المقالة الرابعة :في الإقتصاد
خصصنا المقالات الثلاث السابقة لترسيخ الحداثة الفكرية والسياسية والإجتماعية في أوربا ،وكيف عجزنا نحن في عالمنا العربي عن تحقيق ذلك . وبالتالي إستمرت البنية الفكرية تقليدية ( عدم القدرة على تحرير العقل العربي من جموده المركب ) و البنية السياسية وسطوية ( إستمرار الدولة القبلية عوض الدولة الأمة الحديثة )وظلت البنية الإجتماعية جامدة (غياب أي صراع طبقي قادر على إفراز التغيير ).
وفي هذه المقالة الرابعة سنواصل الحديث عن نجاح أوربا في تحقيق وترسيخ حداثتها الإقتصادية ،هذه الحداثة التي إنطلقت منذ أواخر القرن 13 م من المدن الإيطالية وأصبحت واقعا مع الإكتشافات الجغرافية وبداية عصر الرأسمالية التجارية ،ثم ترسخت مع الثورة التقنية وولوج أوربا عصر الرأسمالية الصناعية في النصف الثاني من القرن 18 م ،وأخيرا إنطلاق أوربا نحو الهيمنة على العالم في إطار الحركة الإمبريالية في العقود الأخيرة من القرن 19 م وبداية مرحلة الرأسمالية المالية ،في حين إستمرت البنيات الإنتاجية في عالمنا العربي تقليدية ،ولم تشهد ثورة جذرية في تقنياتها وأساليب عملها.
لم يمنع سيادة النظام الفيودالي ذو الإقتصاد الإنتاجي المغلق والمتمحور حول الأرض كوسيلة لإنتاج الثروة ( الريع ) من بروز تحولات عميقة في آليات وأنماط الإنتاج .هذه التحولات كان لها دور كبير في تفكك وتصدع أسس النظام الفيودالي ووضع اللبنات الأولى لنظام جديد بدأ يتبلور تدريجيا،ونعني بذلك النظام الرأسمالي الذي إرتبط به تطور أوربا في مختلف المجالات ،وشكل بداية إنطلاق الحداثة الإقتصادية الأوربية .
بدأت هذه التحولات في عدة مدن إيطالية ( فلورنسا، جنوة،البندقية...)حيث لم يعد إقتصادها يعتمد على الأرض كمصدر للثروة والسلطة ،بل ظهرت أنشطة أخرى أصبحت تنمووتستقطب عدد كبير من المغامرين الباحثين عن الربح بعيدا عن الأرض .أهم هذه الأنشطة التجارة ،فقد شكل البحر الأبيض المتوسط مركز العالم القديم قبل الإكتشافات الجغرافية ،وإكتشاف العالم الجديد والطريق البحري نحو الهند ،لذلك إستغل الإيطاليون موقع مدنهم وإنفتاحها على شرق وغرب المتوسط فأحتكروا النشاط التجاري مع المسلمين ،وقد أدى ذلك إلى تحقيق هؤلاء التجار أرباحا كثيرة وراكموا الثروات من خلال توزيع بضائعهم في إيطاليا وباقي أوربا . ولم يكتف الإيطاليون بالنشاط التجاري بل إستغلوا تراكم المواد النفيسة لتطوير النشاط المالي ( الصيرفة ) ،وهكذا برز إلى جانب التجار الصيارفة الذين بدأوا في وضع أساليب و تقنيات المعاملات المالية وتطويرها ،وشكل ذلك بداية ظهور النماذج الأولى للأبناك ومؤسسات القرض .وإلى جانب التجار ة والصيرفة بدأ النشاط الصناعي يتبلور من خلال تطوير تقنيات الإنتاج وأساليبه.
