على سبيل التّقديم
يَشْتَرعُ كتابُ "شيخوخة الخليل"،* للنّاقدِ المغربي "محمّد الصّالحي"، أفقاً نقديّاً متفرداً في مُساءلة قَصِيدة النّثر العربيّة، وتحديد ماهيّتها وخصائصها البنائيّة والشكليّة والفنيّة والإيقاعيّة، بِعَدِّهَا إِمْكَاناً جديداً من مُمكناتِ الصّوغ الشعريّ. ويتبدّى هذا الأفق النقديُّ الجديدُ، في سعي النّاقد، بحذقٍ ومكابدةٍ وتروٍ، إلى تبديل موقع وآلياتِ النّظر إلى هذه القصيدة التي رزحت، رَدْحاً من الزّمن، تحت وابلٍ من الدّراسات المشروخةِ بالنّزعةِ الدّعائيّةِ والاختزاليّةِ والسطحيّةِ. بهذا المعنى، يجترحُ هذا الكتابُ مُقْتَرَباً نظرياً عميقاً، غايتهُ الأساسُ الصّياغةُ العلميّة الملائمةُ للواقعِ الشّعري لقصيدةِ النّثر.وفي هذا المَسْعى المحفوفِ بالمطبّاتِ، وعبرَ امتدادِ فصولِ الكتابِ، لا يَنِي النّاقد يضعُ المسلّمات الصّلبة، التي سّيجت قصيدة النّثر العربيّة، موضعَ المساءلةِ والتّمحيص؛ ليكشفَ، بمسباره النقديّ، تَهَافُتَ بعض هذه المسلّمات وهَشَاشَةَ مُنْطلقاتها الإبستمولوجيّة. ذلك أنّ الخطابَ النقديَّ الذي واكبَ ظهور قصيدة النّثر خلال ستينياتِ القرن الفائتِ، ظلّ قاصراً عن إدراك كنه هذه التّجربة الشعريّة بما تنطوي عليهِ من مقوماتٍ وخصائصَ، وعمدَ إلى مُعالجتها بالاستنادِ إلى مقارنتها بأشكالٍ أُخرى، أو الاحتكام في تحديد تُخُومِهَا إلى معاييرَ طباعيّة أو غيرها من المعاييرِ الخارجيّة التي تهملُ شعريّة النّص. والشّعريّة، هاهُنا، مقصودٌ بها تلكَ الطّاقة الخفيّة/ الداخليّة التي تجعلُ من نصٍّ ما نصّاً شعريًّا، بصرفِ النّظر عن الإسقاطاتِ الخارجيّة أو هَواجِسِ المقَارنَة.
ولِتفادي هذا القُصور، أكّد النّاقد على ضرورةَ النّظر إلى قصيدة النّثر العربيّة بحسبانها إمكاناً إلى جانبِ عددٍ لا نهائيٍّ من الإمكانات الإيقاعيّة الأخرى المتحققة والمحتملة. ومن ثمة، وَجَبَ البحث عن إيقاعِ هذه القصيدة دَاخِلَهَا لا خَارِجَهَا؛ أي بِاستنْبَاطِه من أعماقِ القصيدةِ لا إسْقاطه عليها من الخارج.
فضلاً عن ذلك، تَتَراءى فَرادة الكتابِ، في اتخاذه السّؤال آليةً للنّبش في ماهية هذه القصيدةِ ورصد إشكالاتها. فالمهمّ، حسب النّاقد، ليس مُراكمة أجوبةٍ ناجزةٍ أو تأكيد طُروحات نظريّة سالفةٍ؛ فهذا أمرٌ غير مجدٍ في مجالِ العلمِ. إنّ البحث عن حقيقةٍ مّا، أو موضوعٍ معينٍ، يقتضي التوسّل بالسّؤال؛ فَوَحْدَهُ السّؤالُ مبررُ البحثِ، والضّامن لاستمرارية الوجُودِ. وهو بعد وذاك، الدّليل النّاصعُ على اشتغالِ الفكرِ.
