أبى الفنان المجدد ، والباحث المبدع يزيد ألعطو إلا أن يغني " ريبرطاوره" الموزع بين التشكيل والنحت بمنجز ورقي مكتوب، هو ثمرة تجربة تراكمت وقائعها، واختمرت أفكارها وتصوراتها ، ونضجت رؤاها وتمثلاتها، موسوم ب " الزربية ذاكرة موزونى والصوف" يجمع ،في توليفة من أحداث تاريخية ، وأعراف اجتماعية ، ومعالم حضارية وثقافية... مؤلفا يتجاور فيه النفس السردي بنهج بحث وتنقيب لا يخلو من سمة الانتقاء والتمحيص المتوسل بعدة قوامها الاجتهاد والاستقصاء والتحري :" كل المعلومات المتوفرة في هذا الكتاب هي عبارة عن ذاكرة خاصة وبحث مستخلص من تجربة ميدانية" ص: 3 فضلا عن لمسة الفنان التشكيلي ، وحذق وأناة النحات التي يقارب بها رموز " الزربية" : "إلقيظن" : " وهي مجموعة من العلامات المعروفة بتصاميمها المتميزة. وتتمتع بلغة فريدة تجسد قوة مبدعيها و(جنوح) خيالهم في مجال الإبداع" ص:30.
وتتعدد رؤى وتصورات تناول الكاتب للزربية كلوحة فنية ساهمت في إفرازها، بشكل متداخل ومتشابك، آليات محكومة بخلفيات تاريخية وحضارية في نسق أنتروبولوجي وسوسيولوجي لا يخلو من مؤثرات عقدية وقيمية: " نلاحظ أنها تتطابق مع التراث الهندسي الفرعوني الذي تقاسمت معه الأمازيغية في السابق تاريخا عدوانيا وثقافة عقائدية كادت أن تكون متشابهة" ص: 38.
وتمتلك الرموز التي تتضمنها الزربية، إلى جانب دلالاتها الجمالية، وأبعادها الفنية، مكانة اعتبارية في نفوس الأمازيغ ترقى إلى مقامات تقدير روحي مشفوع بهالة من قداسة وتبجيل كثابت بنيوي أساسي في منظومتهم الحسية والفكرية: "يمكن النظر إلى رموز الزربية كواحدة من الآليات التي استعملت لأغراض عقائدية، ولولا قدسيتها ما صمدت وسكنت وجدان الأمازيغ" ص: 36. بل هو اعتقاد يتحول إلى قناعة تتغلغل في أعماق أعرافهم لتغدو أحد مكوناتها الرئيسية: "من بين الهدايا الأكثر قيمة في الأوساط الأمازيغية الزربية لأنها تحمل صبغة مقدسة وتعبر عن روح الإخاء والمحبة" ص: 28 حيث تحوز مكانة غنية بقيمها الرمزية والاعتبارية لما تعج به من حمولات وجودية وقيمية باذخة: " وأهمية حضورها في الأفراح والملتقيات ويرسم ملامح الأفراح والمسرات حتى تكتمل السعادة في صورة تربط الحاضر بالماضي، وتفرز الانتماء للون أحمر جذاب يفتح أبواب الكرم" ص: 28.
ويبحر الكاتب في عصور موغلة في القدم مستجليا إرهاصات ولبنات نشأة الزربية كمنتوج أمازيغي يمتلك سلطة بداية معرفية تشكلت أولى ملامحها في حقبة ضاربة في عمق التاريخ الإنساني جاور من خلالها حضارات تزخر برصيد فكري ومعرفي كالحضارة الفرعونية التي عاشت معها تجاذبات وتفاعلات جمالية وإبداعية: "وتوحي بفلسفة تكتم حقيقة علمية يرجع تاريخها إلى ما بين العصر الفرعوني والعصور التي سبقته" ص: 24.
