ملخص شامل حول اطروحة "امحمد زكور" : الجغرافيا والتكوين الفكري : مساهمة في بناء نموذج ديداكتيكي وتطبيقاته على مستوى تقييم الطلبة المغاربة المجازين والمقبلين على مهنة التدريس" - عبد الرحمان شهبون

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"الحلقة الأولى"
إيمانا منا بالقيمة المضافة الديداكتيكية والإبستمولوجية لأطروحة "امحمد زكور"، وباستمرارية بريقها الفكري، وبثرائها الجغرافي، ولمحدودية تصورات العرض التربوي التي قدمته غالبية الأبحاث المنشورة إلكترونيا والتي ركزت أساسا على خطوات النهج الجغرافي (الوصف/التفسير/التعميم)، ارتأينا وتعميما للفائدة التربوية تقديم تلخيص شامل لمضمون هذه الرسالة التربوية وعلى حلقات مسترسلة، نظرا لطول وكثافة العرض التربوي.  

 


competences apprenant
الخطاطة المختزلة للنموذج الديداكتيكي المقترح من طرف الدكتور "امحمد زكور" لتدريس الجغرافيا بالتعليم الثانوي (ص : 162)

*مقدمة البحث 

تتضمن هذه المساهمة والتي شكلت أول أطروحة للدكتوراه في علوم التربية 1990 من جامعة (Vrije Universiteit Brussel) ببلجيكا، قسمين أساسين إضافة إلى مقدمة وخاتمة عامة للبحث :
*القسم الأول : نظري يتعلق ببناء نموذج ديداكتيكي لتدريس الجغرافيا بالمرحلة الثانوية يشمل ستة فصول وخلاصة (مجالات الجغرافيا/المفاهيم/النهج/الوسائل/الانتاجات الجغرافية...)
*القسم الثاني : تطبيقي يتعلق بتقييم الروائز الموجهة للطلبة المجازين في أفق ممارسة مهنة التدريس، بهدف إبراز فعالية النموذج الديداكتيكي المعتمد، ويتضمن ستة فصول وخلاصة.
في سياق مناولة مقدمة أطروحته ركز الدكتور "امحمد زكور" على أهداف بحثه التربوي – باعتباره أول بحث تربوي نوعي بالمغرب آنذاك ذو بعدين مزدوجين : تطبيقي ونظري يستهدف الارتقاء بتدريسية الجغرافيا – والمتمثلة في المساهمة في بناء نموذج ديداكتيكي متكامل لتدريس مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي بالمغرب، والعمل على أجرأته من خلال تقييم كفاءات الطلبة المجازين المغاربة والمقبلين على ممارسة مهنة التدريس، وباستحضار التوجهات التربوية الحديثة (الأهداف البيداغوجية/ظروف التعلم/التقييم...)، في أفق تجاوز الخطاب التقليدي المركز على المعرفة الجغرافية...
وقد حاول صاحب الرسالة تحديدإشكالية بحثه : بالصيغة التالية : "إن المربين (المقررين/المدرسين) الذين يهدفون إلى توسيع وتعميق المشاريع التربوية على مستوى تدريس الجغرافيا يجدون أنفسهم أمام نوعين من الخطابات : الخطاب الأول هو خطاب تقليدي يركز على المادة المعرفية في غياب البعد البيداغوجي، والخطاب الثاني هو خطاب تجديدي يركز على "الأبعاد البيداغوجية" والمحددة خارج سياق تداخل التخصصات".
*فالخطاب التقليدي المتمركز حول المادة المعرفية : ورغم بعض مزاياه بالنسبة لتدريسية الجغرافيا من خلال تنمية مهارات الملاحظة والتحليل والتركيب لدى
