الأسطوري والعلمي وحدود العلاقة بينهما ـ د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

66447935لقد وجد الإنسان نفسه في الكون يرتبط به وجوديا، فأدرك عقب تراكم الخيرات لديه أن مجاله البيئي الإيكولوجي المحتضن له، ينتج ظواهر معقدة، يصعب قراءتها. فظلت بالنسبة إليه سرا عصيا، ولغزا مغلقا، يستفزانه بمفاجئاتهما ويقلقانه، إذ تتولد لديه أسئلة عديدة. إلا أنه لا يستطيع في ضوء ما يحمله من زاد ضعيف على مستوى التجارب والخيرات الحياتية والقدرات الفكرية، صياغة أجوبة نطفئ عطشه النفسي. ونظرا لطبيعة المرحلة التي وجد فيها، أي مرحلة الذكاء الفطري، أو مرحلة ما قبل النضج الفكري، وفي غياب آلية التفكير المرتبطة بالإمكانات العقلية والقدرات التأملية التي لا زالت جنينية، جنح نحو تفسير ما يلاحظه أو يعيشه من أحداث وظواهر اعتمادا على مبدأ الغيب. وبمعنى أدق، فإن التفسير يتم بطريقة ميتافيزيقية ما ورائية، باعتبارها السبيل الأقرب والأيسر، الكفيل بإخراج الإنسان من حيرته، وتسكب الإحساس بالطمأنينة النفسية في كيانه المشتت، تشتت علاقته بالوجود. لأنه كان يعيش بأحاسيسه وغرائزه، لا بعقله الذي كان غائبا وقتئذ عن مسرح التفاعل مع العالم الخارجي.وذلك لأن طبيعة التفاعل كانت نفسية إلى حد كبير. وعليه، يمكن القول أن القاعدة المرجعية للتفسير، اعتمدت وبشكل أساس على الغيبيات، الغير مدركة الخارجة عن حدود المنطق المتمردة على العقل، وهي ما اصطلح عليه بالأسطورة. والأسطورة لغة، كل ما يسطر أو يكتب والجمع أساطير وفي المعاجم : الأساطير، الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا ناظم لها. ومنه قوله تعالى في سورة المؤمنين الآية 83 :" إن هذا إلا أساطير الأولين ". والأساطير قصص خاصة تروى عن الالهة او عن كائنات  بشرية متفوقة، أو عن حوادث خارقة وخارجة عن المألوف في أزمان غابرة.وقد تتحدث عن تجارب متخلية للإنسان المعاصر بغض النظر عن إمكان حدوثها أو تسويغها بالبراهين ... إنها أمر واقع ولكنه خارج عن المنطق، والمعقول القابلين للمناقشة والبرهان. والجدير ذكره في هذا السياق، أن الأسطورة كانت في بداية الأمر ملاذا نفسيا للإنسان المتعب، الباحث عن الخلاص والتحرر من إسار الهواجس المطاردة له. إلا أن التطور الذي شمل بنيات الحياة والفكر. شمل أيضا الجانب الأسطوري. إذ تبدى هذا التطور في مظهرين اثنين:

1-المظهر الأول: اعتبار الأسطورة بنية مقدسة.
2-المظهر الثاني: أصبحت الأسطورة ثابتا من ثوابت الفكر والتفكير.
ففيما يتعلق بالمقدس، فيتمثل في الحالة التي أضفاها الإنسان على الأساطير، ولم لا وهي حبل النجاة الذي يعصمه من موت نفسي محقق يتجلى في الحيرة و التيه و الضلال في غياهب الحياة ذات الدروب المظلمة. ألا يستحق من يسدي هذا المعروف أن يبجل ويقدس؟.
