ANFASSEتقديـــــم إشكالــــــي:
 مرت الهستغرافية المغربية من مراحل مختلفة،تميزت كل مرحلة منها بسمات وخصائص معينة سواء من حيث اختلاف المواضيع المعالجة،أو من حيث تعدد الرؤى والاتجاهات والمقاربات والأدوات المنهجية الموظفة.
        وقد عرف البحث التاريخي خلال العقود الأخيرة،ولاسيما منها الفترة الممتدة على مدى الثلاثة وثلاثين سنة الأخيرة-أي منذ سنة 1976 إلى الآن- تراكما مهما،ورصيدا متنوعا لايستهان به (1)، وفي هذا السياق ،تسعى هذه المداخلة إلى الوقوف وقفة تأمل تجاه هذه المرحلة المهمة، التي تميزت بتوجه الإنتاج التاريخي نحو التاريخ الاجتماعي من خلال إيلاء الدراسة المونوغرافية أهمية قصوى،هذا التوجه الذي اعتبر من طرف أحد الباحثين بمثابة "قاطرة تتصدر عملية تحديث الذاكرة الجامعية"،لرغبته في التجديد اعتمادا على مجموعة من الآليات،كتوسيع مفهوم التاريخ،وتطوير مجال المصادر،والانخراط في سياق العلوم الإنسانية (2) ،لكتابة تاريخ علمي شمولي يختلف كليا عن التاريخ الاستعماري،لذلك ومن أجل تسليط الضوء على ما طبع هذه المرحلة وهذا الاتجاه من خصائص ومميزات،سأحاول الإجابة على الإشكالية التالية:
ما المقصود بالتاريخ الجهوي؟ما هو السياق التاريخي الذي ظهر فيه؟ ماهي الأهمية التي يكتسيها و الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها؟ ما هي خصوصياته،والآليات المتحكمة في تطور البحث فيه،والإكراهات التي تعترض سبيل الباحثين فيه؟وماهي بعض الاقتراحات العملية الكفيلة بتشجيع الاهتمام بتاريخ الهوية الجهوية،وبتوظيفه كأداة للتنمية لكسب رهان الحاضر والمسقبل؟
    كجواب على هذه الإشكالية،يمكن القول أن الكتابة التاريخية بالمغرب عرفت مرحلة امتدت من 1976 إلى الآن،توجه خلالها البحث التاريخي نحو التاريخ الاجتماعي،حيث برز تيار جديد من المؤرخين الشباب الذين اهتموا بكتابة تاريخ علمي يختلف عن التاريخ الاستعماري(3)، تاريخ سيهتم بالمجتمع وديناميته،وبالانفتاح على العلوم الأخرى(4)،خصوصا بعد اقتناع أنصار المسار الجديد للتأليف التاريخي بضرورة تحقيق تقدم في إنجاز مونوغرافيات يمكن أن تشكل من جهة، منطلقا ضروريا نحو كتابة تاريخ شمولي بفضل ما تمتاز به من دقة وتركيز(5)،ومن جهة ثانية قاعدة لتفسيرات مقبولة من أجل الاستفادة من مدرسة تاريخية كمدرسة الحوليات (6).

ANFASSEالعنف ظاهرة شديدة التعقيد و التشابك و متداخلة العوامل في ظهورها و دوافعها الظاهرة و الكامنة، المباشرة و غير المباشرة، و لكن قبل تحديد مظاهر العنف سنحاول في البداية تقديم تعريف للعنف و نشأته.
أما من حيث التعريف فسنعود في هذا الإطار إلى تعريف جوليان فرويند من ضمن التعاريف دون انتقائية أو قصدية لأن الفضاء لا يسمح بسرد التعاريف المتداولة حول هذه الظاهرة، إذ  يعرف العنف بأنه القوة التي تهاجم مباشرة شخص الآخرين و خيراتهم(أفرادا أو جماعات) بقصد السيطرة عليهم بواسطة مجموعة الوسائل المتاحة لذلك، وهو شكل من أشكال الاستخدام المشروع للقوة بتعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.
و يعرفه عدد من علماء السلوك بأنه نمط من أنماط السلوك الذي ينبع عن حالة إحباط مصحوب بعلامات التوتر ويحتوي على نية سيئة لإلحاق ضرر مادي ومعنوي بكائن حي أو بديل عن كائن حي.
و هو إذن تجاوز و اختراق القواعد و القوانين التي تنظم وضعيات تعتبر طبيعية أو عادية أو قانونية، فالتعريف بهذا المعنى يدل على بث الاختلال في نظام الأشياء بشكل وقتي أو دائم.