المتعلمين، إلا أن هذه المزايا لا تعتمد على أي تحديد إجرائي بقدر ما تصاغ بكلمات عامة، ويؤدي عدم التحديد الإجرائي للأنشطة الفكرية المرتبطة بالجغرافيا في اختصار منتوجها في شكل "أدراج" تمكن المتعلم من امتلاك ثقافة خاصة بوسطه المعيش. وهو ما يساهم في شحن ذهن المتعلم بالمعلومات المعرفية (الذاكرة) دون تمكينه من اكتساب المهارات والعمليات الفكرية المعقدة لتحليل المجال.
*أما الخطاب التجديدي المرتبط بالأبعاد البيداغوجية : فحاول تجاوز ثغرات ومساوئ التدريس التقليدي المتمحور حول التلقين المعرفي، والارتقاء بالعمل على تنمية المهارات الشخصية لدى المتعلم (المعرفية/الحركية/الوجدانية). ولتجسيد هذا التوجه التربوي الجديد ظهرت عدة نماذج ديداكتيكية تراعي مختلف أنواع الأهداف وظروف التعلم وطرائق التقويم، حيث ظهرت عدة صنافات للأهداف (بلوم/كراتوهول/هارو...) أغرت الباحثين الجغرافيين رغم نواقصها.
وفي محاولته تجاوز نقائص النموذجين التقليدي والتجديدي، يرى الدكتور "زكور" ضرورة العمل على كسب الرهانين الثنائيين التاليين :
*الرهان الأول : يهم مكاسب البيداغوجيا المعاصرة وخاصة ما يتعلق بمقاربتها النسقية والموضوعية للتفاعل الحاصل بين مكونات مشروعها التربوي...
*الرهان الثاني : يتعلق بوظيفية مادة الجغرافيا ودورها في تكوين مواطن المستقبل، هذا المشروع التربوي حسب منظور "زكور" يمر عبر تفكير ديداكتيكي ينظر
إلى الجغرافيا كمادة للتكوين الفكري للمتعلم (علم تطبيقي).
ويعتبر "زكور" أن بحثه هذا هو مساهمة في التفكير الديداكتيكي الذي ينطلق من تمحيص الإنتاجات الجغرافية بهدف استخراج مكونات الجهاز المعرفي للجغرافيا. حيث ينطلق ضمن هذا التفكير الديداكتيكي من معالجة مكونات الخطاب الجغرافي الذي يملك موضوعا خاصا به وهو المجال، كما يملك منهجية تضبط مجال البحث والدراسة وتقوم هذه المنهجية على ثلاثة أنشطة فكرية وهي الوصف والتفسير والتعميم، ويتم التعبير عن المعرفة الجغرافية بوسائل مختلفة يخضع كل واحد منها لمقاييس وضوابط محددة، كما تتميز المعرفة الجغرافية بمنتوجاتها (المفاهيم/الحقائق/الاقتراحات المجردة)، وهو ما يساهم في تعزيز الرأسمال المعرفي لتوضيح مظاهر عالمنا. ويركز "زكور" على الترابط النسقي لمكونات هذا النموذج مع الجوانب البيداغوجية (أهداف التعلم/ظروف التعلم/التقويم...).
*ويرى "زكور" بأن "مشكلة البحث" : تكمن في أن تدريس الجغرافيا بالمغرب لا يرتكز على نموذج ديداكتيكي قائم على الجغرافيا باعتبارها حقلا معرفيا لها وظيفية مجتمعية، ولها موضوعا ومنهجا ووسائل تعبيرية ومنتوجا خاصا بها. وفي غياب هذا النموذج القائم في مرجعية منطق المادة يواجه تدريس الجغرافيا عدة منزلقات رغم المجهودات المبذولة لهيكلتها وتنظيمها. وبالمقابل يكمن هدف هذا البحث في اقتراح آلية للفعل والتفكير تستهدف تطوير التصور والممارسة التربوية لتدريس الجغرافيا لفائدة الشركاء التربويين (المدرسين/المؤطرين/المقررين...)، في توافق مع مكتسبات البيداغوجيا المعاصرة وخصوصيات الجغرافيا كمادة دراسية. تتطابق آلية الفعل والتفكير المقترحة لبناء هذا النموذج الديداكتيكي بتناغم مع مجموع الجغرافيا بهدف التعريف بالعالم الذي نعيش فيه، وتمكين المتعلم باعتباره مركز العملية التربوية من بناء علاقات معرفية وتطورية معه...

