معلوم أن الجهود السابقة للثورات البورجوازية تمخضت عن تراكم إبستمولوجي تاريخي من حيث المادة والتقنية، فقد تنوعت موضوعات التاريخ، وتشعبت مباحثه، وتعددت أساليب روايته وطرائقها، وتباينت رؤى رواته بما يتمشى وطبيعة التطور السوسيولوجي.
وبديهي أن تفرز الصحوة البروجوازية بنزعتها الليبرالية في التفكير أعلاماً في حقل المعارف التاريخية، لإحداث النقلة في هذا الميدان، بما يواكب التطور الجديد. ولكن الانعطافات الفكرية الكبرى لا تحدث بين عشية وضحاها، فوفقاً لقوانين الجدل يتم التحول تدريجياً، ويظل الفكر السالف يمارس فعالياته إبان عمليات التحول حتى يتلاشى رويداً رويداً، في الوقت نفسه الذي يولد فيه الفكر الجديد ليحل تدريجياً محل القديم.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار ما سبق تأكيده من أن نمط الإنتاج البورجوازي السائد بأبنيته الفوقية ـ بطبيعة الحال ـ ولد ولادة متعسرة لم يبرأ من عاهاتها تماماً، مما أعطى نفساً للنمط الإقطاعي الآفل، أدركنا سر استمرارية أغطيته الفكرية تترنح لفترة طويلة دون أن تموت.
في ضوء هذا التحليل يمكن القول: إن المعطيات السابقة لعصور ما قبل الصحوة بصدد الفكر التاريخي ظلت متواجدة في عصر الصحوة، وأن تجاوزها تم بعد تمثلها واستيعابها، وأن هذا التجاوز تم ببطء، لأن معطيات الماضي أصبحت موضوع أولئك الذين تجاوزوا تصور الماضين له.
نفصل ذلك فنقول: إن موضوعات المعارف التاريخية السابقة ظلت في المرحلة الأولى من نشأة علم التاريخ إبان عصر الصحوة هي هي من حيث الشكل، وإن لحقها تطوير في المضمون والمنهج والرؤية. فرواية السير والمغازي وأخبار التراث القبلي والقصص القديم ظلت تشكل عصب المعارف التاريخية في المرحلة التي نحن بصددها، وإن كان من الملاحظ حدوث تطور مؤداه جمع السير والمغازي مع القصص القديم في مبحث واحد.
وقد برز في هذا الصدد عالمان شهيران هما محمد بن إسحاق (ت 151هـ ) ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ ) يعزى إليهما الفضل في تطوير هذا الفرع من المعرفة التاريخية. ولا غرو، فهما إفراز لعصر الصحوة البورجوازية أي من أصحاب الاتجاه الليبرالي، فالأول قدري الفكر شيعي الهوى أخذ بعض علمه عن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي، والثاني كان ذا ميول علوية، وكلاهما حظي بمؤازرة النظام العباسي (المتبرجز) فقد اشتغل ابن إسحاق في خدمة المنصور وحاز رضاه حتى لقد كتب سيرة الرسول وأهداها إليه، كما كان الواقدي من قضاة المأمون الذي أغدق عليه لاستنارته، ومعلوم أن هذه الظاهرة من مآثر الصحوة البورجوازية.
لذلك تعددت مصادرهما، فابن إسحاق نهل من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية والروايات السابقة والقصص اليماني والشعر العربي فضلاً عن تراث الفرس واليهود والنصارى، الذين أطلق عليهم في كتبه (أهل العلم الأول). والواقدي عرف بالدقة في تحري معلوماته، يقول في هذا الصدد: ((ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته: هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمنا قضينا إلى الموضع فأعاينه … وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه)).
وانعكست موسوعية الثقافة على ما صنفا، برغم تخصصهما أصلاً في السيرة والمغازي، فابن إسحاق فضلاً عن سيرته المشهورة صنف (عن تاريخ الخلفاء)، فتناول العصرين الراشدي والأموي، وإذا ما علمنا أن القسم الأول من سيرته المعروف (بالمبتدأ) تناول فيه أخبار الماضين فيكون بذلك قد مهد لمن جاء بعده لكتابة تاريخ عالمي. أما الواقدي فقد تنوعت رسائله ((إذ كتب في المغازي وصنف رسائل متفرقة في الردة ويوم الدار وصفين والجمل وفتوح الشام والعراق)). وفضلاً عن كتابه (التاريخ الكبير) صنف رسائل أخرى ذات مضمون اقتصادي اجتماعي، كتلك التي تتعلق بالشفعة والصدقة والوديعة والبضاعة والمضاربة والسرقة والحدود والشهادات.