أما من حيث البحث في النشأة أو بتحديد أصل العنف، و هنا نلاحظ بأن العنف ظاهرة متأصلة في التركيبة البيولوجية للإنسان، و أن السلوك"العدواني" هو سلوك غريزي و بيولوجي في الإنسان جعل لتحقيق البقاء، و الإنسان هنا  يستخدم العنف لغاية تدمير ذاته أو نوعه، و هي مبثوثة في مختلف مجالات الحياة و القطاعات.
 و من مظاهر العنف الموجودة في مختلف المجتمعات، نجد الضرب والإهمال و الاهانة و الانتقام، و محاولة الايذاية للبشر و عدم احترام ذاتيتهم(الاحتقار و التجاهل و التكبر على البشر) و هو ما يمكن أن نطلق عليه ب"العنف المعنوي" و الأمر لا يختزل في الأصل الاجتماعي والمستوى العلمي و الاقتصادي أو جهة معينة ينتمي إليها صاحب هذا الفعل إن كان فردا أو مجموعة من الأفراد أو تنظيمات ضغط.

anfasse" الجهل يصنع القانعين "
ببللونيه
حينما سئل فولتير ذات مرة عمن  سيقود الجنس البشري أجاب " الذين يعرفون كيف يقرؤون"  وما فتئت القراءة تمثل دائما وعيا يتنامى ويزداد بمقدار ما نطالع ، ولا يقاس تقدم مجتمع ما إلا بقدر ما يوجد فيه من مثقفين وقراء وحركة فكرية وعلمية نشطة تدفع بالناس إلى الحوار وتشخيص الأخطاء والسمو على العقبات والنظريات الضيقة .
وحينما نسأل عن واقع القراءة في مجتمعنا العراقي وفي العالم العربي على العموم  سنجد تلك المأساة المروعة التي تكمن في أنها السبب في تخلفنا الحضاري وانغلاقنا عن العالم وتقوقعنا في نفس الأفكار البالية والطروحات المستهلكة ، ذلك أننا انقطعنا عن فهم جذور مشاكلنا بانقطاعنا عن الوعي المتمثل بالقراءة معلقين أسباب التخلف على أوهام غيبية ومؤامرات نتخيلها وكأننا محور هذا الكون والجميع يقف على الضد من تطلعاتنا لكن السر في واقع الأمر يتعلق بنا وبتاريخنا الدموي الذي حارب الفكر الآخر باقصاءه وتشريده  ومحو كل أثر له فلم يحفظ لنا التاريخ مثلا تراث المعتزلة أو مؤلفات واصل بن عطاء ومن كتب أبي الهذيل الذي صنف ألفا ومائتي رسالة ناهيك عن شتات و مجموع الفكر المعارض في شتى حقول المعرفة والتاريخ والآداب والفلسفات .
هذا الصراع الدامي على السلطة وإقصاء الفكر بالسيف تواصل في وقتنا الحاضر عبر الطغاة والحكومات الديكتاتورية والسلطات الدينية المتزمة أو التي تحسب نفسها من حظيرة السلطان والتي لا تريد مجتمعا واعيا بمسؤولياته وحقوقه قدر ما تريد مجتمعا داجنا يوجهه وعاظها وكتابها وشعرائها عبر ممارسة هي في واقعها تجهيل للمواطن وإقصاء ومحاربة الفكر المعارض فلا يتسنى رؤية أو معرفة إلا ما تريده السلطة وما يريده الحاكم لتدعيم سلطانه لأن " الكتب تبدد الجهل ، والجهل حارس الدول وضامن حمايتها " كما يقول فولتير .

anfasseالمقالة الأولى:في الفكر
شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر النهضةا/الحداثة الأوربية إلى جانب الإصلاح الديني .فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة ،هذه التصورات لم تكن لتخرج عن الإطار الذي حددته الكنيسة .لقد كانت الكنيسة هي مالكة الحقيقة المطلقة ـ اوهكذا كانت تعتقد بحسن نية أو سوءها ـ وحال إنغلاق الكنيسة ورفضها للحقيقة التي يؤمن بها الأخردون الإنتباه للتحولات التي عرفها الإقتصاد والمجتمع.وهي تحولات لابد أن تؤثرفي وعي وشعور الإنسان الأروبي .
لم تستطع الكنيسة أن تبدي مرونة أكبر،وتساير هذا التحول وبالتالي إمتصاص نزعات الرفض التي بدأت تنبثق وتنمو تدريجيا.لقد أدي تشدد الكنيسة وجمودها ورغبتها في الحفاظ على الواقع السائد إلى تزايد حدة الرأى الأخر،ومحاولة فرض وجهة نظره وإحترامها .
