إن تناول بعض المفاهيم الإبستيمولجية في ثقافتنا ( العربية والأمازيغية الإسلامية) بالدراسة أو استعمال معناها في تداولاتنا الكلامية في الشارع أو في الحجرات المدرسية ، لا يستوفي حقيقتها الكاملة ، بحيث إنه يبقي على شيء من الغموض و الإبهام فيها ، والسبب خلف ذلك ، هو تلك القطيعة اللاشعورية التي ترسخت في ثقافتنا عن العلم الخالص ، وذلك الملل الذي ينتابنا ويدفع بنا إلى النفور من التعلم لسد الفضول المعرفي . من بين أهم هذه المفاهيم ، اخترت لكم مفهوم التجربة والتحقق التجريبي ، هذا المفهوم ، الذي يعتبر أهم مفاهيم الممارسة العلمية . إنه لا يحظى بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين ، وحتى إذا تدارسوه ، فإنهم لا يضعونه في سياقه الصحيح ، فما أوفر الأدلة التي يمكن سياقتها على مشروعية هذا الحكم ؛ لننظر فقط الى بنية ومعدات مختبراتنا العلمية في مؤسساتنا التعليمية وجامعاتنا ، لن تجد سوى أدوات منسوخة عن ألعاب أطفال رديئة ، لا تختلف عن الصور الوثائقية في شيء . سترى مستوطنات العناكب في الفراغات الكثيرة ، في ظل هذه الحال المزرية ، أصبح طلب العلم لذاته تخلفا مهولا في اعتقاد عامة الناس ، وبات فعل الكشف العلمي تفاهة .
وبالمقابل أنطبع التصور العجائبي للعلم في ذهنية ثقافتنا الخاصة كتقليد وترديد لمخلفات العلم المسموح بمرورها عبر حواجز الجمارك الغربية ، كمحاكاة لطرق تشغيل اختراعات علم المتفوقين ، و كتشجيع لهم وانبهارا بما وصلوا إليه ، هذه صورة علمنا . حتي ندخل صلب الموضوع ، يمكن أن نطرح الإشكال التالي ، على أمل أن ننصف هذا المفهوم الإبستيمولوجي ونرد له الاعتبار ؛ ما دلالات التجربة والتحقق التجريبي في الممارسة العلمية الفعلية ؟ ما هي أدوارهما في بناء العلم وما الغاية منهما ؟
إننا في درس الفلسفة نطرح أسئلة فلسفية بخصوص مفاهيم فلسفية كثيرة مثل الحقيقة والنظريات العلمية والتجربة والتجريب ، و العلمية ... ونتناولها وفق الإشكالات المقررة حسب التوجيهات التربوية الرسمية . لكننا حقيقة نجهل ما نقوم به ، فنحن لا نفعل في اخر المطاف إلا أننا نحلل مكونات تلك المفاهيم ونبني حولها مفاهيم أخرى ، وكل ذلك يبقى في حدود دائرة التصور والتخيل ، فهل هذا هو ما يقدس تحت اسم تعليم التفلسف ؟ لا أرى في هذا إلا عرضا لتاريخ [ أفكار فلسفية ] مبتور ومبعثر، محدود في الماضي . اسمحوا لي أن أصوغ بعض الاستنكارات بهذا الشأن : هل تعليم التفلسف هو تعليم القراءة الفلسفية للنصوص أم تعليم إنتاج فلسفة خاصة ؟ هل تعليم التفكير الفلسفي هو تعليم أساليب المحاججة من خلال استحضار نماذج جاهزة أم يعني بالأحرى نقد هذه النماذج ؟ هل هو تعليم اشكالات محنطة وتدريب المتعلم على اتقانها وحفظها ، أم أنه بالأحرى صياغة أسئلة لم تصغ بعد ، والتساؤل حول القديمة ؟ لا أعني بهذه الاستنكارات الممارسة العملية للأستاذ ، بل أخاطب أولئك الذين وضعوا هذا البرنامج حسب هكذا فهم للفلسفة وللتعلم ، هل يحلمون بالتغيير وهم أنفسهم لا يعرفون معناه الحقيقي ؟ العيب في هذا ، أننا لا نعرف الحقيقة ، ولا نفقه ما معنى البحث الحقيقي عن الحقيقة ، ولم نجربه أبدا كما خبره الفيلسوف الحقيقي ولم نبدع كما أبدع . فالمفكرون المعدودون لدينا هم قراء للفكر الفلسفي فقط ، قراءة مقارنة وليسوا مكتشفين . لست ضد القراءة الفلسفية للتراث ، لكني أشترط أن تكون هذه القراءة عتبة قطائع واكتشافات وتجاوز ، فحقيقة موضوع معين لا تتوقف في إطار نص كتب حوله ، بل إن نطاقها أوسع بكثير من ذلك ، ففي النصوص الفلسفية تختفي ضمن التأكيدات والإثباتات والتنبؤات عوالم لا متوقعة في ذهن الكاتب ، يتوجب على الناقد أن يبحث عنها و ينطلق منها في بحثه .
رغم أن مفهومي التجربة والتحقق التجريبي ينتميان إلى حقل الإبستيمولوجيا والممارسة العلمية ، فإنهما يمثلان منهجا فعالا في التعلم التعليم ، فمن خلال التجربة نتعلم وننتقد ونكتشف ونتعلم كيف نتعلم في جميع المجالات المعرفية ، فلا يمكن أن ننتج علماء كبارا إذا لم ننتج علماء صغارا .
عموما إن لكل نظرية علمية دليل تجريبي تستند عليه في تأكيد صحة تفسيراتها لظاهرة فيزيائية معينة ، فالتحقق التجريبي من النظريات العلمية ، هو في الحقيقة اختبار دقيق وصارم لمدى تطابق ما تقوله النظرية وما يجري في واقع الظاهرة المدروسة . ان هذا التحقق الذي يجريه عالم الفيزياء أثناء عملية البحث والتفكير في الموضوع الذي يشتغل عليه ، يكون دائما تحققا مزدوجا : من جهة يكون على شاكلة فحص عقلي لسلامة البناء المنطقي للنظرية ، وهذا ما أكده الإبستيمولوجي النمساوي كارل بوبر ضمن كتابه منطق الكشف العلمي في إطار وضع المراحل الإجرائية لتكذيب نظرية ما ، أو لتمييز العلم عن اللاعلم ، فعد فحص المتن المنطقي للنظريات واستطلاع مدى اتساق استدلالاتها ، المرحلة الأولى للفصل بين العلم الحقيقي والزائف . لكن ما أريد أن أشير إليه هنا ، أن هذا الفحص من النوع الذي ذكرنا ، لا يأتي متأخرا عن الممارسة العلمية ، كما لا يمارسه رجل ناقد للعلم ، بل يمارسه رجل العلم ذاته ويطبقه على أفكاره دوما ، فهو لا ينفك عن تمحيص استدلالاته والتنقيب عن مكامن الخطأ في تركيب أجزاء القضية . أما المستوى الثاني من التحقق ، فتتم فيه مقارنة العناصر المتضمنة في النظرية بعناصر الحدث الطبيعي ، فالتجربة تقوم في هذا المقام بالمحاكاة الحقيقية للواقعة ، ويبقى مقدار التطابق بينهما هو الحكم . زيادة على ذلك ، إن للتحقق التجريبي دلالات كثيرة ، لا تقل عن عدد أساليب الاستدلال العقلي أو الأساليب البلاغية التي تستعمل في الحجاج ، فضلا عن أن له نفس وظائفها وأهدافها ، وإن كان التحقق التجريبي استدلال مادي يحاور الطبيعة ، و الحجاج استدلال عقلي يستهدف الأشخاص ، فالاختبار التجريبي يلازم الباحث الفيزيائي في كل مراحل وأطوار دراسة المسائل العلمية ، فتارة يأخذ ه للتأكيد والاثبات : كأن يؤكد مثلا استنتاجا وصل إليه في أبحاثه أو ورد في أبحاث علمية سابقة . وثارة يستعمله للدحض ، مثل أن يعد تجربة لنقض مبدأ أو قانون علمي جاء في نظرية أخرى ، كما يمكن أن يستعمل للاستدلال بالخلف للتأكيد أو للنفي ، فضلا عن اعتماده لتفسير النظرية وشرحها وتعليمها للناس ، ناهيك عن كونه مصدر سلطة النظرية ذاتها .