أما بخصوص المظهر الثاني، ويقصد به ، أن الأسطورة أصبحت مرتكزا من مرتكزات الفكر على مستوى التأويل. ومعنى ذلك، أن الأسطورة هي المعول عليه في قراءة الأحداث والمشاهد والظواهر والوضعيات. إذ بدونها لا يمكن للفكر أن يتحرك، حتى قيل في حقها:  " الأسطورة هي سند الفكر، بل إنها خط نوراني يكشف حبات عقد الظلام المنفرط المتناثر على جنبات الطريق". إنه قول يدل وبشكل صريح عن العلاقة الجامعة بين الأسطورة والفكر. وهي علاقة إسنادية أي أنها تمديد العون للفكر كي ينجز مآربه التفسيرية والتأويلية. إذ بدعمها وسندها يكتسب القدرة والجرأة على الحركة صوب تفسير أو تأويل، أو تعليل أو تبرير. هذا وتجدر الإشارة إلى أن علاقة الأسطورة وبفعل شروط ذاتية وموضوعية(فكرية، اجتماعية، ثقافية...) تجاوزت طور الإسناد المقتصر على التأويل إلى مرحلة التعالق، ومعنى ذلك، أن الأسطورة أصبحت جزءا لا يتجزأ من الفكر، أقبل عليها، وأقبلت عليه، فتشكلت على اثرهذه   الحركة الجدلية ثقافة أسست على مبدأي :
- التساكن
- والحوار.
بين كل من الفكر والأسطورة.
لكن الواقع الخاضع لتأثير التطور الطبيعي خلخل العلاقة التساكنية بينهما لتتقلب إلى علاقة تنافر. لاسيما بعد النضج الفكري الذي غذته العلوم  وروت جسمه بدماء جديدة، يحركها الشك والنقد وعدم الاطمئنان الى  أية حقيقة مهما كانت طبيعتها، وهي رؤية ومتهج تسلح بهما العلم مؤسسا بذلك لمرحلة جديدة من تاريخ الفكر، قامت على مقولتين متعارضتين هما:
1-النفي.
2-الإثبات.
والسؤال المطروح هنا، نفي ماذا؟ وإثبات ماذا؟.
فالنفي، في سياق هذا المقام يرتبط بالحرب التي أعلنها العلم وبقوة، بعد أن فرض وجوده، شاهرا بذلك حسامه في وجه كل ما ليس له علاقة بالعقل. وبمعنى أوضح، كل ما وافق عليه العقل، بعد إذن التجرية، هو الصواب. وكل ما لا يخضع للتجربة ويخرج عن حدود العقل والمنطق، لا ينبغي الاطمئنان إليه. بل يقتضي الأمر رفضه. والمقصود المباشر، الأساطير، باعتبارها ثقافة، مادتها اللامعقول، واللامدرك... وأداتها الخيال، وهما شيئان يناقضان العقل والتجربة. وما يقوم على هذا المبدأ ينبغي حتما نفيه. والتجربة وما يقوم على هذا المبدأ ينبغي حتما نفيه. وإثبات عدم شرعيته والطعن في وجوده والشك في وضعه الاعتباري، استنادا إلى المعايير والآليات العلمية القائمة على :

- الافتراض.
- التجربة.
- الاستدلال.
وعلى هذاالاساس  شب صراع عنيف بين ثقافتين متعارضتين:
- ثقافة أسطورية: بشر بها العقل وركن إليها، فوجد فيها الدفء النفسي، والملاذ الحامي من الحيرة والقلق.... إنه جميل لم يكن من السهل على الفكر نسيانه. مما جعله يناضل وباستماتة للحفاظ  على هذا الكيان الثقافي المترتبط وبقوة بنسيج بنيته الذهنية الإدراكية.