كان على الإنسيين أن يغيروا مفاهيم كثيرة ظلت راسخة لعقود طويلة ،وظلت جزءا من الإيمان الحقيقي كفكرة الشقاء والخطيئة ..وإشاعة مفاهيم جديدة كالسمو والكمال والتفاؤل...وكان عليهم تغيير النظرة إلى العالم وتوسيع مصادر الإلهام وتجديد البيداغوجية ونقذ التقاليدوالمؤسسات.وقد تجلى ذلك بوضوح في عدة مجالات أبرزها الفن ( خاصة الرسم والنحث) ،من خلال أنسنة المواضيع والخروج من تحت جناح الكنيسة إلى مجال أرحب وأوسع ،مجال ينطلق من حرية الإنسان ومسوؤليته وكونه أفضل المخلوقات.فالحرية والسعادة والجمال وإحترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية التي تصب في الأخلاق الجماعية المؤسسة علىالتسامح والسلم .شكل هذا التحول الفكري إحدى أهم عوامل بداية إنهيار دعائم الكنيسة التي ظلت رغم ذلك تدافع عن ماض لم يعد قائما وتصورات أثبتت الإكتشافات العلمية عدم صحتها.
جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية ـ وإعتبار هذا جزءا من الإيمان ـ لقد أثبت كوبرنيك العكس وبالتالي كان لابد للإنسان الأوربي أن يطرح سؤالا جوهريا وبديهيا : هل تملك الكنيسة الحقيقة ؟ وإذا كانت لاتملكها فمن يملكها إذا ؟

anfasse"لا معتقدات إلا لمن لم يتعمق في التفكير في الأشياء"[1]
من الزاوية الرمزية، يمكن القول إن الوجود راهنية وحضور. والإنسان لا يعلن وجوده ويشهر حضوره في مجرى التاريخ ومهب الزمن، إلا حين يتحول هو نفسه إلى تاريخ، وهذا التحول هو مدار كل مواكبة ومناط كل سير جاهد أو حثيث. والواقع أن التاريخ ليس مجرد زمن يمضي أو حفنة أحقاب تنصرم، بل هو التشكيل الإنساني الخالص للسيرورة الدياكرونية الناهضة دومًا كتجاوز للثبات ومراودة للطفرات والتوثبات، ومعنى هذا أن التاريخ ليس قدَرًا أو حتمية، والمقولات الحضارية التاريخية نفسها، كالتقدم والتخلف، والنهضة والسقوط، ليست بالضرورة إحالة على واقع تاريخي قائم على وجه الحتمية والاقتضاء. فالتاريخ شيء، والوعي بالتاريخ شيء آخر. ومدار حديثنا في هذا المقال، هو القضية الاستشكالية التالية : هل التاريخ العربي، تاريخ ذهنية ملطخة بتواريخ المنازلات السجالية الخرقاء؟ هل تاريخنا استنجاز واعٍ للمشاريع الحضارية الكبرى أم أنه تاريخ إنجازات عمياء؟ هل التاريخ العربي تاريخ يفرزنا أم نفرزه؟ يصنعنا أم نصنعه؟ هل هو تاريخنا وأفقنا الحضاري القائم أم أنه اللاتاريخ الذي تهون فيه الذات ويتفاقم فيه الغياب فيستحيل الوجود برمته إلى محض كينونة سجالية طافحة بالعَيِّ والضجر؟
إن الحديث عن البدايات هو بالضرورة حديث عن الانطلاقات التي نحسبها كذلك. ولا شك أن بداية التاريخ العربي كانت بداية دينية. فالدين الإسلامي هو الذي أدرج العرب ضمن أحواز الحضور الذي به نشأت حضارتهم وتوطدت شوكتهم. والنهوض العربي في بداياته الأولى كان نهوضا طفرويًا شكل فيه الدين نقطة التحول ومناط كل الاندفاعات والتدافعات التاريخية اللاحقة. أما بالنسبة للغربيين، فإن بداية ارتيادهم الكاسح لحلبة التاريخ، كان بدوره –على مستوى من المستويات-قضية دينية، أو بتعبير أدق، كان قضية الحسم مع الدين الذي تمثل تاريخيًا وإيديولوجيًا في الكنيسة وسلطتها الشاخصة فِئَِويًا في رجال الدين أو من كان يعرف بالإكليروس.