عموما إن محطة التحقق التجريبي هي لحظة لفلسفة العلم والتعلم والتعليم ، وذلك أن في أثنائها يدور في ذهن العالم تفكير حقيقي في الموضوع ، بشكل مكتمل ومتميز وواضح حتي يحقق جميع حاجاته في العلم ، لعل هذا ما قصده عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه لما أكد أنه لكي يكون الإنسان عالما يجب أن يلكون فيلسوفا . وهذا إن دل على شيء ، إنما يدل على أن العلم الاختباري ، يكون مسبوقا بفكر نظري موجه يقود عملية التحقق ، أو كما كان يحلو لألبرت انشتاين تسميته بالخيال . طبعا إن الخيال العلمي هو المحرك الأساسي للنشاط العلمي ، فلولاه لكان مجال خبرتنا مجالا محدودا خصوصا عندما نتعاطى مع ظواهر لا يمكن الاحاطة بها بواسطة الملاحظة الحسية .
يحتل العقل داخل عملية التحقق التجريبي حيزا كبيرا ، ضمن عملية بناء المعرفة العلمية حول الموضوع ، فله الفضل في هيكلة وتصميم الاختبارات المستمرة ، سواء كان اختبارا خياليا أو واقعيا . لا ننكر دور الملاحظة العينية هنا بطبيعة الحال ، فحضورها لا لا يمكن الاستغناء عليه سواء داخل المختبر أو خارجه ، فهي تكمل النظر العقلي حينما يكون بصدد إنشاء العلاقات والروابط بين أجزاء الظاهرة ،حيث تساعده على اختيار الأشكال الهندسية ، التي تؤلف هياكل الواقعة المدروسة . لكن رغم كل ذلك ، يبقى العقل سيد العلم ومبدؤه ومالكه ، فهو يشتغل معتدا بالشك والحيطة والحذر ؛ ليحلل الاشكال الهندسية التي تمده بها المشاهدات الحسية ، ويستنبط منها العلاقات الرياضية ، ويعممها في صورة قانون طبيعي . هكذا يتم النشاط العلمي ؛ إنه الكشف بواسطة العقل عن المجهول بدلالة المعلوم . أما الملاحظة الحسية ، ففي بعض الأحيان نتفاجأ بأنها عمياء ، وأن الإبصار بالعقل أقوى بصرا منها ، فهي لا تبصر في العلم جيدا .
إن التحقق التجريبي النهائي من نظرية معينة ، أو ما يدعى بالتجربة الحاسمة ، ليس تحققا من فكرة علمية واحدة معزولة ، بل هو تحقق من سلسلة من الأفكار العلمية ، فالنظرية العلمية عامة والفيزيائية كما وصفها بيير دوركهايم هي نسق من القوانين المستخلصة من البحوث ، فاختزال النظرية في فكرة واحدة أو في قانون أوحد ، يعبر عن فهم ناقص للنظرية ، إدا لم نقل أنه يوقع في إساءة فهمها ، أما الفهم الصحيح فينظر إلى النظرية كنسق وكنظام من الأفكار المترابطة ، ويتتبع ترتيبها .