القسم الأول : مساهمة في بناء النموذج الديداكتيكي
الفصل الأول : الجغرافيا ومفاهيمها المهيكلة (ص ص : 19-41)
1- ما الجغرافيا/موضوع الجغرافيا

تطور الجواب عن هذا السؤال عبر مسار الأزمنة التاريخية، حيث بدأ النقاش منذ العصور القديمة، وتجدد خلال العصور الوسطى، واستجلى خلال القرن 18، وتدقق وتنوع خلال القرن 20، من خلال نشأة العديد من التيارات الفكرية (الانسانية/الماركسية/السلوكية)...
وخلال مسار تطورها، اهتمت الجغرافيا بالمجال الأرضي، من خلال وصف المحاور الطرقية والدول لأهداف تجارية وعسكرية... وخلال العصور الحديثة والمعاصرة اهتمت الجغرافيا بشكل نسقي بالمجال الأرضي.
وبتتبع حصيلة الانتاج الجغرافي في شقه الإبستمولوجي والمنهجي، نلاحظ بأن الموضوع الذي ركزت عليه الجغرافيا هو دراسة "المجال الجغرافي". فالمقصود بالمجال الجغرافي هو "المجال المنظم والمبني من طرف الجغرافي انطلاقا من بعض خاصيات المجال الأرضي". المجال الأرضي يمكن اعتباره كمجال معطى، وكمنتوج، وكمجال معيش ومدرك، كما يمكننا اعتبار المجال الجغرافي كنسيج للعلاقات المتعددة الأبعاد بين المحيط الطبيعي والإنسان في بعده الاجتماعي، وهو ما يجعل المجال الجغرافي منفتحا على العلوم الإنسانية/الاجتماعية. ويجعل كذلك الجغرافيا محورا للتدريس، والانفتاح على إعداد التراب أو خدمة المشاريع المتعددة الأبعاد...
والملاحظ أن تنتظم المعطيات الجغرافية يتم ضمن إطار وحدات مجالية تراتبية، تنطلق من مستوى محدد (الجغرافيا الإقليمية)، إلى حدود مجموع الكرة الأرضية (الجغرافيا العامة الطبيعية والبشرية). فالعين اليقظة لدى الابستمولوجي تشرف وتوجه اختيار معالجة المعطيات وفق معيار المقياس. إن تقديم موضوع الجغرافيا رهين باستحضار المفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي وهي : المورفلوجيا، التوطين، والحركة.
وقد عمل الدكتور "امحمد زكور" ضمن مداخلة حديثة على تحديد دقيق لموضوع الجغرافيا : "تعني الجغرافيا بدراسة مجالية للمجتمع حسب المقاييس والتمفصلات المجالية التي يتم تحديدها. وللجغرافيا ثلاثة اهتمامات كبرى تتمثل في رصد الموارد المجالية، وتنظيم المجال (إعداد التراب)، ومعالجة الاختلالات المجالية (الكوارث البيئية)، إن التربية المجالية لا يمكن أن تأتي أكلها مع إغفال هوية المادة التي ننمي من خلالها خبرتنا حيال واجهة من الكون الذي نعيش فيه؛ أي المجال الجغرافي".[1]  

2- مفهوم المورفولوجيا :
يشمل مفهوم المورفولوجيا، كل المنبهات (stimuli) التي تمكن من إبراز شكل الظاهرة الجغرافية.
أ- مفهوم المورفولوجيا ومرادفاته :
يستخدم مفهوم المورفولوجيا أحيانا من أجل تحديد دراسة الأشكال التضاريسية، حيث تعتبر الجيومورفولوجيا الكلمة المناسبة من أجل تعريف هذا الفرع الجغرافي.
وتحدد الإنتاجات الجغرافية بعض الخصائص المتعلقة بمفهوم المورفولوجيا، ففي سنة 1925 نشر الجغرافي "كارل سويير" (Sauer) كتابا يحمل عنوانا "مورفولوجية المشهد"، فحسبه يتشكل المشهد من عنصرين هما : أحدهما طبيعي يتعلق بالمشهد الموجود قبل التدخل البشري، والعنصر الثاني هو ثقافي يتضمن المشهد المعدل من طرف الإنسان". بينما يرى "دولفيس" (Dollfus) بأن المورفولوجيا هي دراسة الأشكال من حيث : تنظيمها وتشابها وتكرارها وأصالتها". بينما تعتبر "بوجو كارنيي" (B-Garnier) أن ما يميز المورفولوجيا هي تواجد خصائص الظاهرة.

انطلاقا مما سبق يمكننا استخلاص ملاحظتين :
*الملاحظة الأولى : مفهوم المورفولوجيا هو مفهوم يغطي مجموع الجغرافيا لكونه يأخذ البعدين البشري والطبيعي، ويتوافق مع الوحدات الكبرى (المشهد)، أو مع الوحدات الصغرى (الجبل/هرم السكان).

