هايدجر: "الفكر يفعل في هذا الذي يفكر فيه". ومن الواضح أنه في عام 1933، مع الأخذ في الاعتبار توليه رئاسة الجامعة، أراد هايدجر التفكير أكثر من مجرد الفعل. أراد أن ينقل الفكر إلى الواقع، ليس كما يمكننا أن نقرأ هنا وهناك، من خلال الرغبة في ممارسة سلطة؛ أو حتى وفقًا لصيغة أوتو بوجيلر، من خلال الرغبة في "توجيه هتلر". من الضروري أن نفهم ما أراده هايدجر نفسه، حتى لو كان ذلك يعني التساؤل في ما بعد عما إذا كان من المشروع بالنسبة إليه أن يريد ذلك في عام 1933.
لكن ما كان يريده هو ثورة في الجامعة الألمانية لجعلها قادرة على تربية "قادة المستقبل والأوصياء على مصير الشعب الألماني". نعثر هنا مرة أخرى على كلمة المصير. في عام 1946، أعلن هايدجر أنه من أجل إعادة إعطاء معنى للإنسانية وفق تحديد جديد تماما لجوهره، ذلك الذي يقدمه تحت اسم الدازاين (الوجود-هنا) (على اعتبار أن الأساسي على وجه التحديد هو تجربة وجود هذا هنا - تجربة يمكن بل يجب أن تقال بكل اللغات)، ما يعني في نفس الوقت إظهار العلاقة الضرورية للدازاين بمصير. إذا كان لدينا أدنى تردد تجاه هذه الكلمة (المصير)، فلنستبدلها بالتاريخ، بشرط أن ندركه أكثر من مجرد تسلسل زمني بسيط: كبعد محدد نكون فيه (جميع البشر)، إذا كان حاضرنا الحقيقي مؤهلا بالفعل لجعل المستقبل ممكنًا بما يتناسب مع ما ورثناه. إن اختيار تسمية هذا البعد مصيرا وليس تاريخا، وفقا لما قاله فرانسوا فيدييه، هو طريقة هايدجر لتوضيح حقيقة أننا لسنا "في" التاريخ، بل إن لنا بعدا، أي أننا نقف في "الزمان" على قدر محدد ما نكون قادرين، وقد صرنا متلقين للمصير، على معرفة الذي يصير. ونعلم أيضًا أن مارتن هايدجر ألقى يوم 13 نونبر 1935 في فريبورغ محاضرة بعنوان: "في أصل العمل الفني". في الفقرة 30 من الجزء الثاني من المحاضرة نقرأ: "الإثنيات والأعراق، تزداد قوتها بالاتحاد، عندما تعي جيدا ما يعود إلى مهمتها؛ بمعنى تصبح تاريخية وهي تنظر نحو المستقبل".
ذلك ما قاله هايدجر بعد عام ونصف من استقالته من رئاسة الجامعة، وبالضبط بعد ثمانية أسابيع من صدور قوانين نورمبرغ، التي تقوم على مبدإ الفصل المنصوص عليه في القانون، بين كامل المواطنين على حدة؛ أي المواطنين الذين يجري في عروقهم الدم الألماني أو ذوي القربى، والمواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يتمتعون يحقوق سياسية.
لإنهاء هذا الجزء الأول، يبدو من الضروري أن نستشهد بتصريح آخر لهايدجر عن الأيديولوجيا النازية. آلان بولوك في كتابه "هتلر" (ر. ص. 394) يخبرنا بأن: "ما سعى هتلر إلى التعبير عنه بكلمة "العرق" هو إيمانه بعدم المساواة - بين الشعوب والأفراد - كقانون طبيعي لا يرحم". إن مفهوم العرق، عند النازيين، طبيعي، وجسدي بحت. الدم هو أولا الدعامة المادية. بهذا المعنى، هناك في النازية تماما اختزال للأيديولوجيا: كل كنوز الحضارة والفن ليست في نظر النازيين إلا تعبيرا عن العرق المتفوق.
ما موقف هايدجر من هذه الأيديولوجيا؟ نلاحظ منذ عام 1934، في محاضراته، أن مؤلف كتاب "الوجود والزمان" يعارض عمدا مثل هذا الاختزال البيولوجي. ما قاله وردده هو أن تأسيس الحركة الثورية على مفهوم العرق نصف إجراء. وطالما لا نعرف إلى أي مدى كان هايدجر مفكرا ثوريا براديكالية نادرة، لن نكون قادرين على فهم أي شيء عن التزامه السياسي. راديكاليته ليست سياسية في المقام الأول. ومن المحتمل جدا أن هايدجر عرف في وقت مبكر جدا ما في تداعيات اكتشفاته مع تقدمه في عمله من أمور مزعجة تماما: أولاً، الحدس حول الرابطة الوثقى التي تربط وفق إيقاع البشر ب"الحقيقة" بالمعنى اليوناني لكلمة alèthèia - بحيث يعني الوجود بالنسبة إلى لإنسان الوجود في علاقة بالحقيقة - (alètheuein)، وذلك الوجود بفضل الحقيقة يصبح هو نفس تعريف الفكر. وهذا يقودنا إلى شرح النقطة الثانية.
دراسته باستمرار قائمة على منحة من أحد الأمراء، وكانت النتيجة المحتومة لهذا النزاع الديني، العداوة الاجتماعية.
واهم ما قاله كاتب المقال إن تحولات حدثت في تفكير هايدجر تغيرت بناء عليها نظرته إلى النازية، حيث كان يرى أن أجهزة الدعاية التابعة للدولة النازية أشبه بميتافيزيقا بديلة عن ميتافيزيقا الوجود، لكنها ميتافيزيقا صاخبة تعبر عن العدمية الكبرى، وحتى الدعاية التي يقوم بها الشعب تقع في ذلك السياق. من هذه الزاوية فإن النازية تعبير عن خراب العالم وتدمير الأرض.
المرجع:
RUBENS BÉLIDORA propos de la problématique de l Être: L ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉ HUMAINE CHEZ HEIDEGGER