وتبرز تأثيرات الليبرالية واضحة في منهجيهما، فابن إسحاق أبدع منهجاً جديداً في دراسة السيرة النبوية، قوامه الجمع بين سيرة الرسول ومغازيه وبين التراث العربي القديم. إذ قسم موضوعه إلى ثلاثة أقسام: الأول سماه (المبتدأ) ويتناول تاريخ ما قبل الإسلام، والثاني (المبعث) ويعرض لفترة الرسالة، والثالث (المغازي) ويؤرخ لغزوات الرسول. ولم يحفل كثيراً بالإسناد بقدر الاهتمام بسلاسة العرض التاريخي، ونقد الروايات. أما الواقدي فقد أثر عنه الموضوعية والدقة في تحري الحقيقة، وحديثه السابق مصداق لما نذهب. هذا فضلاً عن إغفال الإسناد، والاهتمام بتسلسل الرواية، فكان ((يجيء بالمتن واحداً مع أن جزءاً منه لبعض الرواة والآخر لرواة آخرين)).
لا شك أن هذه الجهود التي شكلت تطويراً للفكر التاريخي في هذا الفرع من المعارف التاريخية لم تلق قبولاً لدى أصحاب الاتجاه النصي. ولما كانوا عاجزين عن مجاراتهم في هذا الصدد، تحاملوا على ابن إسحاق والواقدي، وطعنوا وشككوا في أعمالهما. فلا يخفي العداء بين ابن إسحاق والإمام مالك، وهذا يفسر قول ابن النديم ((وأصحاب الحديث يضعفون ويتهمون ابن إسحاق)). وللأسباب نفسها طعن أهل الأثر في الواقدي ((وكان مطعوناً عليه غير مرضي الطريقة)).
ومع ذلك ساد الاتجاه الليبرالي الجديد في كتابة السير والمغازي، وأخذ ينتشر في الشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس بفعل الاتصال التجاري والثقافي، ولا غرو فقد أطراه الدارسون المحدثون.
أما الاتجاه النصي التقليدي فظل يمارس نفوذاً خافتاً وهامشياً، فقد وجدت بعض ظلاله في أطراف العالم الإسلامي الغربي نظراً لغلبة المذهب المالكي. واختلطت لذلك روايات السير والمغازي بالفقه والحديث. ففي مصر أثر عن الفقيه الليث بن سعد روايات في السيرة والمغازي أفاد منها ابن عبدالحكيم في فتوحه، والشيء نفسه يقال عن فقهاء المالكية في المغرب الذين تتلمذوا على مالك وتلامذته في المدينة ومصر، ونقلوا رواية أهل المدينة عن السير والمغازي ـ فيما نقلوا ـ إلى المغرب، ودبجوا بها مقدمات كتبهم عن طبقات المالكية. وبرغم تأخر ظهور هذا النوع من المعارف التاريخية في الأندلس ـ لتأخر الفتح ـ نعتقد أن ابن القوطية الذي كتب عن افتتاح الأندلس أحاط بشيء من علم المالكية في السير والمغازي تظهر أصداؤه في ثنايا كتابه.
ومع ذلك، فقد راجت في تلك الأقاليم (القصية) بضاعة ابن إسحاق والواقدي، برغم غلبة مذهب مالك عليها، وإن كان لذلك من تفسير فيكمن في سيولة المد البورجوازي بفكره الليبرالي ليغمر كل أجزاء الإمبراطورية، حتى لقد تطورت المالكية ذاتها لتجاري مجريات التطور.
وشهدت تلك الحقبة ـ فضلاً عما سبق ذكره من إثراء الفكر التاريخي المتعلق بالسير والمغازي في موضوعه ومنهجه ـ ظاهرة على جانب كبير من الأهمية تتعلق بهذا النوع من الفكر، ألا وهي ميلاد نوع جديد من المعرفة التاريخية، انبثق من كتابة السير والمغازي عرفت (بالطبقات) أو (تراجم الرجال). فلم يعد الاهتمام ينصب فقط على حياة الرسول ومغازيه، بل انسحب على الشخصيات الشهيرة ذات الفاعلية في الحياة العامة من صحابة الرسول وتابعيه وتابعي تابعيه.