*الملاحظة الثانية : يهتم مفهوم المورفولوجيا بدراسة الظواهر الجغرافية على مستوى حالتها، ومكوناتها، وشكلها.
ورغم أن مفهوم المورفولوجيا يظل فضفاضا، فإن مفهوم المظاهر هي التي يتم استخدامها ضمن الجغرافيا العامة (التساقطات/الرياح...)، لكن مفهوم المظاهر لا يمكننا من دراسة الظاهرة الجغرافية في حد ذاتها، أو تحديد التأثير الذي تمارسه على ظواهر أخرى ونتائجها.
ومن المفاهيم العامة التي يتم استخدامها كمرادفات للمورفولوجيا هي الخاصيات/المميزات، والتي تهتم بالشكل الخارجي للظاهرة (النوعي والكمي...).
ب- مكونات مفهوم المورفولوجيا : يتشكل مفهوم المورفولوجيا من الشكل والبنية والبعد/الحجم.
*الشكل : يتعلق بالخاصيات الخارجية للظاهرة الجغرافية (شكل الأرض) مثلا وصف شكل سلسلة جبلية يتطلب التمييز بين عدد من القيم حسب المقياس والتوجيه... وبالمقابل تستخدم بعض الكتابات الجغرافية كلمة الفيزيولوجية/الجانبية/المظاهر لكنها تظل أقل تحديدا.
*البنية : يتعلق الأمر بالمكونات الداخلية للظاهرة الجغرافية  مثلا البنية الجيولوجية/العقارية... والملاحظ أن بعض الكتابات الجغرافية تستخدم مفهوم "طبيعة" الظاهرة لكنها تظل أقل تحديدا. (الشكل والبنية : الخصائص النوعية للظاهرة).
*الحجم : تعني حجم الظاهرة الجغرافية أي قياس البعد الكمي للظاهرة الجغرافية. وتختزل خصائص الحجم القيم المتنوعة الخاصة بالجغرافية كالمسافة والمساحة والكثافة والصبيب والعدد والثمن... ويساهم استخدام المعطيات الإحصائية/الكمية (الرقم) من تدقيق عملية الوصف.
قياس بعض الأحجام يظل ثابتا ودقيقا مثلا الارتفاع المطلق/النسبي، بينما يصعب تحديد الأبعاد المتعلقة بالمسافة (المسافة/الزمن، المسافة/الكلفة...).
يمكن مفهوم المورفولوجيا من تدقيق هوية الظاهرة الجغرافية وإغنائها، ويتقاطع مع المفهومين الآخرين وهما التوطين والحركة.

3- مفهوم التوطين :      