ورغم شح المراجع، وندرة المصادر التي تعيق نهج كل باحث في مجال الزربية كإرث حضاري، ومكون أساسي لصرح ثقافي ومعرفي موغل في العراقة والقدم تجشم الكاتب غمار الإبحار في بحثه متوسلا بزاد الجلد والمكابدة في الاستقصاء والاستجلاء لاستشراف مجاهل حضارة ظلت حبيسة توجس وريبة يعترض سبيل كل من فكر في مخر عبابها لما يجابهه من معوقات، وما يعترضه من تحديات.
وتطرق المؤلف كذلك للجانب العقدي وما يحبل به من زخم روحي وميتافيزيقي الذي شكل جزءا من موروث حضاري غني بخصوصياته التاريخية والمعرفية والثقافية التي تميزه عن غيره من الحضارات الكونية: " نقترب من حقيقة رمز (أموركشي) الذي يدفعنا أن نعتقد أنه أحد آلهة الأمازيغ القدامى لكنه يتطلب مزيدا من البحث لإثباته وكشف تعاليمه التي تخفي معها مرحلة من تاريخ العقائد الأمازيغية" ص: 39. والملاحظ أن الكاتب زاوج بين أسلوب البحث بأدواته المنهجية المتوسلة بإواليات مقاربة تتغيا البحث والاستقصاء لإطالة استنتاجات وخلاصات عبرآليات الدرس والمطارحة ، وبين طرائق الحكي ومقوماته من شخوص وحوار ووقائع عبر وظائف وتقنيات من قبيل الوصف والتشبيه والتمثيل بدلالاتها الرمزية ، وحمولاتها الجمالية ، وقد أورد شخصيات تختزل ريادة تاريخية ، وسبقا وجوديا يتجاوز رقعة القبيلة بأعرافها الخلقية ، وامتداداتها الأنطولوجية كعبد السلام لفحل الذي شارك في "لاندوشين " ، وعاش أحداثا موسومة بحس من مغامرة ومجازفة وتحد يكشف عن بعض تفاصيلها في بوح ينضح إثارة وتشويقا : " كان ممثلا في حركاته المسرحية وبارعا في سرد أحداث ماضيه في الهند الصينية" ص: 24 ، والذي خلف حدث وفاته صدمة بليغة لدى سكان القبيلة الذين انتابتهم مشاعر من لوعة وأسى وهم: " في يوم من الأيام شاع خبر وفاته وخلف ألما شديدا لدى كل أفراد القبيلة .ولازال اسمه يعبر عن حجم قلبه وبياضه الذي لم تستطع أي رصاصة اختراقه في ثلاثة حروب: متتالية" ص : 134. إلى جانب اليزيد زوج موزونى وهو امتداد لشخصية يزيد بن معاوية وما تحظى به من هالة تاريخية تزخر بعبق البطولات والمجد إبان اعتلائها لسدة الخلافة في مرحلة تعج بجسامة وقائعها، وما عرفته من تحولات ومتغيرات نتيجة صراعات مذهبية وفكرية: " حيث جلب معه أسماء جديدة من بينها هذا الاسم الذي وجد فيه الأمازيغ مجدا لعظمة الدين ... ورمزا كذلك لدلالاته القتالية ...لهذا ارتبطوا بهذا الاسم "ص: 76. وقد اشتهر اليزيد بعدة سجايا تجمع بين التدين والورع، فقد كان ملتزما بواجباته الدينية فضلا عن انتسابه للزاوية التيجانية، وحضوره لموسم مولاي إدريس زرهون، وأيضا بسالته في القتال كفارس شارك في عدة مواقع دارت رحاها بين قبيلته وقبائل مجاورة نجا فيها من موت محقق بفضل فرسه:" لقد نجاه فرسه وأعاده إلى بيته" ص: 69. ويبقى القاسم المشترك بين اليزيد وعبد السلام لفحل هو شجاعتهما النادرة، وخوضهما لحروب ومعارك ضارية خرجا منها سالمين لتتداول حكايتهما الألسن، وتتذكرها الأجيال بفخر وإعجاب.
