دلالات حضور التجربة والتجريب في الاكتشاف والتعلم - خالد الزعيمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن تناول بعض المفاهيم الإبستيمولجية  في ثقافتنا ( العربية والأمازيغية الإسلامية)  بالدراسة أو استعمال معناها في تداولاتنا الكلامية في الشارع أو في الحجرات المدرسية ، لا يستوفي حقيقتها الكاملة ، بحيث إنه يبقي على شيء من الغموض  و الإبهام فيها ، والسبب خلف ذلك ، هو تلك القطيعة اللاشعورية التي ترسخت في ثقافتنا عن العلم الخالص ،  وذلك الملل الذي ينتابنا ويدفع بنا إلى النفور من التعلم لسد الفضول المعرفي . من بين أهم هذه المفاهيم  ، اخترت لكم مفهوم التجربة والتحقق التجريبي ، هذا المفهوم ، الذي يعتبر أهم  مفاهيم  الممارسة العلمية . إنه لا يحظى بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين ، وحتى إذا تدارسوه ، فإنهم لا يضعونه في سياقه الصحيح ، فما أوفر الأدلة التي يمكن سياقتها على مشروعية هذا الحكم ؛ لننظر فقط الى بنية ومعدات مختبراتنا العلمية في مؤسساتنا التعليمية  وجامعاتنا ، لن تجد سوى أدوات منسوخة عن ألعاب أطفال رديئة ، لا تختلف عن الصور الوثائقية في شيء . سترى مستوطنات العناكب في الفراغات الكثيرة  ، في ظل هذه الحال المزرية ، أصبح طلب العلم لذاته تخلفا مهولا في اعتقاد عامة الناس  ، وبات فعل الكشف العلمي تفاهة .

وبالمقابل أنطبع التصور العجائبي للعلم في ذهنية ثقافتنا الخاصة كتقليد وترديد لمخلفات العلم المسموح بمرورها عبر حواجز الجمارك الغربية ، كمحاكاة لطرق تشغيل اختراعات علم المتفوقين ،  و كتشجيع  لهم وانبهارا بما وصلوا إليه ، هذه صورة علمنا  . حتي ندخل صلب الموضوع ، يمكن أن نطرح الإشكال التالي ، على أمل أن ننصف هذا المفهوم الإبستيمولوجي ونرد له الاعتبار ؛ ما دلالات التجربة والتحقق التجريبي في الممارسة العلمية الفعلية ؟ ما هي أدوارهما في بناء العلم  وما الغاية منهما ؟

إننا في درس الفلسفة نطرح أسئلة فلسفية بخصوص مفاهيم فلسفية كثيرة مثل الحقيقة والنظريات العلمية والتجربة والتجريب ، و العلمية ... ونتناولها وفق الإشكالات  المقررة حسب التوجيهات التربوية الرسمية . لكننا حقيقة نجهل ما نقوم به ، فنحن لا نفعل في اخر المطاف إلا أننا  نحلل مكونات تلك المفاهيم ونبني حولها مفاهيم أخرى ، وكل ذلك يبقى في حدود دائرة التصور والتخيل ، فهل هذا هو ما يقدس تحت اسم تعليم التفلسف ؟  لا أرى في هذا  إلا عرضا لتاريخ [ أفكار فلسفية ] مبتور ومبعثر، محدود في الماضي . اسمحوا لي أن أصوغ بعض الاستنكارات بهذا الشأن  : هل تعليم التفلسف هو تعليم القراءة الفلسفية للنصوص أم تعليم إنتاج فلسفة خاصة ؟ هل تعليم التفكير الفلسفي هو تعليم أساليب المحاججة من خلال استحضار نماذج جاهزة أم يعني بالأحرى نقد هذه النماذج ؟ هل هو تعليم اشكالات محنطة وتدريب المتعلم على اتقانها وحفظها ، أم أنه بالأحرى صياغة أسئلة لم تصغ بعد ، والتساؤل حول القديمة ؟ لا أعني بهذه الاستنكارات الممارسة العملية للأستاذ ، بل أخاطب أولئك الذين وضعوا هذا البرنامج حسب هكذا فهم للفلسفة وللتعلم ، هل يحلمون بالتغيير وهم أنفسهم لا يعرفون معناه الحقيقي ؟ العيب في هذا ، أننا لا نعرف الحقيقة ، ولا نفقه ما معنى البحث الحقيقي عن الحقيقة ، ولم نجربه أبدا كما خبره الفيلسوف الحقيقي ولم نبدع كما أبدع . فالمفكرون المعدودون لدينا هم قراء للفكر الفلسفي فقط ، قراءة مقارنة وليسوا مكتشفين . لست ضد القراءة الفلسفية للتراث ، لكني أشترط أن تكون هذه  القراءة عتبة قطائع واكتشافات وتجاوز ، فحقيقة موضوع معين لا تتوقف في إطار نص كتب حوله ، بل إن نطاقها أوسع بكثير من ذلك ، ففي النصوص الفلسفية تختفي ضمن التأكيدات والإثباتات والتنبؤات عوالم لا متوقعة في ذهن الكاتب ، يتوجب على الناقد أن يبحث عنها و ينطلق منها في بحثه .
رغم أن مفهومي التجربة والتحقق التجريبي ينتميان إلى حقل الإبستيمولوجيا  والممارسة العلمية ، فإنهما يمثلان منهجا فعالا في التعلم  التعليم ، فمن خلال التجربة نتعلم وننتقد ونكتشف ونتعلم كيف نتعلم في جميع المجالات المعرفية ، فلا يمكن أن ننتج علماء كبارا إذا لم ننتج علماء صغارا .
عموما إن لكل نظرية علمية دليل تجريبي تستند عليه في تأكيد صحة  تفسيراتها  لظاهرة  فيزيائية  معينة ، فالتحقق التجريبي من النظريات العلمية ، هو في الحقيقة اختبار دقيق وصارم لمدى تطابق ما تقوله النظرية  وما يجري في واقع الظاهرة المدروسة . ان هذا التحقق الذي يجريه عالم الفيزياء أثناء عملية البحث والتفكير في الموضوع الذي يشتغل عليه ، يكون دائما تحققا مزدوجا : من جهة يكون على شاكلة فحص عقلي  لسلامة البناء المنطقي للنظرية ، وهذا ما أكده  الإبستيمولوجي النمساوي كارل بوبر ضمن كتابه منطق الكشف العلمي  في إطار وضع المراحل الإجرائية لتكذيب نظرية ما ، أو لتمييز العلم عن اللاعلم ، فعد  فحص المتن المنطقي للنظريات واستطلاع مدى اتساق استدلالاتها  ، المرحلة الأولى للفصل بين العلم الحقيقي والزائف . لكن ما أريد أن أشير إليه هنا ،  أن هذا الفحص من النوع الذي ذكرنا ، لا يأتي متأخرا عن الممارسة العلمية ، كما لا يمارسه رجل ناقد للعلم ، بل يمارسه رجل العلم ذاته ويطبقه على أفكاره دوما ، فهو لا ينفك عن تمحيص استدلالاته  والتنقيب عن مكامن الخطأ في تركيب أجزاء القضية . أما المستوى الثاني من التحقق ، فتتم فيه مقارنة العناصر المتضمنة في النظرية  بعناصر الحدث الطبيعي ، فالتجربة تقوم في هذا المقام بالمحاكاة الحقيقية للواقعة  ،  ويبقى مقدار التطابق بينهما هو الحكم  . زيادة على ذلك ، إن للتحقق التجريبي دلالات كثيرة ، لا تقل عن عدد أساليب الاستدلال العقلي أو الأساليب البلاغية التي تستعمل في الحجاج ،  فضلا عن أن له نفس وظائفها وأهدافها  ، وإن كان التحقق التجريبي استدلال مادي يحاور الطبيعة  ، و الحجاج استدلال عقلي يستهدف  الأشخاص ، فالاختبار التجريبي يلازم  الباحث الفيزيائي في كل مراحل وأطوار دراسة المسائل العلمية ، فتارة يأخذ ه  للتأكيد والاثبات : كأن يؤكد مثلا استنتاجا وصل إليه في أبحاثه  أو ورد في أبحاث علمية سابقة . وثارة يستعمله للدحض ، مثل أن يعد تجربة لنقض مبدأ  أو قانون علمي جاء في نظرية أخرى ، كما يمكن أن يستعمل للاستدلال بالخلف للتأكيد أو للنفي ، فضلا عن اعتماده لتفسير النظرية وشرحها وتعليمها للناس ، ناهيك عن كونه مصدر سلطة النظرية ذاتها .