- ثقافة علمية: تقوم على أسس مخالفة إطلاقا للثقافة الأسطورية، هدفها تطهير الفكر من الشوائب والمغالطات التي عصفت بالفكر مدة طويلة، جعلته أداة طبيعية في يد الخيالات الجامحة... بغية جعله عقلا نقيا يؤمن بقوة العلم كشرعية معرفية، ثقافية قادرة وبحق على بناء المعرفة اليقينبة. لكن ، وفي ظل هذا الصراع بين الثقافتين الذي ظهرت إرهاصاته وبوادره منذ الثورة الفرنسية لما أعلنت الحرب على الكنيسة زعيمة وبطلة تكريس الفكر الأسطوري، الخادم والراعي والساهر على مصالحها. هل استطاعت قوة العلم النورانية أن تهزم التفكير الأسطوري الظلامي المعتم. وتخرجه من الساحة الثقافية؟ أم أن قوة الأسطورة بثوابتها الراسخة في الفكر وبسحرها الدفين في النفوس جعلاها عصية على مغادرة المشهد الثقافي؟
لقد خاض العلم صراعا مريرا وشرسا ضد كل نسق يخالف العقل والمنطق، وذلك في سياق المشروع العلمي الغربي الذي تبلور في أوربا على مدى القرنين 17-18 في شقيه العلمي والفلسفي القائم على تسليط أنوار العقل على الفكر والطبيعة لتطهيرهما. وبعد الخسوف والكسوف، أول ظاهرتين طبيعيتين خرجتا من حيز الخرافات البدائية إلى نطاق العلم. ورغم أن الكسوف والخسوف أصبحا بالنسبة للعقول المتنورة حديثا ضمن الميدان العلمي، إلا أن ذلك لم يؤخذ به لمدة طويلة. ظاهرة علمية أخرى، ألا وهي ظاهرة النجوم المدنبة، فقد تطلب القبول بها ضمن نطاق الميدان العلمي فترة أطول بكثير، ولم تحسم المسألة حتى عهد نيوتن وصديقه هالي. فموت بوليوس قيصر سبقه ظهور مذنب كما يقول شكسيبر الذي كان لديه بعض الاعتقادات الأسطورية
عندما يموت الشحاذون لا ترى اي نيازك .
لكن السماء تشتعل قبل أن يموت الأمراء.
وساد الاعتقاد وقتئذ أن ظهور المذنيات ينذر بالكوارث والأوبئة والحروب... والطب بدوره كعلم، لم يسلم من اختراق الخرافة له. فالجنون على وجه التخصيص كان يعزى لتملك الأرواح الشريرة للمصاب، إذ كان علاجه يتم بتعريض المصاب للقسوة أملا في إزعاج الأرواح الشيطانية. وهو الأسلوب العلاجي نفسه الذي عولج به الملك جورج الثالث عندما أصيب بالجنون.
يتبدى إذن من هذه الشواهد المختصرة، أن العلم رغم ضرباته القوية لم يستطع خلخلة الإنساق الأسطورية إلا بشكل نسبي، وذلك لسببين اثنين رئيسين:
1-السبب الأول وظيفي: ويكمن في كون الأسطورة تتوفر على وظائف كثيرة ومتنوعة تحددها الغاية منها، وفي مقدمة هذه الوظائف، الشرح والتفسير ،والإخبار، إذ تهدف أكثر الأساطير إلى تفسير الظاهرات الطبيعية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية، في مجتمع ما وخاصة المجتمعات البدائية. وبما أن الأساطير معنية بالمجتمع فوظيفتها تفسير المشاكل المعقدة التي تصادف البشر كان تفسير كيفية خلق الإنسان، والكون، وطبيعة الحياة والموت، وبنية العلاقات المنظمة لصيرورة المجتمع. وفي هذا السياق، يرى علماء الانتروبولوجيا الأمريكيون والبريطانيون، أن للأساطير وظائف هامة من حيث كونها مرآة تعكس العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب. أما عالم الاجتماع مارسل موس فيرى أن للأسطورة وظيفة اجتماعية شاملة تقتضي عدم الإنتقاص من أثرها في المجتمع.
