لا يسعني، هنا إلا أن أضمّ صوتي إلى أصوات كثيرين غيري ممن طالبوا، من دون تردّد، بإيقاف عرض مسلسل «في حضرة الغياب»، الذي يجسّد حياة وتجربة الشاعر الراحل محمود درويش، بعد وصلات الابتذال التي طالعتنا بها الحلقات الأولى من هذا العمل الدرامي الباهت، مضمّناً صوتي إلى صوت الكثيرين ممن يجأرون: أنقذوا محمود درويش..
كنا نتوقع أن يُنصف هذا العمل الشاعر الراحل محمود درويش بأداء معقول، إلى حدٍ ما، وكنا نظن أن خبرة الممثل فراس إبراهيم، ومعه حسن يوسف كاتب السيناريو، والمخرج أنزور يمكن أن تفضي إلى عمل درامي نوعي هذا العام، ولا سيّما أنه يحاكي قامة شعرية سامقة، تركت أثراً من شعرها عند أجيال وأجيال، بيد أن الصدمة كانت مهولة ابتداء من أولى مشاهد هذا العمل الكارثي المبتذل الذي غاب فيه محمود درويش الشاعر ولم يحضر الممثل البارع الذي استطاع محاكاته بشكل مقبول.
فإلى جانب الاعتراضات الكثيرة التي سُجلت على المسلسل، ومنها رداءة تقمّص الممثل فراس ابراهيم لدور الشاعر الكبير، وسطحيته وافتعاله في التصدي لمثل هذا الدور، المركّب والمعقد، وما كيل له من عجز في أدائه لشعر درويش بسبب الأخطاء اللغوية الهائلة التي شابت هذا الأداء، يمكن أن نضيف هاهنا سبباً آخراً لعله أسهم في تدني مقبولية الجمهور العربي للدور الذي جسّده فراس ابراهيم لشخصية الشاعر محمود درويش.
والسبب يعود الى كون الشاعر درويش لا يزال راهناً وحاضراً لدى الكثيرين بالنظر الى وفاته التي لم يمض عليها سوى ثلاث سنوات فقط، بمعنى أن شخصية درويش بملامحه وصوته وحركاته وطريقة القائه للشعر لا تزال حاضرة بقوة عند كثيرين ممن سمعوه أو شاهدوه، فليس سهلاً والحال كذلك أن تتغلب أيمّا صورة مُتقمَصة على شخصية درويش الحقيقية لدى الكثيرين، على النحو الذي يسمح ربما في تجسيد شخصية رحلت قبل عشرين أو ثلاثين عاماً مثلاً.
محمود درويش الشاعر شاطر جمهور عريض ذاكرة جماعية لا تزال تفاصيلها حاضرة في وعيه، ذاكرة شعب أقتلع من أرضه بالقوة وقد تلقفته المنافي في أربع جهات هذه الأرض، ومن ثم فان شخصيته وشعره ورمزيته ارتبط عند الكثيرين بقضية كبيرة، هي قضية العرب في فلسطين، وهيهات لشخصية تكرسّت عند كثيرين على ذلك النحو الموغل في الاعجاب عبر هذه السنوات الطويلة أن تنتزعها صورة أخرى، مغايرة في الشكل وفي الأداء، حتى لا نقول أكثر من ذلك، وتحتل مكانها في وعي ذلك الجمهور، الثقافي والسياسي.
لقد خذَل هذا العمل نسبة ليست قليلة من جمهور الدراما الرمضانية هذا العام بالاضافة الى أولئك الذين استدرجهم موضوع هذا العمل الى متابعته حصرياً، وهو ربما ما يفتح المجال مجددّا لادانة منطق التربّح من استثمار رموز مكرّسة في الساحة الثقافية والسياسية والفنية لانتاج مهازل درامية على حساب جودة العمل ونوعيته ورسالته أيضاً، وعلى حساب مكانة هذه الرموز وايقاعها عند جمهورها.