يتضمن مفهوم التوطين مجموع المنبهات التي تمكن من تحديد القاعدة الترابية التي تتوطن عليها الظاهرة الجغرافية.
يتموقع مفهوم التوطين ضمن مركز الاهتمامات الجغرافية بالقياس الذي يمكن من تحديد نوعية وامتداد المجال الذي يحمل علامة وخاصيات وجه الأرض. هذه الخاصيات الجغرافية لا تأخذ معناها إلا من خلال دراسة العلاقة بالمجال كدعامة وعنصر (وسط العيش). كما أن الترابطات الجدلية التي تميز  العلاقات بين الظواهر الجغرافية تتمظهر وتتضح أساسا من خلال توطينها المجالي (مجاليتها)، فدراسة "الاختلافات/التباينات المميزة للمجال الأرضي" تقتضي من الجغرافي التوطين الدقيق للظواهر الجغرافية والتي تمثل إحدى أوجه الحقيقة الجغرافية.
فهاجس التوطين شكل ميزة للفكر الجغرافي منذ همبلت وريتر (Ritter/Humboldt) اللذان وضعا مبادئ الجغرافيا الحديثة من خلال :
1- تحديد العلاقات السطحية من أجل التفسير ما بين ثلاثة عناصر طبيعية وهي : الهواء والماء والأرض...
2- توطين الظواهر، من خلال توضيح امتدادها وتموقعها ضمن الإطار المجالي...
فمنذ 1878 اعتبر مارت (Marthe)  بأن موضوع الجغرافيا يتعلق بدراسة "أين تتموقع الأشياء". ومع بداية القرن 20 ركز الجغرافيون على الخاصية الأساس للتوطين الجغرافي من خلال معرفة "توزيع الظواهر الجغرافية على سطح الأرض".
كما اعتبر فيدال دولابلاش (V-De la blache) أن "الجغرافيا هي علم مكان"، في إشارة إلى أهمية إشكالية التوطين من أجل التحليل الجغرافي.
وبصفة عامة، فإن عمل الجغرافي لا يختزل في تحديد الأمكنة و الحد الأقصى من الأسماء. فالجغرافي يستثمر مفهوم المكان في علاقة بالظواهر الطبيعية والبشرية بهدف تعريف وتحليل الظواهر الجغرافية وفق المقياس المعتمد (مجموع الكرة الأرضية/جزء منها...).
منذ بداية القرن 20 توسع مفهوم المكان ليشمل مفهوم المجال الجغرافي. فالمجال الجغرافي يتميز "بالفكرة التي يحملها عنه الإنسان"، وبمحتواه من المكونات الطبيعية والبشرية والعلاقات الترابطية بينها. ومن هذا المنظور فإن المجال هو عنصر "ملموس" الذي ترتكز عليه موضوع الجغرافية. كما أن المجال له دلالات متعددة ينقسم ويقاس حسب معايير مركبة.
وعلى امتداد القرن 20 توسع مفهوم التوطين من خلال الكتابات الجغرافية، فدومارتون (E-De Martonne) يعتبر مفهوم التوطين مبدأ أساسيا (مبدأ التوسع)، فمبدأ التوسع يعني ضرورة توطين الظاهرة الجغرافية ضمن محيط توسعها الدقيق لأغراض تحليلية.
وبجانب البعد النظري، يأخذ مفهوم التوطين بعدا تطبيقيا/عمليا من خلال إعداد التراب الوطني "إشكالية توطين السكان والأنشطة هي من صميم عملية إعداد التراب الوطني..."

أ- أشكال التوطين :

المقصود بأنواع/أشكال التوطين الطريقة/الكيفية التي تتوزع بها الظواهر الجغرافية ضمن المجال. ومن أجل تصنيف أشكال توطين الظواهر الجغرافية في المجال، سنعتمد على إنتاجات كل من "إزنارد وبيرتان" (Isnard1981/Bertin1973) .
يأخذ التوطين 3 أشكال مختلفة وهي : التوطين النقطي والتوطين الخطي والتوطين المساحي/النطاقي.
*التوطين النقطي : (la localisation ponctuelle)
يمكن اختزال المجال الذي يحتله الظاهرة الجغرافية وتمثيله الكارتوغرافي باستخدام النقط، مثلا معمل/سد...
*التوطين الخطي : la localisation linéaire))
يمكن اختزال المجال الذي يحتله الظاهرة الجغرافية وتمثيله الكارتوغرافي باستخدام الخطوط، مثلا طرق المواصلات/المجاري المائية...
*التوطين النطاقي/المساحي : la localisation zonale))
يأخذ التوطين النطاقي/المساحي معناه عندما تحتل الظاهرة الجغرافية شكل نطاق مساحي، ويمكن تمثيلها الكارتوغرافي بخط لتحديد حدود النطاق أو بالرموز التي تمتد على مجموع النطاق الذي يشمل الظاهرة الجغرافية الموطنة. مثلا مجال دولة/سهل...
مقاربة أشكال التوطين (النقطي/الخطي/المساحي) يطرح بعض الحساسيات على المستوى المنهجي. بالنسبة للمهندس فالتوطين النقطي هو الأساس (الخط هو مجموعة نقط...)، ولأغراض ديداكتيكية سنهتم بمحتوى هذه الأشكال التوطينية أكثر من الاهتمام ببعدها الرياضي. كما يتدخل عامل أخر في هذا التصنيف التوطيني وهو عامل المقياس/السلم، مثلا يأخذ توطين مدينة على مقياس صغير شكل نقطة، بينما يأخذ على مقياس كبير شكل نطاق والذي يتم من خلال استثمار كل أشكال التوطين (التوطين النقطي من أجل تمثيل المعامل/التوطين الخطي من أجل تمثيل طرق المواصلات/التوطين النطاقي أو المساحي لتمثيل الأحياء السكنية...).
كما أن توطين الظاهرة الجغرافية وبغض النظر عن شكل/أشكال تمثيلها، ترتكز على معالم عامة تستخدم لتحديد موقع الظاهرة الجغرافية.