2-السبب الثاني: ويتمثل في ارتباط الأسطورة أو اختراقها لمجالات معرفية متعددة منها:
*الاجتماعي : وهو النسق أو المجال الذي تغلغلت فيه الأسطورة بشكل أعمق، ذلك التغلغل الذي لم يتوقف بتوقف الذكاء الفطري السابق للمنطق، بل انساب وتدفق عبر انسياق وتدفق الزمن ليضخ الدم من جديد في عروق البنية الاجتماعية، ويشكل رافدا أساسا من روافدها، فيما يتعلق بالسلوكات الاجتماعية. إنتاجا وتنظيما، وتأويلا، وتفسيرا. وذلك في ظل ازدهار الثقافة الشعبية، ذات المرجعيات الأسطورية، المعول عليها من لدن المعتقدين في الفكر الأسطوري المغذى بالسحر والشعوذة، لاسيما في الوطن العربي، في حل مشاكلهم الاجتماعية، من قبيل:
- الزواج.
- الإنجاب.
- الشفاء.
- جلب الحظ والسعادة.....
على اتباع أساليب خرافية، وإنجاز، وإعداد وصفات أسطورية، يرفضهما المنطق الصارم، والعقل السليم، والعلم .
* الديني: يعد الدين الميدان الذي احتوته الأسطورة وتحكمت فيه منذ القدم. إذ تؤكد الدراسات الانتروبولوجية أن الإنسان القديم كائن متعبد هدته جبلته إلى أن هناك قوة أو قوى حقيقية عظيمة تحكم الكون وتنظم سيرورته. لذلك انصرف بكليته إلى عبادة كل ما لا يقوى على هزمه، اجتنابا لشره وتقديسا له (الرياح، الشمس، الأمطار، الحيوانات.....) معتقدا أن ما تتمتع به هذه القوى من قوة، يعزى إلى الأسطوري العجائبي. هذا ورغم ما حققه العلم من نتائج تدحض كل المعتقدات السابقة المشوشة على الجانب العقدي التعبدي للإنسان، مازالت رواسب التفكير الأسطوري تثوي في عمق بنية اللاشعور الجمعي للبشر ككل. لاسيما المسلمين الذين لم يستطيعوا التحرر من الرواسب الأسطورية، التي لازالت تزاحم مبادئ عقيدتهم النظيفة ، وتسفر هذه المزاحمة أو المضايقة، أو قل المنافسة، عن وجهها بشكل جلي وواضح في سلوكات نسبة لا بأس بها من المسلمين، الذين يمارسون وعن اقتناع طقوسا وعادات، لا قبل للإسلام بها، من قبيل:
- زيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، والتمسح بها، لقضاء الحوائج والمآرب.
-الاستعانة بالسحرة والمشعوذين طلبا للرزق وغيره.
- الاستسلام لكذبهم ودجلهم.
- إقامة المواسم احتفاء بالأولياء.
- تعليق التمائم.
- تقديس المدنس وتدنيس المقدس.
- لذبح على النصب.
- تثبيت رؤوس حيوانات كالثعلب والذئب والغزال... على مداخل البيوت طردا للأرواح الشريرة، وصد آثار عيون الحاسدين الحاقدين،ورد القضاء والقدر... إلى غير ذلك من الممارسات الطقوسية ذات المنبع الأسطوري الخرافي، التي تجنح بأصحابها نحو الوقوع في الشركيات المفسدة للعقيدة السليمة الصحيحة القائمة على إخلاص الوحدانية لله وعدم الإشراك به.
* الأدبي: أثناء الحديث عن الأدب، فإن الذهن ينصرف إلى جنس الشعر، باعتباره المجال الأدبي الذي أبدعت فيه الأمم. وضمنته تقاليدها وأمجادها وقيمها، فحفظها  لتنتقل إلى جيل بعد جيل. وذاك هو حال الشعر العربي القديم الذي عرف بأنه ديوان العرب، وذاكرتهم الثقافية، وكما كان معلوما لدى الشعراء ورائجا بين الناس وقتئذ أن مصدر الشعر الإلهام الذي مصدره الشيطان. اذ كل شاعر له شيطانه ، مصدر إلهامه الشعري. وبقدر ما يكون مصدر الإلهام قويا، إلا وكان الشعر قويا، وصاحبه مفلقا. فعلى هذا الأساس إذن، يكون التفكير الأسطوري هو القاعدة المتحكمة في الشعر .
- إنتاجا.
- وجودة.
