تمكن جان جوليفيه من إظهار أن الفلسفة العربية تطورت في العالم العربي الإسلامي كحكمة. كلمة “حكيم” هي أحد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، والحديث عن “الحكمة” مقبول تماما في مجتمع مسلم مبني على القرآن كنص مقدس. إذا تم تقديم الفلسفة لأول مرة على أنها حكمة، فسيتم قبولها بشكل أفضل ولن تظهر على أنها مستعارة من الوثنية اليونانية. سيشار إلى الفلاسفة اليونانيين باسم “القدماء” وليس الوثنيين.
لم يتردد كثير من الفلاسفة في استخدام كلمة “حكيم” أو كلمة “حكمة” في عناوين كتبهم رغم أنهم كانوا يقصدون بها “الفلسفة”. وهذا حال الفارابي في “الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون وأرسطو طاليس”، ونفس حال ابن رشد في الخطاب الحاسم الذي عنوانه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الإتصال”.
في كلتا الحالتين، يتحدث الفارابي وابن رشد عن الفلاسفة، لكنهما يقدمانهم على أنهم حكماء لإدراجهم في سلسلة طويلة من الحكماء المعروفين من قبل البشرية: الأنبياء وسحرة الهند وفارس وكذا الفلاسفة اليونانيين. لذلك فإن الفلاسفة هم الجديرون بأن يرثوا حكمة الأنبياء الذين عرفتهم البشرية في الماضي.
انطلاقا من الفقرة الأولى من كتابه، يستبدل، فيلسوف الأندلس، ابن رشد كلمة “حكمة” بكلمة “فلسفة”: “الغرض من الكتاب هو أن يفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعا أو محظور أو مأمور به، إما على جهة الندب، وإمَّا من جهة الوجوب.تجسد الأدب القديم من خلال نزعة إنسانية تمحورت حول “الحكمة الخالدة”، عنوان كتاب ابن مسكويه، ولكن كما لاحظ جوليفيه، جرى تقديم هذه النزعة الإنسانية في شكل مختارات من أقوال القدماء (الفرس، الهندوس، اليونان) دون ترجمتها إلى الشكل البرهاني الذي تميزت به الفلسفة عند كل من الفارابي وابن سينا وابن رشد.
من ناحية أخرى، هناك صورة نمطية تتمثل في تقديم الفلسفة العربية من ناحية كنسخة شاحبة من الفلسفة اليونانية، ومن ناحية أخرى، تقديم الشريعة، القانون الإلهي، كعنصر مميز. هذا ما ذهب إليه إرنست رينان.
من ناحية، في مجال الفكر، لم يكن العرب المسلمون قد أبدعوا أي شيء، ومن ناحية أخرى، كانت لديهم معايير منفصلة، ومحددة للغاية بحيث لا يمكن مقارنتها بالمعايير الأخرى. تقترن تلك الصورة النمطية بفكرة أن الشريعة، محددة للغاية، غير تاريخية، وأن الفلسفة العربية، المقتفية لأثر الفلسفة اليونانية، كانت بمثابة جسر للفلسفة لتنتقل عبره من أثينا إلى جامعة باريس في القرن الثالث عشر الميلادي وإلى جامعة بادوا في القرن الرابع عشر الميلادي.
ومع ذلك، فإن تحليل المتن الفلسفي والفقهي يظهر من جهة أن الفلسفة العربية قد أوجدت نموذجا جديدا للفكر احتل فيه المنطق والطب مكانة كبيرة، ومن جهة أخرى أن الشريعة قد عرفت تراكما فقهيا مميزا موسوما بالطابع التاريخي، من خلال النقاشات الدينامية التي أطلقتها المذاهب الفقهية الأربعة.
باعتبارها تشكلت كقول برهاني وليس كقول موحى به، بحثت الفلسفة العربية عند أرسطو، على وجه الخصوص، عن وسائل للتحقق من صحة خطاباتها. وإذا أصبحت مؤولة للنصوص المنزلة التي لها مضمون شرعي واستمدت شرعيتها منها، كما أكد ابن رشد في بداية كتابه “فصل المقال”، فإنها لم تنس أبدا مصدرها: العقل. كما سنشهد جهدا مزدوجا للتوفيق، من ناحية، بين النص المقدس وفلسفة أفلاطون وأرسطو الوثنيتين، ومن ناحية أخرى، بين هاتين الفلسفتين الوثنيتين نفسهما.