- التّصميم المنهجيّ
ينتصبُ كتابُ "شيخوخة الخليل" على خطةٍ منهجيّة قوامُها الأبواب المشدودةُ تنظيرياً إلى قصيدة النّثر العربيّة. وقد أَفْضَى القَلَقُ العلميّ-وهو قلقٌ يعكسُ عُمْقَ الإحْسَاسِ بالإشكالِ المركّب والمتفرّع-بالنّاقد إلى تنظيم مادّته المعرفيّة تنظيماً متماسكاً، مترابطاً منطقياً ودلالياً. إذْ قسّم النّاقد كتابه إلى ثلاثةِ أبوابٍ تنضوي تحتها، بشكلٍ متدرجٍ ودقيقٍ، مَجمُوعةٌ مِن الفُصولِ المُتفرّعة، بدورها، إلى محاورَ صُغرى. فضلاً عن ذلك، اُسْتُهلّ الكتابُ بتقديمٍ عامٍ، وهو عبارة عن مدخلٍ نقديٍّ يبرزُ فيه النّاقد "العربي الذهبي" القوة التحليليّة التي يستميز بها كتابُ "شيخوخةُ الخليل". بينما اُختُتِم الكتابُ بخاتمةٍ يستجمعُ فيها النّاقدُ كلّ الخلاصاتِ التي توصّل إليها، بعد بحثٍ دقيقٍ في قصيدةِ النثر العربيّة. وتتراءى الهيكلةُ المنهجيّة للكتابِ في التّرسيمة التاليّة:
- تقديم؛
- الباب الأوّل: قصيدة النثر... في المصطلح؛
- الشّعر المنثور والنثر الشعري؛
- الشّعر المرسل؛
- الشّعر الحرّ؛
- قصيدة النثر؛
- الباب الثّاني: الشّعر، النثر، التقاطعات والهويّة الأجناسية؛
- الفصل الأول: الشّعر، النثر، مكر الشّكل، وفاء الإيقاع؛
- الفصل الثّاني: هويّة النّص الشعري؛
- تشاكل النّص الشعري،
- الإيقاع مهيمنة؛
- الباب الثّالث: قصيدة النثر... بحثاً عن شكلٍ؛
- الإيقاع...القوة البادئة؛
- وضعية المقامة؛
- غواية الصّوت
- شعرية النص...الحصّة الغائبة
- خاتمة
نستشفّ، بناءً على ما تقدّم، أنّ كتابَ "شيخوخة الخليل" يتشيّدُ على رؤيةٍ منهجيّةٍ واضحةٍ، ودقيقةٍ، ومتدرّجةٍ في عرضِ المعطى العلميِّ. إنّ الناقد، هنا، لا يعرضُ مفاصل كتابه على شكلِ وحداتٍ منفصلةٍ ومعزولةٍ وغير مرتبةٍ، بل إنّه ينضّدها ويرتّبها بشكلٍ علميٍّ يبرز عُمق تحكّمه في المجالِ المعرفي قيد الدراسةِ. ولهذا القول ما يسندهُ، فالقارئ الفَطِنُ يُدركُ -وهو على منضدته التّأمليّة-أنَّ الناقدَ ينتقل بسلاسةٍ من بابٍ لآخر. دليلُ ذلكَ استهلالُ الناقدِ الكتابَ بالتّحديد الاصطلاحيّ لقصيدة النثر العربيّة ورصد الارتباكِ المصطلحي الذي شابَ عمليّة تعريف هذه القصيدة. ثم انتقاله، بعد ذلك، إلى معالجة التقاطعات الممكنة بين الشّعري والنثري مبرزاً الهويّة الأجناسيّة لكلّ مِنْهُمَا. لينتهيَ، في الأخير، إلى رسمِ مُـمْكِنٍ فنيّ جديد مُعَبِّرٍ عن شكلِ قصيدة النّثر العربيّة.
- "شيخوخةُ الخليلِ" أو حِذقُ الوعيّ النّقدي –دلالاتٌ، تساؤلاتٌ، وآفاقٌ-
سَنَعْمدُ في هذا المحورِ إبرازَ مضامين الكتابِ، ثم البحثَ عن الدّلالات والتّساؤلات الثّاوية فيه، مع الوقوف عندَ الآفاق المعرفيّة التي يشترعها. سنقومُ بهذه العمليّة محترمينَ التنظيمَ المنهجي الذي اعتمدهُ النّاقدُ. بمعنى، سنقف عند كلّ فصلٍ على حدة، لنستجليَ مَضَامينهُ ودَلالاتِها، دونَ إغفالِ الرُّؤى النقديّة التي اِنتظمت المسَار التّحليلي للكتابِ.
