يؤشر هذا السؤال المركب، على كتابة غربية حداثية، ترتهن في سيرورة اشتغالها، بضديدين يتلابسان فيها، إلى الحد الذي يتباعدان فيه عن حديهما، ويعدلان عن قصديهما.
أولهما، الشعر الذي يخرج عن كيانه الرمزي، ونسقه الإبداعي الإلهامي، ويتجرد من رعشته الجوانية، ويطرح عنه ثراءه الذاتي.
وثانيهما، الرياضيات التي تخرج عن تجريديتها المنطقية العقلية، وانضباطها الموضوعي، وتطرح عنها صرامتها العلمية النظرية.
فهما ضديدان تترتب عنهما، في تلابسهما النصي، احتمالات تسرد لغوي رياضي غير متواتر، فيه من التنوع النسقي ما لم تعهده الكتابة من قبل، فعن تراكبهما ينتظم الشعر تبعا لإجراءات رياضية تبديه لعبة دلائل، التي تؤول به في حركية استرسال الدوال والمدلولات إلى أنساق لغوية مشحونة باللامنتظر، فيكون الهاجس المحرك آنئذ هو "تنصيص" الرياضي ضمن كتابة شعرية تنتظم في اشتغالها وفق إجراءاته، وتختلق لذة لعبية، تستغرق الكاتب، وتأخذ بذهن المتلقي بمتعتها وبتنوع احتمالاتها.
نحن بهذا المنحى الذي يتوالج فيه الشعر مع الرياضيات، إزاء سؤال ينسحب على كتابة، تنم عن استراتيجية لعبية، يتلابس في صميمها النسبي بالإطلاقي، والذاتي بالموضوعي، والمعرفي بالتمرني، والتأويلي بالوصفي تلابسا يحدو بها إلى ارتياد أفضية كتابة الغرابة.
فإلام تنسب هاته الكتابة؟
إنها تنسب إلى جماعة "الأوليبو"(L'OuLiPo)، التي ينضوي تحت ميثاقها الكثير من الرياضيين (Mathématiciens) والشعراء والروائيين، أمثال: "جاك بنس"، و"كلود بيرج"، و"جاك دوشاتو"، و"جان لسكور"، و"جان كيفال"، و"نويل أرنو"، و"إيطالو كالفينو"، و"مارسيا دوشان" ، و"جورج بيرك"... فهؤلاء وغيرهم استجمع شملهم الشاعر، والرياضي، والروائي "رايمون كينو" ، والرياضي "فرانسوا لو ليوني"، سنة 1960، حيث وسمت الجماعة في بادئ أمرها بوسم: منتدى الأدب التجريبي، إلا أن هاته السمة لم تلبث أن استبدلت بسمة: مشغل الأدب الاحتمالي، أي ((Ouvroir de Littérature Potentielle الذي اختزل في (l'OuLiPo).
ويتجلى ميثاق الكتابة الذي يلتزم به كتاب هاته الجماعة، في قولة "رايمون كينو" التالية: "نعني بالأدب الافتراضي، البحث عن الأشكال والبنى الجديدة التي يمكن للكتاب أن يستعملوها في كتاباتهم وفق ما يشاؤون"، وهو ميثاق استثار أربعة هواجس متقاطعة، تتطعم بها الكتابة، فتتزود بشبكة واسعة من احتمالات اشتغالها:
أولها، هاجس الجنوح بالكتابة إلى مدار الرياضيات، وتجريدية مقولاتها التي تبعثها على اختلاق مسالك في الأداء التعبيري، والتمرس بما ندر من إمكانيات تناسق البنى اللغوية، التي تحررها مما تواتر من تلك الإلزامات المتداخلة كالدمى الروسية،التي تصدر عنها الكتابة التقليدية.
ثانيها، هاجس اللعب بالأنسقة الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية، التي ينتظم وفقها النسيج اللغوي الناظم، فهذا اللعب ما انفك يستهوي الجماعة فتشد إليه دوال كتابتها، ومدلولاتها شدا تستحيل إثره لعبة دلائل وأنساقا دلالية.