الحقيقة لا يمكن أن تكون متعددة، بل هي كذلك المداخل المؤدية إليها. لإضفاء الشرعية على دراسة النصوص الوثنية في بيئة إسلامية، كان من الضروري مواءمتها حتى يسقط الاعتراض على تناقض هؤلاء الفلاسفة في ما بينهم وعلى تهافتهم بالتالي. إن موقف إخضاع كل الحقائق لمعيار التماسك أنعش فلاسفة العرب في العصور الوسطى.
كان شعار ابن رشد كالتالي: لا يمكن أن يمتلك المرء كل الحقيقة بمفرده. فقط تعاقب الأجيال والاستمرارية الثابتة بين الثقافات المختلفة هما ما يعطيان صورة عنها.
قال بهذا الصدد في “فصل المقال” : “فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدَّمنا من الأمم السالفة نظَراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائِطُ البُرهان، أن ننظُرَ في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها مُوافِقاً للحقِّ قبلناه منهم وسُرِرْنَا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير مُوافق للحقِّ نبَّهنا عليه وحَذِرْنَا منه وعذَرْناهم. فقد تبيَّن من هذا أنّ النَّظَر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم، هو المقصد الذي حثَّنا الشرع عليه”.
هذه الفكرة الإجرائية عن الحقيقة المتواصلة عبر الأجيال والثقافات، سبق وأن عبّر عنها الكندي في كتابه عن “الفلسفة الأولى”. لم يفرض الكندي في القرن التاسع الميلادي طريقة جديدة للتواصل مع الفكر فحسب، بل فرض أيضا طريقة جديدة للتواصل مع الثقافات الأخرى.
هذا التوجهان مترابطان: تحيل الطريقة الجديدة في التفكير إلى الممارسة الفلسفية، التي هي ممارسة برهانية تنأى بنفسها عن كل من الكلام الموحى به إلى الأنبياء وعن التفسير اللاهوتي الذي يسعى إلى تبسيطه وتوضيحه.
اشرأب عنق الفلسفة الناشئة في الشرق الأوسط خلال القرن التاسع الميلادي نحو الثقافة اليونانية التي يسرت الترجمات المنجزة في “بيت الحكمة”، المؤسس من قبل الخليفة العباسي المأمون عام 832 م، إمكانية اكتشافها.
ذكر ابن رشد في الفقرة الأولى من “فصل المقال” “علوم المنطق”. تشير صيغة الجمع إلى أجزاء اورغانون أرسطو، وهي مجموعة من الكتب التي منها ما تناول الشعر والبلاغة بالدرس والتحليل. تم دمج هذين الفنين في المنطق بموجب التقليد العربي. تساءل ليون برنشفيغ عما كان يمكن أن تكون عليه الفلسفة الغربية لو أنها احتفظت بأطروحة الأورغانون الطويل، وليس بتلك التي هي “إبستيمومركزية” والتي سادت على الأقل منذ بداية الفلسفة الحديثة.
قبل الفلاسفة العرب، حظيت أطروحة الأورغانون الطويل، أي المنطق إلى جانب الشعر والبلاغة، بدعم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد وعلى رأسهم فيلوبون وأوليمبيودوروس وأمونيوس. تم تبنيها وتعزيزها من قبل الفلاسفة العرب مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد.
يؤيد ديبوراه بلاك في كتابه “Logic and Aristotle’s Rhetoric and Poetics in medieval arabic philosophy” ما أسماه “الأطروحة السياقية” التي تضع البلاغة والشعر في سياق منطقي. لفترة طويلة، قلل أولئك الذين اشتغلوا على مجموعة المنطق الأرسطي، بل أهملوا، هذه الأطروحة، رغم أن النصوص التي تمت دراستها نصت عليها صراحة. ومع ذلك فإن هذا الإدراج له ما يبرره. يلاحظ فيكتور جولدشميت، مثلا، أن الفرجة المسرحية عند أرسطو طورت استدلالا.
يقول جولدشميت: “إن النقل الفني، بعيدا عن خداعنا بشأن الأصل، يجعلنا نقع فيه بشكل أفضل؛ إنه يتطلب من جانب المتفرج جهدا في الاستدلال لم يتردد أرسطو عندما عبر عنه
مرتين بالمصطلح التقني الذي هو القياس، والذي ينتهي بتضمين النموذج في التمثيل: “هذا هو ذاك”.
لطالما قدم الفلاسفة العرب حججا تسير في هذا الاتجاه، أي في اتجاه الاعتراف الكامل بـ”استدلال” شعري و”استدلال” بلاغي. يسرد الفارابي في كتابه “إحصاء العلوم” ضمن “الفنون التي يستخدم فيها القياس المنطقي” القياس الشعري، ويؤكد ابن رشد في شرحه الأوسط للبلاغة أن الاستدلال البلاغي هو نوع من القياس. لذلك يجب، في نظره، أن يكون المنطق هو الذي ينظر عن كثب إلى هذا الفن، حتى لو كانت الموافقة البلاغية غير صحيحة، فإنها تشبه الحق، وما يشبه الحق يدخل في علم الحق الذي هو المنطق.