يَقف الناقدُ، بُداءةً، في البابِ الأوّل من الكتابِ، عند قضيّة المصطلح، مؤكداً أنّ البَاحَثَ في قصيدة النثر العربيّة، لا يني يصطدم بالفوضى المصطلحيّة التي أفرزتها مُعضلةُ تداخل الحدودِ بين أشكالٍ أدبيّة متعدّدة. فمُنذ ما سميَ بعصر النّهضة، ستتجمّع في سلّة النقد الشعريّ العربيّ الكثير من المصطلحاتِ، التي تشي بارتباكٍ بادٍ، ومن هذه المصطلحات: الشّعر المنثور، القصيدة المنثورة، الشّعر المرسل، الشّعر المنطلق، الشّعر الحر، النّثر المركز، النّثر المشعور، النّثر الموقع، البيت المنثور، النثر الشّعري، قصيدة النّثر، النثيرة. ومردُّ هذا الارتباك، حسب النّاقد، عدمُ تدقيق المصطلح أو التّفكير في توحيده. لهذا، لم يتوان النّاقد عن تدقيق هذه الاصطلاحاتِ. ومن ثمَّ، نجدهُ يتساءل، بضربٍ من الاستشرافِ المنهجي، عن التّجليات الشّعرية في النّثر العربي، وعن التّجليات النثريّة في الشّعر العربي. في مدار التماسّ هذا، تنبَجِسُ أسئلة أُخرى من قبيل: ماذا فَقَدَ الشّعر حتى عُدَّ قريباً من النثر؟ وماذا فقد النثر حتى عُدَّ قريباً من الشّعر؟ وكيف تمّ التّسليم بشعرية نصٍّ تخلى عن كثير من مُواصفات الشّعر المتداولة والمتواضَعِ عَلَيهَا؟
لِلإجَابَةِ عن هَذِه الأسئلة المُربكة، ارتأى النّاقد "محمّد الصّالحي" الوقوف عند مختلف الاصطلاحات النقديّة التي برزت في هذه الفترة، ليرصُد مدى صدقيّتها ومعقوليّتها. وسنسوق، هاهُنا، هذه المصطلحات مع التّعريفاتِ التي ازدانت بها، دون أن ننسى إيراد الملاحظات النقديّة التي أبداها النّاقد:
- الشّعر المنثور والنثر الشعري
توسّل النّاقد، في معرضِ تمييزه بين الشّعر المنثور والنثر الشعري، بتعريفِ "أمين الريحاني"، الذي يعرّف الشّعر المنثور بالقول:
" هو آخر ما توصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص عند الأمريكيين والإنجليز، فميلتون وشكسبير أطلقا الشعر الإنجليزي من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر المطلق وزنا جديداً مخصوصا وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة. ووالت ويتمان هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين المتخلقين بأخلاقه الديموقراطية المتشيعين لفلسفته الأمريكية"[1]
يبدو أنّ الشّعر المنثور، حسب تعريف الرّيحاني دائماً، تسرّب إلى الشّعر العربي من نافذة أمريكيّة، بفعل المُثاقفة. ثم إنّ هذا التعريف، يضعنا أمام فكرةٍ شغلت الكثير من الباحثين، في تلكَ الآونة، وهي فكرةُ النهوض. لهذا، كان العَروض، في حسبانِ هؤلاءِ الباحثين، الحائل دون النهوضِ الشّعري العربي. إنّ هذا التعريفَ، كما يرى "محمّد الصّالحي"، يومئ إلى الهاجس الشّكلي المتحكم في الدّرس النقدي العربيّ. وهو هاجسٌ ينظرُ إلى كلّ نصٍّ لا يخضعُ للوزنِ والقافية شعراً منثوراً، والدليل ورود اسم "والت ويتمان" ككاتب شعرٍ منثورٍ في حين أنه كتب الشّعر الحرّ وهو من رواده الأوائل. تساوقاً وهذه الملاحظات، ينحصرُ تعريفُ الريحاني في التمييز بين الشعر المنثور والشعر التقليدي، ليبقى السؤالُ الأسُّ معلقاً: ما الفرق بين الشّعر المنثور والنّثر الشّعري؟
بحثاً عن جوابٍ لهذا السّؤال، يلوذُ النّاقد بما أورده "أنيس المقدسي" من آراء نقديّة في كتابهِ "الاتجاهات الأدبيّة في العالمِ العربي الحديث"، والذي يرى أن الشعر المنثور أسلوبٌ من أساليب النثر تغلبُ فيه الرّوح الشّعرية من قوة العاطفة وبعد الخيال، في حين النّثر الشّعري هو محاولة جديدةٌ قام بها البعض محاكاةً للشعر الافرنجي. وبهذا المعنى، فإنّ النثر الشعري نثرٌ أولاً، والشعر المنثور شعرٌ أولاً. وهنا، يؤكد محمّد الصالحي، أن التمييز بين النثر الشعري والشعر المنثور، ينبغي أن يهتدي بأدواتٍ نقديّة كفيلة برسم تخومِ كلّ حدّ. وهو أمرٌ يستدعي تأملّ التجربةِ الشعريّة من داخل متاحها الفني لا اللجوء إلى الإسقاطِ السّاذج أو المقارنَة المخلّة.