هذا، ويمكن أن نسوق في هذا المقام، قصة أو واقعة الشاعر الاندلسي ابن شهيد الأسطورية،  الذي قيل عنه أنه عاشر الجن في مكان يسمى وادي عبقر، وهو مكان خاص بالجن، فأخذ عنهم فن الشعر ليصبح بعد ذلك، قوي القريحة جيد الصنعة، واسع الخيال. ونفس المنطق خضع له الشعر اليوناني القديم الذي قام على الأساطير التي جعلت منه حقا، شعرا خالدا، تحدى بقوته، قوة الزمان، ولازال، لما يتمتع به من جمالية نابعة من مخزونه الرمزي الإيحائي الجمالي العابر للأزمنة والأمكنة. مما جعل رواد الشعر الحديث أو ما يعرف بخطاب تكسير البنية، يتلقفون هذه القيم الرمزية ذات البعد الأسطوري، ويستثمرونها بكيفية ملفتة للانتباه في أشعارهم. حتى أصبح من أهم خصائصه، بل من أهم أسسه الفنية ،توظيف الأسطورة، توظيفا رمزيا بنائيا يمتزج بجسم القصيدة. وتصبح إحدى لبناتها العضوية. ويعد الشاعر العراقي السياب من الشعراء الذين تعددت الأساطير في أشعارهم المستمدة من التراث العالمي والقومي، ومن أبرز الأساطير الرئيسية المعتمدة في شعره، الأسطورة البابلية التي تحكي قصة الإله تموز. وقد صرعه خنزير بري وهو يموت مرة في كل عام، هابطا إلى العالم السفلي المظلم، وبغيابه تختفي حبيبته عشتار ربة الطاقات الخصيبة في العالم.......
والمغزى الكامن وراء تلك الأسطورة، هو أن البعث لا يتم إلا من خلال التضحية وأن الحياة لا تنبثق إلا من خلال الفداء. وهو مغزى نجده وراء معظم الأساطير التي ازدهرت في حضن الحضارات الزراعية القديمة. وعلى الإجمال يمكن القول، أن النمط الأدبي لا يأتي من الحياة بل من التراث الذي كان أسطورة في الأصل. وهذا ما عبر عنه إليوت قائلا: "إن أدب عصر ما هو امتداد للتراث الذي يبدأ من هو ميروس وينتهي عند ذلك العصر..".
ويرى يونع أن الأسطورة ترتبط باللاشعور الناضج في حياة الإنسان النفسية وباللاوعي الجماعي، وهي وسيلة تعلم وتعليم في المجتمع تتناقلها الأجيال شفاها، مؤكدا على دورها في الأدب والفن، رابطا قوة التعبير لدى كل من الأديب والفنان بالاعتماد أو اللجوء إلى عالم الأساطير التي تشحن التجربة وتزودها بالطاقة الفنية.
*المعماري: إن الشيء الذي لا يصدق، هو أن الأسطورة قد اقتحمت أيضا المجال المعماري وباتت معتمدة في تأسيس المدن الإسلامية، المشرقية منها، كالفسطاط، وبغداد، والمغربية، كفاس التي ابتناها المولى إدريس الثاني، بعد حديث وقع بينه وبين راهب نصراني، أخبره أن مدينة كانت تسمى ساف، أندرست معالمها، ويستعاد بناؤها على يد رجل من آل البيت يحمل نفس أوصاف المولى إدريس، يحيى أثرها، ويعيد إقامة دارسها. فتقوى عزمه على بنائها وحفر أساسها، وقلب اسمها من ساف إلى فاس.
ويمكن التنبيه في هذا السياق، إلى أن "الروايات الأسطورية وسيلة لمعرفة المصير المجهول في حياة المدن والدول وتعبير عن العقلية المغربية والمشرقية وبخيالها في الظرفية الاجتماعية والسياسية والطبيعية، التي مرت بها، فهي تعبر عن نمط ومناهج التفكير...".