كما أوضح ابن سينا من جهة أخرى، يجب تمييز اهتمام المنطق بالشعر عن اهتمام عالم الموسيقى أو المتخصص بالعروض؛ فالمنطق يعتبر الشعر مجرد خطاب خيالي. هو لا يهتم بالإيقاع ولا بميزان الأبيات ولا بعلم العروض.
في هذا الأورغانون الطويل، تكتسي مكانة عمليات التصور والحكم أهمية كبيرة. يتم التصور وفقا للمقولات العشر التي يتم تقديمها على شكل عناصر جزئية تجعل في معظمها من الممكن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأطر تفكيرنا. مثلا: من أو ماذا؟ متى؟ كيف ؟ أين؟ كم؟ يبقي تبرير لماذا تتوافق فقط عشر مقولات مع أطر تفكيرنا. بالنسبة لابن سينا، من المؤكد أن المقولات لا تشمل جردا كاملا للعالم. ولكن ليس بسبب وجود أفراد معزولين، غير قابلين للتصنيف، لا يدخلون في أي جنس أو نوع، يكون من الضروري التشكيك في حقيقة أن هناك عشر مقولات فقط كعناصر معقولة يعبر العالم وفقا لها عن نفسه.
هناك إذن مجال كوني عرف أرسطو كيف يجلي عنه كان على الفلاسفة الذين خلفوه أن يستكشفوه بمقتضى المبدإ الذي طرحه الكندي، وهو أن الحق يكشف عن نفسه لشعوب مختلفة، وفي أوقات مختلفة، دون تغيير أو انقسام.
ماذا يحدث عندما لا تجد الترجمة إلى العربية لعنصر منطقي، مثل الرابطة التي تربط موضوعا بمحمول، مرادفها المباشر في اللغة العربية؟ في هذه الحالة، تتيح معرفة اللغة العثور على العلاقات المنطقية حتى لو لم يتم تقديمها وفقا لتوافق صارم. لذلك يجب التمييز بين الشكل المنطقي والصيغة النحوية. إن غياب الشكل النحوي لا يشكل خطرا على الشكل المنطقي. على العكس من ذلك، فهو يفتح الطريق أمام الإبداع المنطقي، بمعنى أنه يجعل من الممكن إقامة علاقات منطقية صريحة تكون ضمنية في اللغة.
فليس بسبب عدم وجود رابطة في اللغة العربية، لا يوجد ارتباط منطقي في الجملة العربية. يتم اللجوء إلى الضمير “هو” بحثا عن علاقة منطقية على أساس تقويم تركيبي وممارسة بلاغية. ذلك هو في نفس الوقت ما يقال باللغة العربية وطريقة لتوضيح العلاقة المنطقية. لن نقول بالعربية “Socrate est philosophe” ولكن نقول إما أن “سقراط فيلسوف” مع افتراض الرابطة ضمنية غير موجودة في اللغة العربية، أو لإبراز وظيفتها، سنقول: “سقراط هو فيلسوف”. يلعب الضمير “هو” هنا دور الرابطة لأنه يجعل من الممكن ضبط مبتدإ الجملة، للقيام بالتركيز على هذا المبتدإ.
كما نلاحظ، التوافق البلاغي (استبدل “est” ب “هو”) لا يهدد التوافق المنطقي، بل الأمر خلاف ذلك.
تؤكد أعمال كواين، عالم المنطق المعاصر الامريكي، على القيمة التبئيرية للضمير: يركز الضمير على الفاعل، ويسمح له بالاستقرار، بإدراجه في نظام الجوهر، نظام الموجود. يلعب كل من الضمير والرابطة دور الإسناد (الحمل)، يحققان الانتقال من الوصل “هذا وذاك” إلى الحمل: “هذا يكون ذاك”، أي “هذا هو ذاك”.