anfasseمدخل
إن ما يمكّن من استيعاب وإدراك سلطة التاريخ على أي لحظة من لحظات الاجتماع الإنساني هو إمكانية التمييز بين بعدين بنيويين يسجلان حضورهما داخل السيرورة التاريخية لكل مجتمع، هما تحديدا البعد الواقعي الفعلي والبعد المخيالي الرمزي؛ وما يوطد الوعي بتلك السلطة هو بلوغ الفهم حدود التماس والتداخل بين البعدين بوصفهما غير قابلين للفصل إلا من الزاوية النظرية، وهذا تسليما بحقيقة تلازمهما الجدلية، وهي الحقيقة التي تنفي مبدئيا القول بهيمنة أي بعد على الآخر؛ إذ الإطار الجدلي يمكّننا من تصور إمكانية تحول أي من البعدين إلى خانة البعد المقابل.
لكن يبدو أن هذا المدخل ينطوي على تناقض ظاهري يمكن صياغته على الشكل التالي: كيف ننفي هيمنة أي من البعدين على الآخر في نفس الوقت الذي كنا قد سلمنا فيه بهيمنة التاريخ على المجتمع؟ إذ أن محاولة تفكيك هذا التناقض ستكون جوهر هذه المساهمة التي يعترف صاحبها بأنه لا يمتلك الكثير من الأدوات التي تخول له فعل ذلك فهو مبتدئ في هذا الميدان، لكن المؤكد هو أن المحاولة ذاتها تحوم حول سؤال جوهري من أسئلة الوجود الإنساني عموما فضلا عن كونه أدق القضايا الراهنة في تخصصنا.

1- استكشاف الوعي لوضعه التاريخي فردا وجماعة؟
الوعي هو حالة انفتاح للعقل البشري على نقطة ارتكاز رمزية تكون المرآة التي تعكس للإنسان جميع مجريات سلوكاته اليومية والعمليات الاجتماعية التي يتبوتق ضمنها بما يجعل من الوعي مرجعية ظرفية للفرد و الجماعة، أي بمثابة مخزون لحظي يخزنه الكائن البشري ليعود إليه كلما اقتضت الضرورة اللحظية ذلك، ولتحصيل وفرة مخزون الوعي يحدث القيام بتكوين شبكات متينة من المعاني هي ذات حمولة كثيفة يتم ربطها بالإيقونات والعقائد التي تتسم بطابع الخلود، إذ الوظيفة الأساسية التي يقوم بها الإنسان تتمثل في عملية المَنطَقة التي يتم من خلالها الربط بين نقطة الارتكاز التي يقع الاختيار عليها ـ وهو الوعي ـ وبين تلك الرموز الخالدة. 

anfasse.orgنماذج في مواقف بعض المفكرين العرب(عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز)
تمهيد: تحتل مسألة التراث في الفكر العربي و الإسلامي مكانة هامة لما تقتضيه هذه المسألة الفكرية و المعرفية من أهمية في الفكر و العقل العربي و الإسلامي، و في الواقع الثقافي و القطري، و أخيرا في علاقتها بالآخر  الحضاري، و خاصة أمام التحديات الجديدة على العالم العربي و الإسلامي من خلال ظاهرة العولمة و استتباعتها الثقافية و الحضارية، و هوس المفكرين و المثقفين العرب بذلك.
و سنحاول في هذه القراءة التأليفية المختزلة أن نحلل مواقف ثلاث مفكرين عرب لهم إسهاماتهم في هذه المسألة و فيما يتعلق بالخطاب و الفكر العربيين و الإسلاميين عموما، من خلال عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، و عبد الإله بلقزيز.    
فماهي هذه المواقف و الرؤى؟
- موقف عبد الله العروي: I
يحتل عبد الله العروي داخل الثقافة العربية مكانة متميزة،اشتهر المفكر بمؤلفاته،و ذاعت مؤلفاته به، من لا يعرف الرجل مفكراً يذكره أديبا، ومن لا يستحضره ناقداً يعرفه مؤرخا كتب العروي، نظر، و ناظر دفاعاً عن مقولة واحدة هي كيفية تجاوز التأخر التاريخي، الذي تزدري تحته الثقافة و الواقع العربيين، و الانخراط ضمن ما يسميه "المتاح للبشرية جمعاء". أي الوعي بالقطيعة مع التراث، لأنها" حصلت و تكرّست"1 بالفعل.