ولا غرو، فقد كان الواقدي أول من طرق هذا الميدان، وعنه أخذ تلميذه وكاتبه ابن سعد الذي ألف (الطبقات الكبرى) لتصبح أنموذجاً احتذاه كتاب التراجم فيما بعد، وطوروه ليحتوي أعلام المشاهير في ميادين الحياة العامة برمتها. ويعتقد روزنتال أن ما اختطه ابن سعد من نهج ترتيب التراجم على أساس زمني ـ كذكر الصحابة أولاً، ثم التابعين فتابعي التابعين … إلخ ـ مقتبس عن التقاليد اليهودية. وسواء صح هذا الاعتقاد أو غيره ـ مما ينسبه إلى طرائق المحدثين ـ فالثابت أنه كان من معطيات عصر اتسم بالانفتاح الثقافي، ولم يجد أهل العلم غضاضة في اقتباس ما يعين على تقدم الفكر وتكريسه لخدمة المجتمع، طالما كانت مهمة المشتغل بالتاريخ (معرفة الواقع البشري على النحو الذي جرى، ذلك الواقع الذي ينطوي على شكل عقلاني ومادي للفكر).
وبديهي أن يظهر التأثير المادي العقلاني لعصر الصحوة البورجوازية في انبثاق تصورات عقلانية لمفهوم التاريخ. حتى لو تعلق الأمر بسيرة الرسول وصحابته ومغازيهم، طالما كانت هذه الأحداث جزءاً من تراث دنيوي له فعالياته في واقع الأمة وتطورها. وهذا يدفعنا إلى القول بتفتق الصحوة عن تكوين (بواكير نظرات تاريخية). ويرى البعض أن هذه النظرات كانت تدور حول فكرة (تسيير المشيئة الإلهية للتاريخ). وفي الاتجاه نفسه يمضي البعض الآخر فيقول: ((بانتفاء أي أثر للسببية في تفسير سيرة الرسول)).
وإن صح هذا الاعتقاد، فهو لا ينطبق إلا على رواة السيرة والمغازي في الحقبة الإقطاعية السابقة، حيث ساد الفكر النصي الجبري. أما في عصر الصحوة البورجوازية فقد غلبت العقلانية وظهرت روح النقد، ولا غرو فابن إسحاق والواقدي كانا من القائلين (بالقدر)، أي دانا بالاعتزال الذي يؤكد مسئولية الإنسان عن أفعاله. وبرغم (قداسة) موضوع دراساتهما لم يتورعا عن إعمال العقل في نقد الروايات (الثيولوجية)، بل عمدا إلى مصادر غير إسلامية في استقاء المعلومات، كالإسرائيليات والأدب الشعبي. وما قاما به من تعليقات على بعض الأحداث بقصد تعليلها، تؤكد غلبة الرؤية الدنيوية في التفسير، ولقد كان ذلك ـ كما قلنا ـ من أسباب حملة أهل الحديث والأثر عليهما.
قصارى القول: إن نقلة الفكر التاريخي الخاص بالسير والمغازي نتيجة من نتائج الصحوة البورجوازية، وإن بقاء أصداء للسلفية في هذا الصدد مرتبط بالوجود الهامشي لبقايا الإقطاعية، وإن الصراع بين الاتجاهين قرينة على صدق مقولة سوسيولوجية الفكر.
وفي ميدان التراث القبلي، تظهر معطيات الصحوة في وضوح أكثر باعتباره موضوعاً دنيوياً قحاً. والصواب أن نسمي هذا النوع من المادة التاريخية (التراث الاجتماعي)، لأنه تطور في عصر الصحوة بحيث لم يقتصر على رواية أخبار القبائل العربية وأنسابها فحسب، بل امتد إلى الاهتمام بالمباحث الأثنولوجية العربية وغير العربية. ولعل مما يزكي هذه التسمية اختفاء النزعات العصبية في تناول هذه المعارف ـ على الأقل من جانب النسابة البورجوازيين ـ بل جرى الاهتمام بها في الغالب الأعم باعتبارها تراثاً تاريخياً ليس إلا.
ولا غرو فقد دخل مثقفو الموالي هذا الميدان الذي كان من قبل حكراً على رواة العرب، واهتموا بمعرفة إثنولوجيا العرب إلى جانب إبراز تراث شعوبهم في هذا الصدد. وبالمثل اهتم النسابة من العرب بالتراث الإثنولوجي لغير العرب إلى جانب تراثهم. وفي كل الأحوال تم تناول هذه الموضوعات بروح علمية، وإن لم تخل في أحيان قليلة من بصمات نزعة التعصب الشعوبي، وخاصة من جانب النسابة (النصيين). ومعلوم أن ظاهرة الشعوبية التي تناولها الدارسون وفسروها على أساس التعصب السلالي، لم تكن في جوهرها إلا مظهراً من مظاهر الصراع الطبقي بين البورجوازية والإقطاع.