يؤدي رهان الترجمة والتعليق أحيانا إلى ما أسماه بيير هادو “الانزلاق عن المعنى الذي يمكن أن يصل إلى حد المعنى المضاد” كلما كان هناك “تأويل، تقليد، ترجمة”. وهكذا، عندما يتحدث أرسطو في “كتاب للشعر” عن التراجيديا، حتى لو كان هذا الجنس غير معروف لدى للعرب الذين يعيشون في قرطبة القرن الثاني عشر، يكفي التمسك بتعريف أرسطو التحليلي لإيجاد جنس متمثل جيدا بين العرب: المأساة تحاكى أفعال الناس كما هي، بل تصور أفعال الناس بصورة أحسن مما هي عليه أو أسوأ، كما قال أرسطو. وجد ابن رشد في ذلك، كما بدا له، فن المدح الذي طوره العرب قبل ظهور الإسلام بوقت طويل. تفترض المأساة مسبقا معايير أخرى في تعريفها: الشخصية المأساوية هي شخصية تعاني من سوء حظ غير مستحق من أحد أفراد أسرتها. عبأ ابن رشد المرجعية القرآنية لإيجاد معادلات لأوديب: اضطر إبراهيم للتضحية بابنه، يوسف استشهد على يد إخوته.
مثال آخر على المعادلات المفاهيمية التي تعكس الكثير من الإبداعات والتكييفات الفلسفية لفائدة الجمهور في القرن الثاني عشر في قرطبة التي من الواضح أنها ليست مثل أثينا أرسطو: اليس العقل الذي يتحدث عنه أرسطو معادلا للملاك الذي تحدث عنه القرآن؟ كلاهما مانح للصيغ التي تجعل العالم معقولا، تماما كما يقول لنا ابن رشد من كون ما يقوله القدماء عن الوحي والرؤية يتعلق بالله من خلال وساطة كائن روحي غير مادي، يمنح العقل البشري وفقا لهم، وهذا ما يسميه المعاصرون العقل الفعال وما يسميه الكتاب المقدس (الشريعة) الملاك.
باختصار، يتم تمثيل نفس الحقيقة بطريقتين مختلفتين. فعندما قال أرسطو في كتاب "الطوبيفا" إن من أسعد فرص الإنسان أن يجد نفسه يتجول في صالة رياضية، علق ابن رشد على هذا المقطع بالقول إن أسعد فرص الإنسان أن يجد نفسه يتجول في مسجد. المسجد مثل الصالة الرياضية، مكان للتمارين البدنية أو الروحية، أو في كليهما، يشحذ فيه الإنسان عقله أو ينمي جسده، دون أن يكون ذلك ضروريا لتعريفه لأنه من قبيل الصدفة.
تُظهر هذه الأمثلة القليلة كيف أنه من غير المناسب قراءة ابن رشد كمجرد معلق على أرسطو أو كمجرد قاض بسيط يفسر الشريعة الإسلامية، ولكن يجب قراءته كفيلسوف يجعل الأفكار تهاجر، بالإضافة، بالطرح والخلق إجمالا.
نود الآن أن نوضح إلى أي مدى شكلت هذه الفلسفة العربية القروسطية نفسها بدورها مصدرا لفلسفة أخرى، تلك التي نسميها "الفلسفة الغربية" والتي غطت، تقريبا، فترة النهضة، ثم فلسفات القرنين السابع عشر والثامن عشر .
إن الأطروحة التي بموجبها يُضاف الوجود إلى الجوهر مألوفة لأي فيلسوف مبتدئ يتلقى تكوينه حاليا في فرنسا أو ألمانيا أو في البلدان الأنجلو سكسونية. لقد أصبحت أصلا فلسفيا مجهول المصدر، ولكن من أين أتت؟
إنها أساس كل المظاهر العقلانية لوجود الله لأنها توفر التمييز الدقيق بين واجب الوجود لذاته الذي يحضن جوهره الوجود وواجب الوجود لغيره الذي يضاف وجوده إلى الجوهر. في التحديد المشترك لشيء ما، أي لجوهره، لا يتم تضمين الوجود، إلا إذا تعلق الأمر بواجب الوجود لذاته، الله، الذي بمشيئته يلف الجوهر الوجود.
يقول أحد المعلقين في هذه المسألة: "الموجود، إن لم يتعلّق وجوده بغيره سمّيناه واجبا بذاته. كلّ موجود إذا لاحظه العقل، واعتبر ذاته من حيث هي هي وجرّد النّظر عمّا أدّاه إليه، فلا يخلو إمّا أن يكون بحيث يجب له الوجود بأن يكون ذاته بذاته مصداقا لحمل الموجود بالمعنى العامّ، أو لا يكون كذلك. فالأوّل هو الواجب بذاته.. لا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته و بغيره، بل لا بدّ أن يكون الموصوف بواجب الوجود بغيره ممكن الوجود لذاته، لأنّه إن دفع الغير أو لم يعتبر وجوده لم يخل إمّا أن يبقى وجوب وجوده بحاله أو لا يبقى، فإن بقي فلا يكون وجوب وجوده بغيره، و إن لم يبق فلا يكون وجوب وجوده بذاته. فثبت أنّ كل ما وجب بغيره فهو لا يكون واجب الوجود بذاته لاستحالة اجتماع المتنافيين، فلا محالة يكون كلّ ممكن الوجود لذاته. فقد بان أنّ كلّ واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته. إنّ ذاته (الواجب الوجود بذاته) موجودة من غير حاجة إلى جاعل يجعلها، و لا قابل يقبلها. هو النّفس الوجود المتأكّد القائم بذاته. ما يكون موجودا بذاته و لذاته".