ب- عمليات التوطين :
نعني بعمليات التوطين، مجموع الآليات التي تمكن من تحديد موقع الظاهرة الجغرافية. ويمكننا التمييز بين نوعين من أشكال التوطين الجغرافي :
*التوطين المطلق : في علاقة مع مجموع الكرة الأرضية، اعتمادا على الإحداثيات الجغرافية لتحديد موقع الظاهرة الجغرافية مثلا تحديد نطاق مناخي (خطوط العرض أساسا)،
*التوطين النسبي : التوطين في علاقة بالمعطيات الجغرافية، يتعلق الأمر بتوطين الظاهرة الجغرافية بالعلاقة مع مجال واضح/مجموعة ترابية مثلا موقع المغرب بالنسبة للقارة الإفريقية أو تحديد موقع سلسلة جبلية داخل مجال معين...
التوطين النسبي للظاهرة الجغرافية يقتضي التحديد الدقيق للموقع والموضع (مدينة فاس).

ج- مفهوم التوطين بين الوصف والتفسير والتعميم :
عندما نقدم نموذجا للتوطين (النقطي/الخطي/النطاقي او المساحي) ونموقع ظاهرة جغرافية معينة، يظل عملنا وصفيا خالصا. هذا العمل الوصفي يستخدم بنية من المفاهيم المجالية المتنوعة التي تبرز حيوية مفهوم التوطين. وبصفة عامة يمكن تصنيف هذه المفاهيم بالطريقة التالية :
*المجموعة الأولى : يمكن تجميعها حول مفهوم التوطين حيث تشمل مفاهيم الارتفاع/الطول/العرض/الموقع الموضع...
*المجموعة الثانية : تتمركز حول مفهوم التوزيع، ويتعلق الأمر بنمط استغلال المجال من طرف ظاهرة جغرافية، وتشمل مفاهيم التوزيع/التوسع/التشتت/التمركز/التجمع/الاستقطاب...
*المجموعة الثالثة : تتوسط المجموعتين السابقتين بهدف تدقيقها، وتضم مفاهيم المسافة/والمساحة/الكثافة...
يهدف هذا العمل الوصفي من خلال المجموعات الثلاثة إلى الإجابة عن السؤال التالي : أين تتوطن الأشياء؟ والانفتاح على التفسير الذي يهدف إلى الإجابة عن السؤال التالي : لماذا تتوطن الأشياء عند هذا المكان؟ وتفسير توطين ظاهرة ما يقتضي وضعها بالموازاة مع ظواهر أخرى بهدف استخراج بعض العلاقات المجالية المحلية أو البعيدة. ضمن هذا المنظور يتم بناء "مقاطع مشهدية" بهدف الملاحظة الشفافة والعمودية لبنية الترابط الجغرافي.
ويستهدف تفسير توطين الظواهر الجغرافية استخراج المبادئ المتحكمة في عملية التوطين. وبصفة عامة، يشكل هاجس التوطين انشغالا جغرافيا أساسيا، من خلال البحث عن بنية النظريات المجالية والتي اعتبرت كمؤشرات عامة لتصنيف العلوم.

4-مفهوم الحركة :
سطح الأرض الذي تدرسه الجغرافيا لا يتشكل فقط من الظواهر الثابتة والقابلة لتمييزها حسب مورفولوجيتها وتوطينها. بل إن المجال الجغرافي يعج بالحركة والدينامية.
يشمل مفهوم الحركة "مجموع الملاحظات التي تأخذ بعين الاعتبار، التحولات والتطورات الطارئة على الظاهرة الجغرافية في الزمن والمكان".
يرتكز مفهوم الحركة على اتجاهين هما : الحركة في الزمان (التساؤل عن ماضي الظاهرة من أجل فهم حاضرها)، والحركة في المجال. المجال والزمان هما عنصرين وثيقي الترابط ولكن سندرسها بشكل منفصل لأغراض ديداكتيكية.