خلال القرن 16و17م دخلت دول جديدة حلبة التوسع ،ونتج عن ذلك توفر كل مقومات الثورة الصناعية : المواد النفيسة ( روؤس الأموال) والمواد الأولية والنمو السكاني وأصبح المشكل المطروح هو ضعف التقنيات المستعملة في عملية الإنتاج الصناعي .وهكذا وجهت البورجوازية كل إهتماماتها لتشجيع الإبتكارات والإختراعات والبحث عن طاقة جديدة بذيلة ،وفي هذا الإطار ظهرت عدة إختراعات تقنية ( خاصة في مجال النسيج والتعدين ) كما ظهرت طاقة جديدة ( الطاقة البخارية )وأدى تطبيق هذه الإبتكارات في مجال الإنتاج إلى إنطلاق الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن 18 م ،وشكل ذلك مرحلة أخرى من مراحل تطور النظام الرأسمالي تجلت في التحول من الطابع التجاري إلى الطابع الصناعي. وبدأ القطاع الصناعي ينتقل تدريجيا من نظام الورشة إلى نظام المعمل حيث التنظيم المحكم للعمل وتوزيعه والبحث عن أساليب جديدة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكلفة. ولم تكتف البورجوازية بذلك بل إستمرت طيلة القرن 19م في تحديث الأساليب مما أدى إلى إنطلاق ثورة صناعية ثانية ،إستفاد منها القطاع الفلاحي والصناعي والمواصلات ،وواكب ذلك سيطرة القطاع المالي (الأبناك )على معظم الأنشطة الإقتصادية وبالتالي إنتقلت الرأسمالية إلى مرحلتها المالية ،هذه المرحلة التي تمظهرت في حركة إستعمارية واسعة ذات طبيعة إقتصادية ومالية( الإمبريالية ). لقد كان التحديث الإقتصادي الأوربي متواصلا ومسترسلا وموازيا لكافة التحولات الأخرى في مختلف الميادين ،وشكل البحث العلمي المحرك الأساسي لعمليات التحديث وتعددت الإختراعات وتنوعت ،ولم يكن القرن 20م سوى إمتدادا لهذه التطورات مادامت الحداثة الإقتصادية أصبحت واقعا ومنهجا في تنظيم كل عمليات الإنتاج.
ونعود لنطرح السؤال نفسه كما طرحناه في المقالات السابقة : هل عرف عالمنا العربي حداثة إقتصادية وسعى إلى وضع أسسها وترسيخها كما فعلت أوربا ؟
الواضح أن المجتمع العربي لم يعرف ثورة صناعية وتقنية ،وإستمرت آليات الإنتاج تقليدية وأساليب تنظيم العمل قديمة ،ورغم أن الإنتاج الفلاحي والحرفي وفر الحاجيات الضرورية للإستهلاك إلا أن النمو السكاني أدى إلى إتساع الفجوة بين الإنتاج والطلب . وقد إستغلت أوربا هذا الخصاص في القرن 19م لإغراق الأسواق العربية بالبضائع المصنعة ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة ،وكانت النتيجة إنهيار حتى الحرف التقليدية التي لم تعد قادرة على المنافسة .وحاربت أوربا أي تطور تقني وكل محاولات الإصلاح والتحديث ( كما وقع في مصر مع محاولة محمد علي ) .لقد ظلت المجتمعات العربية أسواقا للبضائع ومصدرا للمواد الأولية الرخيصة ،ولغياب طبقة بورجوازية تحمل مشروعا تحديثيا وفكرا عصريا إستمرت البنيات الإنتاجية تقليدية ، واكتفت ً بورجوازيتنا ً المحلية بدور الوسيط ودعم التغلغل الإقتصادي الأوربي . وإستمرت البنيات كما كانت عليه، و بعد إستقلال المجتمعات العربية إنصب الإهتمام على الصناعات الخفيفة أو الإستخراجية والتي إحتكرتها الشركات الأجنبية . لقد دخلت عدة دول أوربية حاليا عصر ما بعد المجتمع الصناعي ،ولم تعد الصناعة المقياس الأساسي للتطور وأصبحت صناعتنا أشبه بالحرف بالمقارنة مع الصناعات العالية التكنولوجية .
لازالت طبقتنا الصناعية تخضع في تنظيم عمليات الإنتاج لمنطق الربح السريع وفي توظيف العنصر البشري للقرابة والقبلية عوض الكفاءة والإستحقاق ،وتلجأ إلى المصاهرة للحفاظ على قوتها المادية في نطاق ضيق ،إنها ً بورجوازية ًفي معظمها جشعة ومغرورة تعتقد أن الكل يستهدفها.وعوض أن تحترم القوانين وتفي بإلتزاماتها المالية وتساهم في تمويل مشاريع تنموية لاتستهدف الربح ،نجدها أكثر خرقا للقانون معتمدة على قوتها المالية ،ومستظلة بحماية سلطة حاكمة لاتقل عنها خرقا للقوانين وتكرس الوضع السائد.
إن الحداثة الإقتصادية لن تتحقق إلا بوجود إرادة حقيقية في إعادة تفكيك البنيات السائدة ،وذلك من خلال إقرار أنظمة ديموقراطية ذات مؤسسات قوية ،وتشجيع الطبقة الوسطى ودعم البحث العلمي والإنتقال من إقتصاد الريع والإمتيازات إلى إقتصاد ليبرالي إجتماعي منتج.
أحمد أبو وصال الصويرة - المغرب