بالنسبة للمواد المركبة، القاعدة هي فصل الجوهر عن الوجود وتصور الأخير كعنصر إضافي، حادث. من هذه الفرضية القوية سوف تنبثق في وقت لاحق، مماثلة بين الوجود والعدد: إذا أضيف الوجود إلى الجوهر، فيمكننا تعداده، وإلحاقه بالامتداد، وترك الجوهر في جانب المفهوم، أي الفهم. يمكننا كذلك أن نرى في الاستثناء الذي يوحد الجوهر والوجود في الله، تناقضا بين أولئك الذين يدعمون هذه الأطروحة.
يبلور لنا تاريخ مفهوم وجود الله هذا الاحتمال المزدوج: الاستثناء (ابن سينا، القديس توما الأكويني، سبينوزا)، والتناقض (كانط، فريجه).
اتضح أن ابن سينا هو الذي، بعد قراءة سلسلة "ما وراء الطبيعة" لأرسطو أكثر من أربعين مرة، كما قيل لنا، رأى فيها (مخترعا؟) التمييز بين الجوهر والوجود. أصبح هذا التمييز عاملاً في الفلسفة كأداة منهجية رئيسية وكخط فاصل بين الفلسفات التي تعطي أولوية (وجودية) للوجود على الجوهر، أو تلك التي تعطي أسبقية (مفهومية) للجوهر على الوجود.
في الخانة الثانية، يوضع علماء المنطق مثل غوتلوب فريجه وإمانويل كانط. وهكذا أصبح ابن سينا هو الأصل المجهول للفلسفة. نجاح تمييزه هو ما جعل من الممكن نسيان أصله.
الآن ماذا عن الشق العملي للفلسفة، وخاصة مجال العمل الأخلاقي والسياسي والديني؟
لننظر أولاً إلى كيفية استقبال فيلسوف مثل بليز باسكال للإسلام. إذا كان محمد في نفس المستوى مع بؤس الإنسان، كيف يمكن أن يكون، كما يخبرنا، نبي الله؟ يرسم باسكال في "خواطره" العديد من أوجه الشبه بين موسى ويسوع المسيح، وكلاهما يعتبر نبيا. لم يعتبر محمد، في أي وقت من الأوقات، رسولا من الله. هو "غير متوقع"، أي أنه غير معلن وغير ملهم، والأسباب التي يقدمها لها فقط "قوتها الخاصة"، بقدر ما يقال إنه خطيب يطلب من الناس أن يصدقوه. "ماذا يقول إذن؟ عليك أن تصدق ذلك". وبالتالي فإن الرسالة الدينية التي يحملها بدون "سلطة" إلهية، بدون تقليد من الألغاز، بدون أخلاق وبدون سعادة. إن إعطاء المرء لنفسه قوانينه الخاصة ليتحدي بها "الأأكثر عدلاً وقدسية" واقعة يتميز بها "جنود محمد"، الذين لا يتردد باسكال في حشرهم مع "اللصوص" و "الزنادقة" و"المناطقة".
في مسرحية "دون جوان" لموليير لم يقل سغاناريل أي شيء آخر عن سيده، الذي يبدو أيضا أنه لا يعترف بأي قانون (ديني) غير القانون الذي أعطاه لنفسه. تم وصف دون جوان من قبل خادمه بأنه: "رجل مجنون، كلب وشيطان، تركي، زنديق، لا يؤمن لا بالجنة ولا بالجحيم" (الفصل الأول، المشهد الأول).
صفة "التركي" هنا مؤطرة بصفة "الشيطان" و"الزنديق". ذلك يساعد على تحديد هذه الشخصية، المنطقية جدا فوق ذلك، لأنها تعتقد أن اثنين واثنين هما أربعة.