عموما  إن  محطة  التحقق التجريبي هي لحظة  لفلسفة   العلم والتعلم  والتعليم   ، وذلك أن في  أثنائها  يدور في ذهن العالم تفكير حقيقي في الموضوع ، بشكل مكتمل ومتميز وواضح  حتي يحقق جميع حاجاته في  العلم  ، لعل هذا ما قصده عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه  لما أكد أنه لكي يكون الإنسان عالما يجب أن يلكون فيلسوفا . وهذا إن دل على شيء ، إنما يدل على أن العلم الاختباري ، يكون مسبوقا  بفكر نظري موجه  يقود عملية التحقق ، أو كما كان يحلو لألبرت انشتاين تسميته بالخيال . طبعا إن الخيال العلمي هو المحرك الأساسي للنشاط العلمي ، فلولاه  لكان مجال خبرتنا مجالا محدودا خصوصا عندما نتعاطى مع ظواهر لا يمكن الاحاطة بها بواسطة الملاحظة الحسية .
يحتل العقل داخل عملية التحقق التجريبي حيزا كبيرا ، ضمن عملية بناء المعرفة العلمية حول الموضوع ، فله الفضل في هيكلة وتصميم الاختبارات المستمرة ، سواء كان اختبارا خياليا أو واقعيا . لا ننكر دور الملاحظة العينية هنا بطبيعة الحال ، فحضورها لا لا يمكن الاستغناء عليه  سواء داخل المختبر أو خارجه  ، فهي تكمل النظر العقلي حينما يكون بصدد إنشاء العلاقات والروابط بين أجزاء الظاهرة ،حيث تساعده على  اختيار الأشكال الهندسية ، التي تؤلف هياكل الواقعة المدروسة . لكن رغم كل ذلك ، يبقى العقل سيد العلم ومبدؤه ومالكه ، فهو يشتغل معتدا بالشك والحيطة والحذر ؛ ليحلل الاشكال الهندسية التي تمده بها المشاهدات الحسية ، ويستنبط منها العلاقات الرياضية ، ويعممها في صورة قانون طبيعي . هكذا يتم النشاط العلمي ؛ إنه الكشف  بواسطة العقل عن المجهول بدلالة المعلوم . أما الملاحظة الحسية ، ففي بعض الأحيان نتفاجأ بأنها عمياء ، وأن الإبصار بالعقل أقوى بصرا منها ، فهي لا تبصر في العلم جيدا .
إن التحقق التجريبي النهائي من نظرية معينة ، أو ما يدعى بالتجربة الحاسمة ، ليس تحققا من فكرة علمية  واحدة معزولة ، بل هو تحقق من سلسلة من الأفكار العلمية ، فالنظرية العلمية  عامة  والفيزيائية كما وصفها  بيير دوركهايم  هي نسق من القوانين المستخلصة من البحوث ،  فاختزال النظرية في فكرة واحدة أو في قانون أوحد ، يعبر عن فهم ناقص للنظرية ، إدا لم نقل أنه يوقع في إساءة فهمها ، أما الفهم الصحيح فينظر إلى النظرية كنسق وكنظام من الأفكار المترابطة ، ويتتبع ترتيبها .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