- الشّعر المرسل
ينطلق النّاقد في تحديده للشّعر المرسل من التّعريف الذي وضعهُ "س. موريه"، والذي يعرّف الشّعر المرسل بالقول:
"الشعر المرسل في الإنجليزية يتكون من أبيات غير مقفاة من الوزن الإيامبي ذي التفعيلات الخمس، ويستخدم أساساً للشعر الملحمي والدرامي، وثمة تميزٌ واضحٌ بين هذا وبين المزدوج المقفى الذي هو دائما مكون من الأبيات الثنائية المتساوية المقفاة"[2]
يكشفُ هذا التعريف، حسب النّاقد، عن نظرة خارجيّة اختزاليّة تربطُ الشّعر بالشّكل الذي يتخذه على وجه الورقة، وتقرنه بحضور الوزن والقافية أو غيابهما. وهذا الأمر يجانب الصّواب، فالمطلُوب النّظر إلى هذا الشّعر من داخل الإِبستمي الذي ينتمي إليه لا الاستنادُ إلى معاييرَ خارجيّة تُؤبّد سُلطةَ الماضي وَقَدَاسته الزّائفة. وفي هذا الصّدد، قارن النّاقد بين الشّعر المرسل الإنجليزي ونظيره العربيّ، فَخَلَصَ إلى النّقاط التّاليّة:
- اعتماد الشّعراء الإنجليز في تحبير قصَائدهم الكلامَ اليوميِّ في حين هَجَرَ الشّعراء العرب لُغة زمانهم واغترفوا من لغة التراث؛
- تخلى الشّعراء الإنجليز عن القافية، لكنهم عوّضُوها بمتتاليّة من الأبيات الطّيعة، ذات معنى ممتدّ وإيقاع متدفقٍ. ثم إِنهم توسلوا بالتّضمين للاستفادة من إمكانات النّبر والتنغيم والتوازي الصوتي والتكرار. أما الشعراء العرب فاحتفظوا باستقلال البيت وبنظام الشطرين؛ فكان شعرهم ضَحْلَ الخيالِ عارياً من توتر الذّات.
والحاصل فإنّ الشعر المرسل العربيَّ لم يستمدّ نُسغه من داخل فعلِ الشّعر، بل إنه ارتكن في بناءِ عوالمه إلى فعل النهوض الأمر الذي رسّخَ سلطة البيت الشعريّ، فكانت معظم المحاولات الشّعريّة خدوشاً بسيطةً على وجه القصيدة العربيّة.
- الشّعر الحرّ
يلحظُ النّاقد، من خلال استقصائه لدزينةٍ من التعريفاتِ التي خصّت الشّعر الحرّ، أنّ هناكَ ارتباكاً يشوبُ هذه التعريفات. وهكذا، يقف عند الخلطِ المُريبِ الذي سقطت فيه "نازك الملائكة" حين عرّفت الشّعر الحرّ وجعلته صنو الشّعر التفعيلي، إنّها تستعملُهما بمعنى واحدٍ، مُسْتَندها في هذا الاستعمال المسْكُونِ بالنّزعة الخروجيّة والانبهار الخادعِ، أنّ شعر التفعيلة والشّعر الحرّ قد نسفا استقلاليّة البيت العربي، وخرجا عن قانون تساوي الأسطر، ونبذا القافية؛ وبالتّالي فهما صِنوانِ.