مثل هذا اللعنة على الديانة "المحمدية" التي لا يشار إليها أبدا باسم "الإسلامية"، غير موجودة على الإطلاق لدى روبير مونتيني رغم أن الفيلسوفين الفرنسيين يستخدمان في كثير من الأحيان نفس الأمثلة. لكنهما لا يستخدمانها بنفس الطريقة. خذ جنة المسلمين، مثلا، بالنسبة لباسكال، هذه هي العلامة الواضحة على أن "محمد" ليس نبيا من الله. كيف يكون كذلك إذا وعدنا بأن ينقل إلى العالم الآخر كل بؤس حساسيتنا؟ من خلال هذه "الأفكار السخيفة" يحكم على نفسه بنفسه. ويدين نفسه. بالنسبة لمونتيني، عندما وصف محمد "جنته مفروشة بالزرابي، مزينة بالذهب والأحجار الكريمة، مليئة بجوار على آية من الجمال، بنبيذ ومأكولات فاخرة" لم يتحدث "بكل تأكيد". كل ذلك من أجل السخرية. افهموا: إنه للتكيف بشكل أفضل مع جمهوره الذي يمكنه دون صعوبة أن يتمثل كل هذه الثروات الأرضية، وليس للقول إننا سنجدها في مكان آخر. إنه يفعل مثل أفلاطون عندما يصف "بستان أفلاطون ووسائل الراحة أو الآلام الجسدية التي تنتظرنا". الغاية من ذلك هي الضحك. لا ينبغي القيام بقراءة حرفية. كيف لنا ان نقوم بذلك للحظة ونحن نعرف أن أفلاطون، يمكن أن نضيف محمدا أيضا، هو النموذج الأصلي للفيلسوف ذي "التصورات السماوية"؟ كلاهما، أفلاطون ومحمد، يعلمان في الحقيقة أن "كل قناعات الفانين هي فانية" (Montaigne, Essais, L. ii, chapitre 12, p. 215).
في مجال العمل الأخلاقي والسياسي، تجدر الإشارة إلى أن مونتيني لا يستشهد بالأتراك، وبشكل أعم، المسلمين، إلا من أجل الفضائل العامة وليس من أجل الفضائل الخاصة. بعد قرن من الزمن، سيعنون بيير كورني مسرحيته ب"السيد" في محاكاة للاسم الذي أطلقه المغاربة المهزومون على رودريج. يعترف دون فرناند بأن "قوته واهية جدا" لمكافأة رودريج: "لكن ملكين أسيرين عندك سيقومان بمكافأتك / كلاهما أطلق عليك لقب سيد بحضوري/ نظرا لأن سيد بلغتهم مثل مولاي / أنا لا أحسدك على لقب الشرف الرائع هذا" (مسرحية السيد، الفصل الرابع، المشهد الثالث).
إن الاعتراف الذي يتمتع به رودريج هنا لا يؤدي فقط دورا أساسيا باعتباره حافزا دراماتيكيا عبر إفراغ مطلب شيمان (ابنة دون حوميس وعشيقة دون سونش ودون رودريج في المسرحية) الخاص بالانتقام من جوهره، ولكنه يمس أيضا الكوني من خلال أخذ اسم أجنبي بشكل متناقض: إذا أعطى المهزوم اسم الشرف، فهذا الاخير لا يمكن أن يكون متكبرا أو مشبوها مثل الذي أعطاه دون فرناند لوالد رودريج. يجد المرء دائما في قرارة نفسه خطأ في الاعتراف. وهكذا يتم تأكيد فضيلة رودريج من خلال اللقب العربي "سيدي" أو "سيد"، أي ما يعادل كلمة "مولاي" بالتأكيد، ولكن بحمولة دينية أكثر دعما من تلك الموجودة في معنى كلمة "مولاي". بمواجهة الموت، وقوفا، ووجها لوجه أمام الكونت، وأمام المغاربة، يكون رودريج بالتأكيد هو السيد.
الموت واقفا، دون أي جبن، لإظهار الشجاعة والشهامة من خلال قيادة قوات جيوشه إلى المعركة هو سمة السادة الحقيقيين، ومن بينهم يستشهد مونتيني بسليم
الأول، سلطان القسطنطينية عام 1512 وملك فاس، مولاي عبد المالك.
"قال سليم الأول لسبب كبير، على ما يبدو لي، أن الانتصارات التي تحققت بدون السيد لن تكتمل، لأن الوصايا التي تجلب الشرف هي فقط تلك التي تُعطى في عين المكان ومن وسط المعركة"، يشهد مونتيني (Montaigne, Essais, L. ii, chapitre 12, p. 215).