ثالثها، هاجس الإذعان إلى الاحتمالية، التي تحدو بالكتابة إلى اشتراع مسارب تناسقات لغوية، تفك وثاق التقليد دون الانقطاع، مهما نشطت حركية اللعب، عن العالم الواقعي الذي تصدر عنه، مادام حافزها حيال هذا العالم، استكشاف إمكانية إدراك أوجهه استكشافا تبدو إثره تجربة كتابة، لاتحاكيه وإنما تختلق اللامتوقع فيه.
رابعها، هاجس إرضاخ الكتابة إلى إكراهات مستحدثة، تخلقها على هواها حتى تسلك بها مسارب تعبيرية متميزة، تخرق العرف السائد في توظيف الإكراهات الأجناسية التقليدية، وتهبها اتساقا ومنطقا جديدين.
وقد اهتدى "الأوليبيون" بفضل هاته الهواجس المتعاضدة، إلى جملة من البنى الافتراضية النسقية، التي يمكن أن ينتظم وفقها النص، وحتى نكون على بينة منها، حسبنا استحضار المناويل الصياغية التالية:
1. منوال (s+7) أو (substantif+7)، أي كتابة الاسم السابع الذي يلي كل اسم في قصيدة منجزة مسبقا، فهاته النظرية تحمل النص دلالة جديدة، لم تعهد بها إليه كلماته، وذلك بتجريده من جميع الأسماء، التي تتوزع بين ثناياه، والاستعاضة عن كل اسم بالاسم السابع الذي يليه في المعجم، وقد أوجد هاته النظرية "جان لسكور" وعمل على تطويرها "رايمون كينو"، إذ أجرى عليها إبدالات، فحل محل الاسم، الفعل، أو النعت، أو الظرف، وحلت محل العدد أعداد أخرى، وطبقت النظرية بإبدالات متنوعة على نصوص عدة.
2. منوال الكسوف، الذي يمت بصلة إلى سابقه، فهو عملية تراكب النص المترتب عن إجراء (s+7) مع النص الأصلي ((s-7 مما يجعل النص الجديد حصيلة: (s+7) + (s-7).
إنه نص مصنوع يحفل بأنساق مختلفة من التراكيب، التي تقام على علاقات دلالية متنافرة، لا تدل على دلالة منطقية، ذلك أنها لا تولي الاعتبار إلا للاحتمالي، والمتعة اللعبية المترتبة عنه.
3. منوال التعميل المشترك، (Mise en facteur commun)، الذي تصاغ وفقه قصيدة شعرية، تتقاطع أسطرها مهما تتابعت، حول قاطع مشترك، يكون عبارة عن مقطع لفظي، تختم به الكلمة التي ترد في نهاية كل سطر، أو في نهاية كل سطرين، وهو مقطع يحذف، ويتنزل منزلة العامل المشترك، الذي تعنون به القصيدة، باعتابارها تبنى عليه، فلا يكون فيها اعتبار لأنساقها التركيبية، أوشبكتها الدلالية إلا به.
4. منوال التسلسلات، التي تتمثل في إرضاخ أسطر شعرية، تحتوي عليها قصيدة معينة، لتسلسل جديد يناظر تسلسل الأعداد، بحيث نكون إزاء أسطر، تتدرج تبعا لتفاوتها من حيث الطول تدرجا يفقدها دلالتها المتجانسة، ويوقفها على دلالة متنافرة، ترتهن بأسطر شعرية، لا تتوالى تبعا لمنطق دلالي، وإنما تتوالى تبعا لمنطق رياضي، فالأصغر من الأبيات يليه الأكبر على غرار توالي الأعداد.
5. منوال الاستبدالات، التي تحد بإحلال كلمات محل كلمات أخرى في قصيدة من القصائد الشعرية، حتى تسلك بدلالاتها مسالك احتمالية، وتتم هاته الاستبدالات دون مراعاة السياق التركيبي والدلالي للقصيدة الشعرية، لذا فهي استبدالات اعتباطية تضع القارئ إزاء متاهات واحتمالات دلالية، ويكون القصد منها آنئذ استشعار متعة أثناء قراءتها.