ولما كانت السيادة للبورجوازية، فإن مثقفيها فهموا (الشعوبية) فهماً (أممياً) قوامه المساواة بين الشعوب، لذلك عرفوا (بأهل التسوية). أما الحفنة القليلة ذات الانتماء الطبقي الإقطاعي ـ من العرب وغير العرب ـ فهي التي نظرت إلى (الشعوبية) نظرة تمايز، فتشدقوا بأمجاد شعوبهم، وتفننوا في إظهار مثالي الشعوب الأخرى. وفي الحالتين معاً أثرى نتاج المباحث الإثنولوجية دراسة التاريخ موضوعاً ومنهجاً وفكراً.
وقد مثل التيار البورجوازي الليبرالي محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام (ت 204هـ ) والهيثم بن عدي (ت 206هـ ) من العرب، وأبو عبيدة من الفرس. وتنم رواياتهم عن سعة في العلم، واستخدام الأنساب لخدمة التاريخ.
فالأول كان عالماً باللغة والتاريخ، وينم منهجه عن التدقيق في استقاء الأخبار ((فكان يلجأ إلى مَن يعول عليهم من الخبراء في كل قبيلة)). والثاني كان متمماً لأعمال أبيه، وفضلاً عن تعمقه في الأنساب كان على دراية بالتاريخ العربي قبل الإسلام وبعده، بالإضافة إلى تواريخ الفرس وغيرهم. وكتابه القيم (جمهرة النسب) صار عمدة الإخباريين والمؤرخين فيما بعد.
والثالث يمكن اعتباره (مؤرخاً) بكل ما تعني الكلمة من معنى، فله فضل السبق في ابتكار تقنية التاريخ الحولي. وكتابه (تاريخ الأشراف) أنموذج احتذاه البلاذري فيما بعد. كذلك أرز قصب السبق في ميدان الكتابة عن (الخطط)، وفي مجال الأنساب وسع دائرتها لتصبح نوعاً من التاريخ الاجتماعي.
أما أبو عبيدة (ت 211هـ ) فكان أوسع علماء عصره ثقافة، يقول ابن النديم: ((وله علم الإسلام والجاهلية)). فقد كتب عن المغازي والأحزاب والنظم، فضلاً عن الحديث والقرآن والشعر. وفي مجال الأنساب وتراث القبائل العربية، وصف بأنه ((من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها، وأشعارها وأنسابها)).
وتعكس مناهج هؤلاء روح البورجوازية السائدة من حيث التحقيق والتحري والموضوعية، فمحمد بن السائب الكلي لم يعتمد في رواياته إلا الثقاة، والدارسون لما رواه نزهوه عن الهوى. وابنه هشام يرجح استناده إلى النقوش العربية القديمة حين أنجز كتاب (الأصنام). والهيثم بن عدي سبق إلى استخدام تقنية الحوليات. وأبو عبيدة عرف ((بالتدقيق والبعد عن الهوى)).
يضاف إلى ذلك خصيصة هامة تنم عن تأثير الصحوة البورجوازية في مناهجهم، ألا وهي التسامح الفكري. ولا غرو فقد كانوا جميعاً (ليبراليين)، يظهر ذلك من انتماءاتهم الأديولوجية. فمحمد بن السائب الكلي وابنه هشام كانا من الشيعة، ومعلوم أن هشاماً عاش في كنف البرامكة، أما الهيثم وأبو عبيدة فكانا من الخوارج الذين لا يقيمون وزناً للعصبية القبلية أو الشعوبية. وما درج عليه (النصيون) من اتهامهما بالشعوبية ـ بمفهومها الضيق ـ أمر مشكوك فيه، ولو صحت التهمة ـ حسبما رأى جب ـ فتكون شعوبية (التسوية).
أما الاتجاه الأثري الإقطاعي المضاد، فقد مثله نفر قليل من العرب والفرس على السواء ـ وتلك قرينة أيضاً على صحة الأساس الطبقي في فهم الشعوبية ـ منهم مصعب الزبيري (ت 233هـ ) من العرب وعلان الشعوبي من الفرس. ولا يخفي انتماء مصعب إلى فلول الأرستقراطية الثيوقراطية القديمة، وهذا يفسر تعصبه لأصله وعرقه فيما كتبه عن (نسب قريش) و (أنساب العرب). وتنطق رواياته في هذا الصدد بالإسراف في تبيان فضائل العرب ومآثرهم والمغالاة في ذكر مثالب الفرس.