وتحضر شخصية موزونى داخل نسيج الحكي كشريكة حياة اليزيد التي ارتبط اسمها به بقوة رغم أنه تزوج من عدة نساء: " أنجب عشر إناث وخمسة ذكور من نساء مختلفات وزوجته الأولى كان اسمها (قا)"ص: 98 . وتميزت موزونى ببراعة وإتقان نسج الزرابي أهلتها لتلقين طرق وأساليب النسج للناشئات، وعرف عنها كذلك ولعها بالقصائد الشعرية التي تدأب على ترديد بعض مقاطعها بشغف ووله، إلى جانب نساء أخريات تميزن بألمعية ملفتة في عدة مجالات ك"خروبا" التي برعت في الغناء، وتقمص الشخصيات، وتقليد الأصوات، وأيضا فاطمة أحماد التي تخطت شهرتها القبيلة، وذاع صيتها في المناطق المجاورة لما تميزت به من شجاعة وقوة الشخصية.
وتمت الإشارة إلى شخصيات لها رمزيتها الكونية والتاريخية الوازنة مثل الإسكندر الأكبر، ونابليون ... وحقبة الاستعمار الفرنسي للمغرب وما جوبه به من رفض ومقاومة من الساكنة المحلية بمختلف شرائحها وفئاتها التي أفشلت مخططاته في زرع أفكار التفرقة والتشرذم داخل صفوفها.
ولم يفوت الكاتب الفرصة للتطرق إلى بعض أشكال الاحتفال المقرونة بأعراف تأصلت عبر صيرورة الزمن وتعاقباته كحفل الختانة / الطهارة، والزواج وما يصاحبهما من أنماط فرجوية واحتفائية نابعة من تربة البيئة، وعمق المحيط في أهازيجها الأصيلة، وطقوسها الاحتفالية ك ( أحيدوس).
وينضاف الوصف إلى المكونات السردية التي يزخر بها المنجز مثل الشخوص والأحداث والحوار: " يصدر صوتا مخيفا كخطوات الجيش الأحمر في الساحة الحمراء"ص:91. وأيضا: " امرأة عجوز ظهرها مقوس، وجهها أبيض متجعدا وموشوما بالكامل" ص: 100 وصف يجمع بين الدقة والتفصيل، والتشبيه الزاخر بزخم من أسماء ذات حمولات تاريخية وحضارية تحمل بصمات أحداث راسخة، ووقائع مشهودة أثرت في مجرى وقائع كونية بما أفرزته من تحولات، وما رسمته من معالم في خارطة عالم تجددت هياكله، وتغيرت آفاقه وأبعاده في إشارة للجيش الأحمر، والساحة الحمراء.
ولا تخلو نزعة الوصف لدى الكاتب من مسحة رومانسية يستحضر فيها طقوس اشتغال الفنان التشكيلي، وما يحيط بها من أجواء ممعنة في شفافية الإحساس، وصفاء الذهن للتحايل على لحظات خلق في أرقى تجلياتها، وأسمى إشعاعاتها:" كانت تحيط بي مناظر ساحرة وخلابة بجمالها المتوفر على ما يحتاج إليه الرسام من ضوء وألوان طبيعية بالإضافة إلى الهدوء" ص: 83 .
ويشير المؤلف إلى اعتقادات غيبية كانت شائعة بين أفراد ساكنة القبيلة ك(تسرذونت إصنالن : بغلة المقابر) التي ترسخت بذاكرتهم كحدث يندرج ضمن بنية تفكيرهم ، ونسق اعتقادهم وهي امرأة تدعى اعبيلا عوقبت بسبب اقترافها لذنب ظل غامضا وملتبسا : "عاقبتها قوى غيبية وأصبحت تتحول في الليل إلى دابة بيضاء تجر السلاسل في أحد حوافرها وترعى العشب في المقابر" ص: 104.
وأخيرا فكتاب ألعطو يزيد: الزربية ذاكرة موزونى والصوف غني بتعدد "تيماته "، وتنوع مسلكياته في البحث والإبداع التي تنم عن حس يمتح من معين معرفي يروم الاكتشاف والاستجلاء رغم جسامة المعوقات، وحجم العراقيل والمطبات.
ــ الكتاب : الزربية ذاكرة موزونى والصوف.
ــ الكاتب : يزيد ألعطو.
ــ المطبعة : المطبعة السريعة ــ القنيطرة ــ 2012