*السياسي: لعبت الأسطورة دورا أساسا في المجال السياسي. إذ تحت قوتها، وتأثير رموزها اشتعلت نيران الحروب الصليبية النصرانية التي أتت استجابة لتعاليم الكتب المقدسة الداعية إلى تحرير المناطق المقدسة من أيدي المسلمين المغتصبين، الهمج البربر... إذ تحت هذا العنوان الأسطوري العنصري دمرت ديار المسلمين واستبيحت دماؤهم، وانتهكت أعراضهم. هذا و تجدر الإشارة إلى أنه تم توظيف الأسطورة والاستفادة من مضامينها في العصر الحديث بشكل واع لأغراض سياسية أيضا. وأقرب مثال على ذلك محاولة النازية إحياء الأسطورة الجرمانية التي حاول من خلالها أدولف هيتلر السيطرة على العالم دون اكثرات لما تم إلحاقه من أذى بالعباد والبلاد. وتحت تأثير ما يسمى بالأساطير الصهيونية الداعية إلى إبادة العنصر العربي، معتبرة إياه واجبا مقدسا، أطلق الصهاينة المعتدون أياديهم في البلاد العربية يعيثون فيها فسادا، لاسيما أرض فلسطين السليبة، سارقين أرضها عنوة قاتلين مشردين أهلها، بدون وازع أو رادع. ولم لا، والأساطير التلمودية تحثهم على ذلك معتبرة أن العرب ومالهم غنائم للصهاينة. وكل من لم يغتصب شبرا من أرض عريبة، ويقتل نفسا عريبة، مقصر جزاؤه الغضب والعقاب من الله. هذا وينبغي التذكير أن الكثير من المصطلحات السياسية والاجتماعية المتداولة اليوم تحمل في طياتها سمات أسطورية لها تاريخ فلسفي معقد، كالحرية، والمساواة، والديمقراطية وهي كثيرا ما توظف لغايات تقارب ما تهدف إليه الأسطورة وتمارسه من تأثير.
*الفني: لقد عاش الفن تحت رحمة الأسطورة وقوتها وتأثيرها كما هو الشأن بالنسبة للمسرح اليوناني الذي كانت أحداثه وفضاءاته وأبطاله أسطورية عجائبية. واللافت للإنتباه أن تأثير الأسطورة شمل واقتحم جنسا فنيا من لون آخر يعتمد على التقنية العلمية، والخصائص الفنية العالمية. إنه الفن السينمائي، والمقصود هنا، الفن الهوليودي الذي يعتمد إلى حد كبير على التقنية الفنية العلمية المشهود لها عالميا، نجده يصوغ مادة أحداثه مما هو عجائبي لا علاقة له بالمنطق والعقل ومقاييس العلم، إلا أن الإقبال الجماهيري حسب إحصائيات معتمدة، يكون كبيرا عليها، في العالم، من قبل مختلف الشرائح الاجتماعية. ألا يعد بطل الفيلم المتميز بالقوة السخرة لقهر الأعداء وتحقيق النصر، في واقع الحال، نموذجا يحاكي الأبطال الأسطوريين المتميزيين بخصائص خارجة عن صفات البشر، وترفعهم إلى مصاف ومراتب المخلوقات العجائبية كما هو الشأن بالنسبة للأبطال الأسطوريين اليونانيين والإغريقيين؟ ألا يعد هذا البطل الهوليودي الأمريكي بصفاته وخصائصه امتداد للبطل الإغريقي القديم؟ ألا يعد حوارا جمع بين البطلين على المستوى العجائبي رغم الفواصل الزمنية الممتدة الفاصلة بينهما على المستويات كافة؟
ألا يمكن القول، أن الفن السينمائي الأمريكي الهوليودي المستغل على الأسطورة ذات البطل القوي الذي لا يهزم، تسوق وتروج لاسطورة القوة الأمريكية التي لا تهزم على المستوى العسكري والسياسي، والاقتصادي والعلمي. ألم تفلح في تحويل هذه الأسطورة إلى واقع معيش يقوم على هذه الحقائق؟ ألا يجد الإنسان المعاصر نفسه حائرا مندهشا مما حققه العقل الأمريكي من تقدم، لا يدري أين تنتهي الأسطورة كنسق معلق. ويبدأ النسق العلمي المفتوح؟