وعلى النقيض تصدى علان الشعوبي للكتابة في مثالب العرب، وله في هذا الصدد كتاب (الميدان في المثالب) ((الذي هتك فيه العرب وأظهر مثالبها)). ويخيل إلى أنه اضطر إلى ذلك اضطراراً للرد على خصومه، وبتشجيع من البرامكة، وإلا فما تفسير تبجيله لبعض القبائل العربية؟ لقد كتب عن (فضائل كنانة) و (فضائل ربيعة)، وتفسير ذلك ـ فيما أري ـ أن هذه القبائل كانت موالية للنظام العباسي. ولو صح ذلك أمكن القول بأن المواقف السياسية المنبثقة من الواقع السوسيولوجي كانت حجر الزاوية في إثارة ظاهرة الشعوبية. كما أن تواجد الإقطاعية في كنف النمط البورجوازي السائد كان من أسباب اختلاط المواقف الفكرية. يدعم هذا القول أن آفة التعصب العنصري لم يسلم منها حتى أصحاب الاتجاه البورجوازي الليبرالي، نلتمس ذلك فيما نسب إلى الهيثم بن عدي نفسه ـ رغم استنارته ـ من الكتابة في (المثالب).
قصارى القول إن جهود المشتغلين بمناحي المعرفة التاريخية إبان تلك الحقبة من عصر الصحوة البورجوازية دلت على استيعابهم الكامل للتراث التاريخي السابق، بحيث هضموه وتمثلوه وقدموه مادة تاريخية خصبة اعتمد عليها الإخباريون في المرحلة التالية، مرحلة الجمع والتدوين.
وانعكست موسوعية الثقافة على ما صنفا، برغم تخصصهما أصلاً في السيرة والمغازي، فابن إسحاق فضلاً عن سيرته المشهورة صنف (عن تاريخ الخلفاء)، فتناول العصرين الراشدي والأموي، وإذا ما علمنا أن القسم الأول من سيرته المعروف (بالمبتدأ) تناول فيه أخبار الماضين فيكون بذلك قد مهد لمن جاء بعده لكتابة تاريخ عالمي. أما الواقدي فقد تنوعت رسائله ((إذ كتب في المغازي وصنف رسائل متفرقة في الردة ويوم الدار وصفين والجمل وفتوح الشام والعراق)). وفضلاً عن كتابه (التاريخ الكبير) صنف رسائل أخرى ذات مضمون اقتصادي اجتماعي، كتلك التي تتعلق بالشفعة والصدقة والوديعة والبضاعة والمضاربة والسرقة والحدود والشهادات.
وتبرز تأثيرات الليبرالية واضحة في منهجيهما، فابن إسحاق أبدع منهجاً جديداً في دراسة السيرة النبوية، قوامه الجمع بين سيرة الرسول ومغازيه وبين التراث العربي القديم. إذ قسم موضوعه إلى ثلاثة أقسام: الأول سماه (المبتدأ) ويتناول تاريخ ما قبل الإسلام، والثاني (المبعث) ويعرض لفترة الرسالة، والثالث (المغازي) ويؤرخ لغزوات الرسول. ولم يحفل كثيراً بالإسناد بقدر الاهتمام بسلاسة العرض التاريخي، ونقد الروايات. أما الواقدي فقد أثر عنه الموضوعية والدقة في تحري الحقيقة، وحديثه السابق مصداق لما نذهب. هذا فضلاً عن إغفال الإسناد، والاهتمام بتسلسل الرواية، فكان ((يجيء بالمتن واحداً مع أن جزءاً منه لبعض الرواة والآخر لرواة آخرين)).
لا شك أن هذه الجهود التي شكلت تطويراً للفكر التاريخي في هذا الفرع من المعارف التاريخية لم تلق قبولاً لدى أصحاب الاتجاه النصي. ولما كانوا عاجزين عن مجاراتهم في هذا الصدد، تحاملوا على ابن إسحاق والواقدي، وطعنوا وشككوا في أعمالهما. فلا يخفي العداء بين ابن إسحاق والإمام مالك، وهذا يفسر قول ابن النديم ((وأصحاب الحديث يضعفون ويتهمون ابن إسحاق)). وللأسباب نفسها طعن أهل الأثر في الواقدي ((وكان مطعوناً عليه غير مرضي الطريقة)).