لكن مثال ملك فاس له عدة مداخل. لا يقاتل هذا الملك في الميدان فحسب، بل يظهر أيضا كاستراتيجي عظيم في نفس اللحظة التي توحي له جروحه بموته الوشيك. إنه يعرف كيف يستمر في عدم الانتماء إلى نفسه، وكيف يكون بأكمله لشعبه. أخيرا، يرى الموت أمامه، دون "دهشة ولا مبالاة"، "يواصل مجرى الحياة بحرية بعد موته"، بهذه الإيماءة الحكيمة في اللحظة الأخيرة: يضع أصبعه على "فمه المغلق، في إشارة إلى التزام الصمت"حتى لا تضعف معنويات القوات أثناء القتال. لا توجد طريقة جيدة لموت هذا الملك فحسب، بل هناك أيضا اهتمام بإعلان الموت للآخرين الذين تعتمد حياتهم عليه.
وهو يبنى نموذجا تربويا لإميل، استعار جان-جاك روسو
مثال ملك المغرب من مونتيني: إميل، هذا التلميذ الافتراضي، مقياس كل تربية حسنة، سيعرف كيف يروض المعاناة، لأنه سيعرف أن مقاربات الموت ذاتها ليست هي الموت.
"بمجرد ما يشعر به على هذا النحو؛ لن يموت إذا جاز التعبير ، سيكون حياً أو ميتاً، لا شيء أكثر . إنما عنه استطاع مونتيني أن يقول، كما قال عن ملك المغرب، إنه لا يوجد رجل عاش سابقا في الموت حتى الآن"، يعلق روسو ([Jean-Jacques Rousseau, Émile, Éditions GE, 1966, p. 165)
.سياق مثال هذا الملك هو سياق الحرب. إن استخدام مونتيني وروسو له ليس استخداما لمثال أخلاق منحطة لجنود في محنة. بعيدا عن ذلك، صاغ بعض الفلاسفة، مثل غوتفريد لايبنيز، تعبيرا مميزا للحديث عن المسلمين في المعركة، وهو تعبير fatum mahumetanum (المصير المحمدي). يجب تمييزه عن مصير الرواقيين ومن باب أولى عن مصير المسيحيين. المصير المحمدي هو وسيلة لايبنيز لإعادة تسمية "تصوف الكسول" الذي استنكره الرواقي كريسيبوس. يصاغ هكذا: "إذا كان المستقبل لا بد منه، فما يتبغي أن يحدث، سيحدث، بصرف النظر عما أستطيع فعله". هذا بالنسبة إلى لايبنيز "مصير تركيا" الذي بموجبه لا يتجنب الجنود الأخطار، ولا يتركون "الأماكن الموبوءة بالطاعون" (Leibniz, Essai de Théodicée, p. 30, Éditions GF, rééd. 1969).
لا مجال هنا للنصيحة الجيدة ولا للبصيرة. بل هناك سوء فهم للضرورة. إذا نظرنا إلى الأمر عن كثب ندرك إعطاء الموافقة على الأحداث التي تحدث دون إيلائها، بحسب القدرة، أقصى قدر من العناية.
هناك، في المقابل، مصير الرواقيين الذي، حسب لايبنيز، يشبه مصير المسيحيين، لكنه يسمح لنا فقط بأن نكون "هادئين"، في حين أن مصير المسيحيين يجعلنا "سعداء" لأن ما يحدث أمر به "رب عزيز" يفعل الأفضل، فنحن لسنا على "صبر قسري" ولكن في اطمئنان حقيقي.
من الواضح أن لايبنيز ينزل بالمصير المحمدي إلى مرتبة الحكم المسبق. لم يكن هذا هو الحال مع مونتيني. بدافع من شكوكية إزاء ما يتعلق بأي تبرير لاهوتي، يحدث له أن يتبنى ابتذالات أو أحكام مسبقة، لكن بمنهج مقارن أو بسخرية معلنة، يمنحها نضارة جديدة. يقال إن المسلمين قدريون. هذا الطرح خال من قيمته التصريحية. له معنى براغماتي. إذا قيل إنهم قدريون، فمن أجل تحدي الخطر على نحو أحسن. لذلك فإن المصير ليس استسلاما، بل هو على العكس، تصميم شجاع على التصرف بجرعة من الجرأة. هذا ما لا يفتقر إليه "الأمير العظيم" (هنري الرابع ) أيضا :
"يقول مؤرخوهم إن القناعة المنتشرة على نطاق واسع بين الأتراك، بأن المكتوب الحتمي والفظ في أيامهم، يساعد في ما يبدو على تأمينهم ضد المخاطر . وأنا أعرف أميرا عظيما يجد فيها بنبل ربحا، إذا استمرت الثروة في دعمه" (مونتيني، نفس المرجع).