6.منوال خوارزية ماثيوس، نسبة إلى مبتكرها "هاري ماثيوس"، وتتمثل إحدى إجراءاتها الحرفية، في آلية صنع كلمات من عناصر لغوية متنافرة، هي عبارة عن أربع كلمات كل واحدة منها ذات أربعة حروف، توضع في جدول مرقمة عموديا تبعا لتراتبها من واحد إلى أربعة، ومرقمة أفقيا تبعا لتوالي حروفها الأربعة، ويطبق على حروف كل كلمة استبدال متطابق مع رقم السطر الواردة فيه، لذا فالكلمة الأولى الواردة في السطر الأول تبقى على حالها، ويكون استبدالها تطابقيا، والكلمة الثانية في السطر الثاني، تبتدئ كلمتها المستبدلة بالحرف الثاني، ويكون استبدالها دائريا ارتجاعيا جهة اليسار، والكلمة الثالثة في السطر الثالث تبتدئ كلمتها المستبدلة بالحرف الثالث، ويكون استبدالها دائريا مكررا، والكلمة الرابعة في السطر الرابع، تبتدئ كلمتها المستبدلة بالحرف الرابع، ويكون استبدالها مكررا مرتين، والكلمات المحصل عليها تتيح إمكانية قراءتها أفقيا، كما ينبغي أن تتيح إمكانية قراءة كلمات أخرى عموديا، مركبة من حروفها.
7. منوال الكرة الثلجية، التي ترمز إلى قصيدة شعرية، تحاكيها في تكونها وتضخمها التدحرجي التدريجي، كلما تدرجت أبياتها من البيت إلى الأطول منه، فالقصيدة هنا تبعا لمعادلها الرمزي، ترتسم وفق الترسيمة التالية: استفتاح القصيدة بحرف واحد، يليه في السطر الموالي حرفان، ثم ثلاثة، فأربعة وهكذا دواليك، إلى أن نحصل على أطول بيت شعري.
8 منوال الجرود(Inventaires): التي تتمثل في تفكيك القصيدة إلى مركباتها الناظمة، واستجماعها دون الإذعان لأي نسق دلالي، ثم تركيبها من جديد وفق نسق احتمالي تبعا لما ستأتي به الصدفة، أو جردها الاعتباطي، ويمكن أن تجرى كذلك هاته الجرود، بجرد كلمات تكون ضمن قصيدة عبارة عن أسماء، أو نعوت، أو أفعال ... وصياغتها وفق قائمة ضمن قصيدة شعرية.
إن هاته البنى، وغيرها من البنى الصياغية، التي تأتلف وفقها نصوص جماعة "الأوليبو"، وتصدر عنها، تهجس بتلك الهواجس المحركة لكتابتها، فهي تحوز على قسماتها بتنصيص الرياضيات واللعب بالدلائل والأنسقة الاحتمالية، والإلزامات متراوحة بين منحيين متواتزيين:
أولهما، المنحى التحليلي، أو ما تحده الجماعة ب"التحليلوليبي" (Anaoulipisme)، حيث تتمرس الكتابة بنصوص، تنسب إلى كتاب سابقين بقصد استكشاف على مهادها بنى انتظام صوغها، وتبجيس احتمالات كتابة لعبية، لم تخطر إلزاماتها، التي تفك وثاق التقليد، ببال كتابها.
ثانيهما، المنحى التأليفي، أو ما تحده الجماعة ب"التأليفوليبي" (synthoulipisme)، حيث الكتابة تبتكر بنى صياغية رياضية، أو إجراءات آلية ترتسم وفق احتمالات النصوص، وتسلك على هواها مسارب تعبيرية نسقية ودلالية، تحركها هواجس شتى تستمد منها شحنة دفقها.
إن هذا الاشتغال المزدوج، حدا بالكتابة الأوليبية إلى تغييب البعد الدلالي تغييبا يكاد يكون مطلقا، فالجماعة كانت تسعى إلى اختلاق كتابة احتمالية، أو بعثها في كتابة أخرى، منشدة إلى تصور ترسيمي افتراضي، يرجح كفة الشكلي أو النسقي.