ومع ذلك ساد الاتجاه الليبرالي الجديد في كتابة السير والمغازي، وأخذ ينتشر في الشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس بفعل الاتصال التجاري والثقافي، ولا غرو فقد أطراه الدارسون المحدثون.
أما الاتجاه النصي التقليدي فظل يمارس نفوذاً خافتاً وهامشياً، فقد وجدت بعض ظلاله في أطراف العالم الإسلامي الغربي نظراً لغلبة المذهب المالكي. واختلطت لذلك روايات السير والمغازي بالفقه والحديث. ففي مصر أثر عن الفقيه الليث بن سعد روايات في السيرة والمغازي أفاد منها ابن عبدالحكيم في فتوحه، والشيء نفسه يقال عن فقهاء المالكية في المغرب الذين تتلمذوا على مالك وتلامذته في المدينة ومصر، ونقلوا رواية أهل المدينة عن السير والمغازي ـ فيما نقلوا ـ إلى المغرب، ودبجوا بها مقدمات كتبهم عن طبقات المالكية. وبرغم تأخر ظهور هذا النوع من المعارف التاريخية في الأندلس ـ لتأخر الفتح ـ نعتقد أن ابن القوطية الذي كتب عن افتتاح الأندلس أحاط بشيء من علم المالكية في السير والمغازي تظهر أصداؤه في ثنايا كتابه.
ومع ذلك، فقد راجت في تلك الأقاليم (القصية) بضاعة ابن إسحاق والواقدي، برغم غلبة مذهب مالك عليها، وإن كان لذلك من تفسير فيكمن في سيولة المد البورجوازي بفكره الليبرالي ليغمر كل أجزاء الإمبراطورية، حتى لقد تطورت المالكية ذاتها لتجاري مجريات التطور.
وشهدت تلك الحقبة ـ فضلاً عما سبق ذكره من إثراء الفكر التاريخي المتعلق بالسير والمغازي في موضوعه ومنهجه ـ ظاهرة على جانب كبير من الأهمية تتعلق بهذا النوع من الفكر، ألا وهي ميلاد نوع جديد من المعرفة التاريخية، انبثق من كتابة السير والمغازي عرفت (بالطبقات) أو (تراجم الرجال). فلم يعد الاهتمام ينصب فقط على حياة الرسول ومغازيه، بل انسحب على الشخصيات الشهيرة ذات الفاعلية في الحياة العامة من صحابة الرسول وتابعيه وتابعي تابعيه.
ولا غرو، فقد كان الواقدي أول من طرق هذا الميدان، وعنه أخذ تلميذه وكاتبه ابن سعد الذي ألف (الطبقات الكبرى) لتصبح أنموذجاً احتذاه كتاب التراجم فيما بعد، وطوروه ليحتوي أعلام المشاهير في ميادين الحياة العامة برمتها. ويعتقد روزنتال أن ما اختطه ابن سعد من نهج ترتيب التراجم على أساس زمني ـ كذكر الصحابة أولاً، ثم التابعين فتابعي التابعين … إلخ ـ مقتبس عن التقاليد اليهودية. وسواء صح هذا الاعتقاد أو غيره ـ مما ينسبه إلى طرائق المحدثين ـ فالثابت أنه كان من معطيات عصر اتسم بالانفتاح الثقافي، ولم يجد أهل العلم غضاضة في اقتباس ما يعين على تقدم الفكر وتكريسه لخدمة المجتمع، طالما كانت مهمة المشتغل بالتاريخ (معرفة الواقع البشري على النحو الذي جرى، ذلك الواقع الذي ينطوي على شكل عقلاني ومادي للفكر).
وبديهي أن يظهر التأثير المادي العقلاني لعصر الصحوة البورجوازية في انبثاق تصورات عقلانية لمفهوم التاريخ. حتى لو تعلق الأمر بسيرة الرسول وصحابته ومغازيهم، طالما كانت هذه الأحداث جزءاً من تراث دنيوي له فعالياته في واقع الأمة وتطورها. وهذا يدفعنا إلى القول بتفتق الصحوة عن تكوين (بواكير نظرات تاريخية). ويرى البعض أن هذه النظرات كانت تدور حول فكرة (تسيير المشيئة الإلهية للتاريخ). وفي الاتجاه نفسه يمضي البعض الآخر فيقول: ((بانتفاء أي أثر للسببية في تفسير سيرة الرسول)).