*العلمي: يرى كثير من المفكرين أن البعد الأسطوري أساس في كل علم. فالتفكير ينطلق من الأسطورة أو من عنصر من عناصرها ويتدرج في تطوره حتى يبلغ درجة العلم والمبدأ. ولعل الشيء الذي يمكن أن يلفت إليه الانتباه في سياق الحديث عن العلم، هو ما يعرف اليوم بالخيال العلمي. ألا يعد هذا المركب الاسمي متعارضا؟ فكيف يمكن الجمع بين الخيال الذي له علاقة بالأوهام والأحلام. لا علاقة لها بعالم الواقع، وبين العلم الذي هو مجموعة من القوانين الدقيقة المضبوطة التي تقاس بها الأشياء للحكم عليها. وتقييمها. وهذا يدل دلالة قاطعة أن العلم الذي جند نفسه لمحاربة الأسطورة، وقع بدوره فريسة بين أنيابالاسطورة  ولم يسلم من اختراقها الناعم السحري، لما سمح لنفسه الاقتران بالخيال. وهو اقتران مزج بين شقين متعارضين:
- نسق علمي، واقعي، تجريبي، بحت.
- نسق لا واقعي افتراضي:
لا علاقة ولا انسجام يجمع بينهما. هذا ويبدو أثر الأسطورة واضحا في العلم الحديث من خلال العديد من المصطلحات العلمية المقتبسة في الأصل من تسميات أسطورية مصدرها يوناني أو اسكندنافي . وأقرب مثال عليها، أسماء الكواكب المعروفة مثل جوبتير –المشتري) ميركوري (عطارد) وساتورت (زحل) وفينوس (الزهرة).
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن العلم لم يفلح في هزيمة الأسطورة التي قارعها بقوة لتحرير الفكر منها ليصبح فكرا علميا نظيفا. والواقع الكوني خير شاهد على ذلك. إذ لا يخلو ركن من أركان الأرض من ظل الأساطير. فلكل فضاء جغرافي أساطيره الخاصة به المعبرة عن طقوسه وعاداته وتقاليده البانية لذاكرته الثقافية. ولعل من أجمل ما قيل في هذا الشأن على لسان أحد المفكرين الجنوبيين. ما نصه :" .... إن الشمال يتقدم على الجنوب ويتفوق عليه في العلوم والاقتصاد، والمعارف، والفن، والاختراعات إلا أنه يتساوى معه في الأسطورة..... وتلكم هي الديمقراطية الطبيعية الصادقة العادلة البعيدة عن التهجين، والتزييف...".
إن هذا النص يلفت الانتباه ويفتح الأبصار على مفارقة عجيبة ذات بعد أسطوري إن صح التعبير، مفادها أن انتشار الأساطير في دول الجنوب، أمر مقبول عقلا ومنطقا، حيث يقل العلم أو ينعدم. لكن الشيء الذي لا يقبل هو أن تسود الأساطير في البلدان المتقدمة علميا، أي دول الشمال، حيث النضج الفكري والثورة المعرفية والعلمية. إذ لازال الكثير من الأوروبيين يؤمنون بالأساطير التي تبدو واضحة جلية في كتابات بعضهم، وكذا إنتاجاتهم الفنية. وهذا يؤكد أن العلم نجح جزئيا في التصدي للأساطير التي لازالت تمثل حيزا كبيرا في نسيج البنية الذهنية البشرية مما يقطع الطريق وإلى الأبد على محاولات العلم الآنية والمستقبلية الرامية إلى القضاء على الأساطير. مادامت كالعتقاء تنبعث من تحت الرمادعقب الاحتراق. لكن ما السر الكامن وراء قوة الأساطير؟ وما سبب تمكنها من أفكار الأفراد والجماعات؟
إن الأسباب التي تقف وراء قوة الأسطورة وصمودها، واختراقها للأزمنة والأمكنة، لا يمكن حصرها. أو الإلمام بها، لأنها ذات نظام معقد. وللخروج من هذا المأزق اعتقد المهتمون بالشأن الأسطوري، أن الأسطورة تستمد قوتها من ثلاثة أنساق متحكمة هي :
1- النسق الجمالي.