أ-الحركة في الزمان :

تعني حركة الظاهرة الجغرافية في الزمان تطورها عبر مختلف المراحل وصولا إلى وضعيتها الحالية. فالمجال الجغرافي يحمل بصمات الماضي البعيد، وتمكن دراسة هذه البصمات إعادة تركيب تطور الظاهرة الجغرافية (دور التاريخ).
الاستعانة بالتاريخ هدفه فهم الحاضر من خلال التركيز على الأحداث والعناصر الثابتة التي أثرت على تنظيم المجال الجغرافي. ومن أجل استثمار الماضي يعتمد الجغرافي على ثلاثة مقاربات :
*استثمار التاريخ بشكل تحليلي بهدف فهم تطور مختلف الظواهر (البنيات العقارية/الشبكات الحضرية...).
*استثمار جزئي للتاريخ بهدف المعالجة المناسبة للموضوع في الماضي، قبل تشخيص وضعه الحالي.
*يمكن للجغرافي الانطلاق من الحاضر والعودة التدريجية للماضي بهدف توضيح نشأة الظاهرة المدروسة.
لكن الزمان يطرح أمام الجغرافي إشكالية المقياس/السلم، فالظواهر الجغرافية لا تتطور بنفس الوثيرة (فقياس الزمان بالنسبة لتطور سفح جبلي يختلف عن الزمان الذي تنساب فيه المعلومة حاليا...).
وقد عمل الجغرافيون على اقتراح تصنيفات زمانية وفق منطوق مادة الجغرافيا. فدولفيس (Dollfus1971)  يميز بشكل عشوائي بين 3 أصناف من الأزمنة وهي :
*الزمن التكراري : المتميز بعودة الظواهر بشكل منتظم حسب دورات ويعتمد كوحدة قياسية اليوم والسنة.*الزمن التاريخي : المتميز بتأثيراته التراكمية ويعتمد كوحدة قياسية عقد من الزمان، أو قرن أو آلاف السنين...
*الزمن الجيولوجي : لقياس تحولات القشرة الأرضية، يعتمد كوحدة قياسية ملايين السنين...
فالتطور الزماني للظواهر الجغرافية يجعل الجغرافي أمام حركات مختلفة، فكل ظاهرة تنتمي لحقبة معينة وتتطور حسب وثيرة خاصة بها (نظرية وليام موريس دايفس حول تطور التضاريس : مرحلة الشباب/النضج/الشيخوخة).

ب – الحركة في المجال :

نعني بالحركة في المجال تنقل الأفراد والخيرات أو الظواهر الطبيعية على سطح الكرة الأرضية. وتعالج الإنتاجات الجغرافية الحركة في المجال تحت زاويتين هما :
*الزاوية الأولى : الحركة في المجال في حد ذاتها، والمهيكلة بسلسلة من المرادفات مثلا الهجرات المغادرة/الهجرات الوافدة، الترحال والانتجاع، والتيارات بمختلف أشكالها/المبادلات... وتتميز الحركة في المجال بالخصائص التالية : الحدة (تقاس بالسرعة والكمية والعدد)/التوجيه (اتجاه الحركة من نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول مثلا الاستثمارات...)/الامتداد (إشعاع العملية قد يكون كونيا أو نطاقيا أومحليا /الوثيرة (مستمرة أو متقطعة...).
*الزاوية الثانية : تتعلق بالتأثير المزدوج للحركة على المجال من خلال البنية التحتية الضرورية لانتشار الحركة (شبكات طبيعية/أودية... أو بشرية /شبكات المواصلات )، وتأثيرها على تنظيم المجال.
تشكل الحركة في الزمان والمجال موضوعا للوصف وللتفسير وللتعميم. فعلى مستوى الوصف نقدم نشأة الظاهرة الجغرافية وامتدادها في المجال. وعلى مستوى التفسير نهتم بتقديم العوامل التاريخية والجغرافية التي توجه تطور الظاهرة حسب وثيرة واتجاه معينين...
يكتسي مفهوم الحركة أهمية حيوية ضمن الدراسات الجغرافية لكونه يمكن من تحديد تطور الظواهر في الزمان والمكان...  

(يتبع في الحلقة الثانية)

 

[1] - امحمد زكور، 2012، "الديداكتيك من منظور العلوم الاجتماعية، ص : 110. وزارة التربية الوطنية، الوحدة المركزية لتكوين الأطر، الجامعة التربوية لفائدة الأساتذة الباحثين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، المحور الرابع : منهجيات تدريس المواد الإشكالات والمكونات والتوجهات العامة،

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

شكرا لك أستاذي

hssini houssine
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