وإن صح هذا الاعتقاد، فهو لا ينطبق إلا على رواة السيرة والمغازي في الحقبة الإقطاعية السابقة، حيث ساد الفكر النصي الجبري. أما في عصر الصحوة البورجوازية فقد غلبت العقلانية وظهرت روح النقد، ولا غرو فابن إسحاق والواقدي كانا من القائلين (بالقدر)، أي دانا بالاعتزال الذي يؤكد مسئولية الإنسان عن أفعاله. وبرغم (قداسة) موضوع دراساتهما لم يتورعا عن إعمال العقل في نقد الروايات (الثيولوجية)، بل عمدا إلى مصادر غير إسلامية في استقاء المعلومات، كالإسرائيليات والأدب الشعبي. وما قاما به من تعليقات على بعض الأحداث بقصد تعليلها، تؤكد غلبة الرؤية الدنيوية في التفسير، ولقد كان ذلك ـ كما قلنا ـ من أسباب حملة أهل الحديث والأثر عليهما.
قصارى القول: إن نقلة الفكر التاريخي الخاص بالسير والمغازي نتيجة من نتائج الصحوة البورجوازية، وإن بقاء أصداء للسلفية في هذا الصدد مرتبط بالوجود الهامشي لبقايا الإقطاعية، وإن الصراع بين الاتجاهين قرينة على صدق مقولة سوسيولوجية الفكر.
وفي ميدان التراث القبلي، تظهر معطيات الصحوة في وضوح أكثر باعتباره موضوعاً دنيوياً قحاً. والصواب أن نسمي هذا النوع من المادة التاريخية (التراث الاجتماعي)، لأنه تطور في عصر الصحوة بحيث لم يقتصر على رواية أخبار القبائل العربية وأنسابها فحسب، بل امتد إلى الاهتمام بالمباحث الأثنولوجية العربية وغير العربية. ولعل مما يزكي هذه التسمية اختفاء النزعات العصبية في تناول هذه المعارف ـ على الأقل من جانب النسابة البورجوازيين ـ بل جرى الاهتمام بها في الغالب الأعم باعتبارها تراثاً تاريخياً ليس إلا.
ولا غرو فقد دخل مثقفو الموالي هذا الميدان الذي كان من قبل حكراً على رواة العرب، واهتموا بمعرفة إثنولوجيا العرب إلى جانب إبراز تراث شعوبهم في هذا الصدد. وبالمثل اهتم النسابة من العرب بالتراث الإثنولوجي لغير العرب إلى جانب تراثهم. وفي كل الأحوال تم تناول هذه الموضوعات بروح علمية، وإن لم تخل في أحيان قليلة من بصمات نزعة التعصب الشعوبي، وخاصة من جانب النسابة (النصيين). ومعلوم أن ظاهرة الشعوبية التي تناولها الدارسون وفسروها على أساس التعصب السلالي، لم تكن في جوهرها إلا مظهراً من مظاهر الصراع الطبقي بين البورجوازية والإقطاع.
ولما كانت السيادة للبورجوازية، فإن مثقفيها فهموا (الشعوبية) فهماً (أممياً) قوامه المساواة بين الشعوب، لذلك عرفوا (بأهل التسوية). أما الحفنة القليلة ذات الانتماء الطبقي الإقطاعي ـ من العرب وغير العرب ـ فهي التي نظرت إلى (الشعوبية) نظرة تمايز، فتشدقوا بأمجاد شعوبهم، وتفننوا في إظهار مثالي الشعوب الأخرى. وفي الحالتين معاً أثرى نتاج المباحث الإثنولوجية دراسة التاريخ موضوعاً ومنهجاً وفكراً.
وقد مثل التيار البورجوازي الليبرالي محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام (ت 204هـ ) والهيثم بن عدي (ت 206هـ ) من العرب، وأبو عبيدة من الفرس. وتنم رواياتهم عن سعة في العلم، واستخدام الأنساب لخدمة التاريخ.
فالأول كان عالماً باللغة والتاريخ، وينم منهجه عن التدقيق في استقاء الأخبار ((فكان يلجأ إلى مَن يعول عليهم من الخبراء في كل قبيلة)). والثاني كان متمماً لأعمال أبيه، وفضلاً عن تعمقه في الأنساب كان على دراية بالتاريخ العربي قبل الإسلام وبعده، بالإضافة إلى تواريخ الفرس وغيرهم. وكتابه القيم (جمهرة النسب) صار عمدة الإخباريين والمؤرخين فيما بعد.