2- النسق النفسي.
3- النسق التربوي.
فبخصوص النسق الجمالي: فإنه يتجلى في البنية الجمالية، أو الطاقة الجمالية الكامنة في أوصال، وجوف الأساطير المنسابة منها أثناء عملية التلقي أو القراءة. فعلى سبيل المثال، فإن أسطورة حصان طراودة، تختزن قيما جمالية، ينكشف بعض أسرارها بفعل عملية القراءة، إذ يشعر على إثرها المتلقي بتسرب مفعول اللذة، ونشوتها إلى أعماق نفسه، فيشعر بأحاسيس تغمره، تثير في وجدانه رعشة أو رجة فنية خارج حدود التوصيف.
أما النسق النفسي، فيكمن في التجاوب النفسي بين الذات المتلقية ومضامين الأساطير التي توفر له ملاذا يسكن إليه، فارا من هجير الواقع ولظاه، ومقبلا على الحياة كما مثلها الإنسان القديم في أساطيره، حيث الطمأنينة النفسية والتحليق بعيدا وعاليا عن عالم يشكو تعب الأسر والخضوع لآلية الحياة المعاصرة.
وفيما يتعلق بالنسق التربوي، فيمكن القول أن النسق الهام المؤسس للبنية الرمزية للأسطورة. ولعل البعد التربوي المستشف من أسطورة حصان طراودة خير دليل على ذلك، إذ ينطوي على عبرة جليلة تهدف إلى تنمية الذكاء لدى المتلقين، وذلك عبر إعمال العقل وتجنيد قواه لأجل التوصل إلى المخارج المنقذة للإنسان من المأزق الممكن مواجهتها في الحياة. وذلك على غرار ما فعل بطل أسطورة حصان طراودة الذي هداه عقله بعد الأزمة الطويلة، والتفكير العميق ،إلى اختراع حيلة ذكية، تمثلت في صنع حصان خشبي ضخم، حشي جوفه بالجنود مما أغرى جنود القلعة المحصنة، المعتدين وحفزهم على فتح أبوابها لأخذ الحصان الذي اعتبر غنيمة، ولما أدخل الحصان إلى داخل القلعة، خرج الجند من جوفه ليلا، ففتحوا أبوابها، وذلك بعد حصار طويل امتد لسنوات فاقتحمها جند البطل وألحقوا الهزيمة بالعدو، فحرر البطل بحيلته الذكية أميرته هيلانة. فظلت هذه الأسطورة  منذ ذلك العهد، عهد الغول والعنقاء، وإلى اليوم، عهد العلم وثورته، مضرب الأمثال لدى بني البشر، في جميع الأنحاء والأمصار، لما تتمتع به من قيم تشربت عذوبة حكمتها النفوس، وأيقظ منطق مضمونها الألباب. فعشقها الأسيوي، والأوروبي، والأمريكي، والعربي. أين هي، إذن قوة العلم وجبروته، إذ لم يمنع انسياب الأساطير وتدفقها عبر الأزمنة، مخترقة بقوتها وسلطة تأثيرها عقول الأجيال؟ فهلا منع الاختراق عن نفسه قبل غيره؟
الدكتور محمد الصفاح.
المراجع المعتمدة:
1- المدينة تاريخ المغرب العربي. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية II ابن مسيك الدار البيضاء.
2- راسل أتى العلم في المجتمع ترجمة صباح صديق الدملوجي.
3- الحداثة الشعرية: الأصول والتجليات. دكتور محمد فتوح أحمد. دار غريب للنشر والطباعة والتوزيع.
4- جيمس فريزير، أساطير في أصل النار ترجمة يوسف شلب الشام دار العلم دمشق.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