عندما يتحدث العروي عن  القطيعة فإننا غالباً ما نلمس في نبرة الرجل نوعا من الوثوقية . القطيعة حل الإعراض عنها موت و انتحار، والقبول بها ولادة و انبعاث. غير أن الحاجة إليها لا تنبع عن إعجاب بالتراث الغربي أو عن صلة به أقوى من التراث العربي الإسلامي2 كما لا تبرز هذه الدعوة من تقزز أو رفض لهذا التراث، بقدر ما كانت لا مطابقته لمفاهيم الحداثة أبرز مقدمات الدعوة إلى القطيعة " إن المفاهيم التي شرحتها ( الدولة، الحرية، التاريخ، الأدلوجة )، و تلك التي كان يمكن أن أتمم بها إذ يستحيل كما يقول الأستاذ عبد الله العروي3 أن نجد "مفهوم الأدلوجة مكتملا عند الغزالي، أو الحرية عند ابن عربي ، كما يستحيل أن نعثر على مفهوم التاريخ تاما عند ابن خلدون، و لا على مفهوم الدولة مكتملاً عند الشاطبي.

Anfasse.orgالتسول ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد نفسية و اقتصادية، ظهرت منذ القديم، و هي ترتبط في أصلها بالتفاوت الطبقي و بالاختلالات البنيوية للنسيج السوسيواقتصادي و ضعف آليات التنمية البشرية؛ أبطالها ناس على هامش المجتمع يبحثون عن السند و يلتجئون إلى غيرهم طلبا للصدقة و المساعدة بالمال و الطعام و غيرهما.  كما قد يتحول التسول إلى ممارسة منظمة لتكديس الأموال و الاغتناء السريع لدى بعض الأفراد و الجماعات أو إلى نصب و احتيال و ارتكاب لبعض الجرائم...الخ
      و في كل الأحوال يوظف التسول خطابا يتداخل فيه المكون الديني بالمكونات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و يتنوع بتنوع المواقف و الفضاءات التي يستغلها المتسولون بغية تحقيق مطالبهم المشروعة و غير المشروعة في إطار بنية اجتماعية و نفسية قوامها القهر و التخلف؛ وتتكامل في هذا الخطاب عدة مكونات كاللغة و الحركة و الهيئة و الصوت...
1 - كثافة اللغة و رمزيتها:
      تتسم لغة التسول بالرمزية و الغنى الدلالي رغم أنها تنمو على شكل متواليات خطابية قصيرة و جمل نمطية تتظاهر بالوضوح و البساطة، و لعل أبرز ما تستند إليه هو التبرير عبر مستويات أهمها:
 أ- التبرير الديني: و يتجلى في محاولة إقناع الآخر بجدوى الصدقة انطلاقا من الرؤية الإسلامية في إطار ما يجازي به الله المؤمنين المتصدقين، لذلك نجد هيمنة جمل مثل (صدقة لله/ في سبيل الله/ الله يرحم بها الوالدين/ الله يوصلها للوالدين...). فبالجملة الأولى يبث المتسول رسالة إلى المتلقي مفادها أن ما يطلبه هو حق أوجبه الإله، مختزلا بذلك العديد من الآيات القرآنية في الموضوع. و إذا أخذنا (الله يلحكها/يوصلها للوالدين) أو (الله يرحم بها الوالدين)، ففي منطوقها يبدو المتسول و كأنه مجرد ساع للبريد، يساهم بطريقة ما في وصول الصدقة و الرحمة إلى والدي المتصدق، لترحمهم من عذاب القبر، أو لترجح كفة حسناتهم و تمحو بعض سيئاتهم، إلى درجة يمكن أن يصل معها المتسول إلى فاعل خير أيضا لأنه يتسبب في وصول الرحمة إلى الأموات، و في العبور الرمزي للمتصدقين نحو نعيم الآخرة. كما يوجد وجه آخر للتبرير الديني حين تلجأ بعض النساء إلى لبس الحجاب و توزيع وريقات صغيرة على الناس في المقاهي بدون أن تنبسن ببنت شفة، و هنا تبث العديد من الرسائل التي تروم التأثير في المتلقي؛ أما الخطاب الموجود في الوريقات فيشحن بجانب ديني !و اجتماعي. يتمثل الأول في البسملة و التصلية و التسليم، إضافة إلى آية أو أكثر حول الصدقة و الإحسان و أن الله لا يضيع أجر المحسنين. أما الثاني فتمثله تبريرات اجتماعية غالبا ما تدور حول وفاة الأب أو الزوج و تكفل المرأة بالعديد من الأطفال، إخوة أو أبناء. و هنا يتعامل المتلقي مع الخطاب المكتوب مستحضرا هيئة صاحبته و شكلها المحتشم الذي قد يكون أحد مفاتيح الحصول على الصدقة...