والثالث يمكن اعتباره (مؤرخاً) بكل ما تعني الكلمة من معنى، فله فضل السبق في ابتكار تقنية التاريخ الحولي. وكتابه (تاريخ الأشراف) أنموذج احتذاه البلاذري فيما بعد. كذلك أرز قصب السبق في ميدان الكتابة عن (الخطط)، وفي مجال الأنساب وسع دائرتها لتصبح نوعاً من التاريخ الاجتماعي.
أما أبو عبيدة (ت 211هـ ) فكان أوسع علماء عصره ثقافة، يقول ابن النديم: ((وله علم الإسلام والجاهلية)). فقد كتب عن المغازي والأحزاب والنظم، فضلاً عن الحديث والقرآن والشعر. وفي مجال الأنساب وتراث القبائل العربية، وصف بأنه ((من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها، وأشعارها وأنسابها)).
وتعكس مناهج هؤلاء روح البورجوازية السائدة من حيث التحقيق والتحري والموضوعية، فمحمد بن السائب الكلي لم يعتمد في رواياته إلا الثقاة، والدارسون لما رواه نزهوه عن الهوى. وابنه هشام يرجح استناده إلى النقوش العربية القديمة حين أنجز كتاب (الأصنام). والهيثم بن عدي سبق إلى استخدام تقنية الحوليات. وأبو عبيدة عرف ((بالتدقيق والبعد عن الهوى)).
يضاف إلى ذلك خصيصة هامة تنم عن تأثير الصحوة البورجوازية في مناهجهم، ألا وهي التسامح الفكري. ولا غرو فقد كانوا جميعاً (ليبراليين)، يظهر ذلك من انتماءاتهم الأديولوجية. فمحمد بن السائب الكلي وابنه هشام كانا من الشيعة، ومعلوم أن هشاماً عاش في كنف البرامكة، أما الهيثم وأبو عبيدة فكانا من الخوارج الذين لا يقيمون وزناً للعصبية القبلية أو الشعوبية. وما درج عليه (النصيون) من اتهامهما بالشعوبية ـ بمفهومها الضيق ـ أمر مشكوك فيه، ولو صحت التهمة ـ حسبما رأى جب ـ فتكون شعوبية (التسوية).
أما الاتجاه الأثري الإقطاعي المضاد، فقد مثله نفر قليل من العرب والفرس على السواء ـ وتلك قرينة أيضاً على صحة الأساس الطبقي في فهم الشعوبية ـ منهم مصعب الزبيري (ت 233هـ ) من العرب وعلان الشعوبي من الفرس. ولا يخفي انتماء مصعب إلى فلول الأرستقراطية الثيوقراطية القديمة، وهذا يفسر تعصبه لأصله وعرقه فيما كتبه عن (نسب قريش) و (أنساب العرب). وتنطق رواياته في هذا الصدد بالإسراف في تبيان فضائل العرب ومآثرهم والمغالاة في ذكر مثالب الفرس.
وعلى النقيض تصدى علان الشعوبي للكتابة في مثالب العرب، وله في هذا الصدد كتاب (الميدان في المثالب) ((الذي هتك فيه العرب وأظهر مثالبها)). ويخيل إلى أنه اضطر إلى ذلك اضطراراً للرد على خصومه، وبتشجيع من البرامكة، وإلا فما تفسير تبجيله لبعض القبائل العربية؟ لقد كتب عن (فضائل كنانة) و (فضائل ربيعة)، وتفسير ذلك ـ فيما أري ـ أن هذه القبائل كانت موالية للنظام العباسي. ولو صح ذلك أمكن القول بأن المواقف السياسية المنبثقة من الواقع السوسيولوجي كانت حجر الزاوية في إثارة ظاهرة الشعوبية. كما أن تواجد الإقطاعية في كنف النمط البورجوازي السائد كان من أسباب اختلاط المواقف الفكرية. يدعم هذا القول أن آفة التعصب العنصري لم يسلم منها حتى أصحاب الاتجاه البورجوازي الليبرالي، نلتمس ذلك فيما نسب إلى الهيثم بن عدي نفسه ـ رغم استنارته ـ من الكتابة في (المثالب).
قصارى القول إن جهود المشتغلين بمناحي المعرفة التاريخية إبان تلك الحقبة من عصر الصحوة البورجوازية دلت على استيعابهم الكامل للتراث التاريخي السابق، بحيث هضموه وتمثلوه وقدموه مادة تاريخية خصبة اعتمد عليها الإخباريون في المرحلة التالية، مرحلة الجمع والتدوين.