المنهج المقارن موجود لإحباط الخصوصية الثقافية: الأتراك وهنري الرابع المقبل موجودون في نفس القارب. من ناحية أخرى، اعتقد لايبنيز أن التصميم القتالي للجنود الأتراك كان بسبب تعاطي المخدرات أكثر من الاعتقاد بالموت:
"ربما يكون التصوف الذي يخلص إلى التخلص من متاعب كل شيء مفيدا في بعض الأحيان في حث بعض الناس على الانزلاق صاغرين إلى الخطر؛ وقد قيل ذلك بشكل خاص عن الجنود الأتراك. لكن يبدو أن الاحتراق النفسي (Maslach) له علاقة بذلك أكثر من هذا التصوف"، (لايبنيز، نفس المرجع).
يعترف مونتيني بثلاثة رجال ممتازين، أو بالأحرى "الأكثر امتيازا" بين سائر الرجال: هوميروس، الإسكندر الأكبر، إيبامينونداس. اثنان من هؤلاء الثلاثة يمجدهما المسلمون. أليس هومروس هو الجد المشترك الذي ادعى محمد الثاني، إمبراطور الأتراك، عندما كتب إلى البابا بيوس الثاني، قائلا: "أنا مندهش من كيف يتحد الإيطاليون ضدي، وأننا نشترك في أصل الطرواديين وأنني، مثلهم، لدي مصلحة في الانتقام لدم هيكتور من الإغريق؟"
أما الإسكندر، فقد رفعه العرب والأتراك إلى مرتبة الأسطورة. في الوقت الذي كتب فيه مونتيني، "المحمديون، الذين يحتقرون كل التواريخ الأخرى، يرحبون بتاريخه ويكرمونه بمفرده بامتياز خاص" (المرجع نفسه).
وفقا لفن المحادثة الذي احتفل به ديكارت في بداية "خطاب في المنهج"، ومونتيني قبله، يحافظ الأوربيون على صداقة مثمرة ومفيدة مع فلاسفة الماضي.
إن ابن رشد وأرسطو أو مونتيني أو ابن سينا أو كانط وفريجه، لديهم معهم وسائل لتبسيط تفكيرهم من أجل مزيد من المدنية.
ربما لا يكون رهان المدنية هو الكوني المشترك أو المتقاسم، يجب أن يبقى الأخير بطريقة ما فارغا، لأن الفراغ هو الفضاء الحقيقي للحرية. إذا عدنا إلى عالمنا المعاصر، فمن الواضح أن أوروبا في شكل الاتحاد الأوروبي ليست ذات سيادة، بمعنى أن تشكيل أوروبا السياسية لا يزال غير موجود، ومع ذلك فهي تضع القانون، إنها مختبر مثير للاهتمام في هذا المجال.
من وجهة النظر القانونية، علامة مدنية القانون هي تخفيف العقوبات، في شكل إلغاء التعذيب وعقوبة الإعدام، وقد نجحت أوروبا ليس فقط في ذلك، ولكن أيضا في القضاء على الحرب في فضائها. أوروبا فضاء فارغ من السيادة، لكن هذا الفضاء لديه القدرة على إجبار الدول على تطبيق القانون. إن ما بين الدول هو ما قضى على الحرب.
تمنح أوروبا لنفسها الأصول، لكنها ما زالت تواجه صعوبة في تقاسمها، وتستمر في تصدير الحروب وإنتاج لامنتمين، أناس في غير مكانهم، ليسوا رهائن علماء أخذهم القراصنة من قبالة سواحل تونس، كما هي حال ليون الأفريقي، ولكن أناس يمكن التخلص منهم في جزيرة لامبيدوزا أو في الجيوب الإسبانية بالمغرب.
هذا ال"بين" الدول، هذا الفضاء الفارغ من السيادة الذي تمكنت أوروبا من بنائه لنفسها، هذه السيادة الفارغة التي تستثني من القانون يمكن أن تحاول، إن لم تفكر في حدودها على الأقل، أن تتصرف ببراغماتية مثل سليمان القانوني العظيم وخلفائه الذين، في علاقة تبعيتهم، عرفوا كيف يقدمون لعبة، فضاء للعب، كشرط للحرية.
الأوربيون محظوظون لأن لديهم سيادة بدون إمبراطورية، وسيادة فارغة بطريقة ما، ويبقى إعادة التفكير في هذا الفراغ كشرط للمدنية والتمدن لجميع المناطق الأخرى من العالم، بدون نظرة إمبريالية، ووفق مثل ليست إكراهات يتم الاصطدام بها، بل كمعايير للقياس، وبكلمة واحدة كصندوق عدة صالحة للتفكير في حاضرنا.