وبحثاً عن حلّ لهذا الارتباك المصطلحي المخلّ، لاذ النّاقد بتعريف الباحث الفلسطيني "جبرا إبراهيم جبرا" الذي يقول:
"الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو "Free Verse" بالإنجليزية "vers libre"بالفرنسية. وقد أطلقوه على شعر خالٍ من الوزن والقافية كيلهما. إنه الشعر الذي كتبه والت ويتمان، وتلاه فيه شعراء كثيرون من أدب أمم كثيرة. فكُتّابُ الشعر الحر بين الشعراء العرب اليوم، هم أمثال محمد الماغوط وتوفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات. في حين أن قصيدة "النثر" هي القصيدة التي يكون قوامها نثرا متواصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي".[3]
يجدُ النّاقد في هذا التعريف، رؤى نقديّة تقع على درجةٍ عالية من الدّقة والعلميّة، ذلك أن تعريف "جبرا إبراهيم جبرا"، وبخلافِ باقي التّعريفات، يَضَعُ يده على مَكْمَنِ الدّاء بالإشارة إلى أنّ الشِّعر الحرّ تخلى عن الوزن والقافية معاً، ومن هنا وُسِمَ بالحريّة، وليسَ لأن الشّاعر مُنح حُرية الخلط بين التّشكيلاتِ الوزنيّة، والمزجِ بين الوحدات المتساوية شكلاً. ثم إنّه وضع شعر والت ويتمان في مكانه الحقيقي؛ أي الشعر الحر. فضلا عن ذلك، وضع "جبرا" بعض الأسماء الشعرية العربية في مكانها الحقيقي؛ إذْ طالما اعتبر محمد الماغوط وتوفيق صايغ شاعريْ "قصيدة النثر" بل نُظر إلى الماغوط كمؤسس لها، وهو ليس كذلك.
- قصيدة النثر
لتعريف قصيدة النثر، وتحديد ماهيّتها، يوردُ النّاقد كوكبة من التّعريفات ويخضّعها لتحليلٍ صِغْرْي، بلغة "رولان بارث"، يكشفُ سقطاتها وهنّاتها، ليعيدَ بِنَاءَهَا، من جديدٍ، بشكلٍ علميّ.
بدايةً يَقِفُ النّاقد عند تعريف "سركُون بولص" الذي يربطُ قَصَيدَةَ النّثر بالتقطيع الشّكلي. تبعاً لذلك، يقع بولص في الوهم الشّكلي الخارجيّ، وهو وهمٌ مضللٌ؛ تكمن خُطورته في كونه ينظرُ إلى القصيدة النثريّة من زاوية اختلافِها عن الأشكال الشعريّة الأخرى، لا من حيث هي كلّ متكاملٌ وعالمٌ منسجمٌ، ينصاعُ لمنطقٍ جديدٍ نابعٍ من إملاءاتِ الإبستيمي الذي تخلَّق في رَحِمِهِ. ووَفْقَ هذا السّمت التحليليّ، يُشَرِّحُ النّاقد، بمبضعِ التساؤلِ والرّج العنيفِ، التعريفات التي أُعطيت لقصيدة النثر، وهي تعريفاتٌ تصلّبت مع مرور الوقت وألفتها السّاحة النّقدية بضربٍ من التقبّل العفويّ السّاذج.
لقد كانت أغلب الأحكام النقديّة جُزافية واختزالية ربطت قصيدة النثر بالشكلّ الكاليغرافي وهيئتها على الورق، مُغفلة أنّ هذه القصيدة تشكلّ إمكاناً جديداً يرتهن بتغيير النّظرة السّائدة. فَبَدَلَ أنْ نسأل، كما يصدحُ محمّد الصّالحي: ما هذا الشكل الجديدُ الذي رسخته قصيدة النثر؟ نسأل: ما هذا الشكل الذي تسعى قصيدة النثر الانفلات منه؟ سيقودنا إيقاع النّص إلى تحديد شكلٍ لقصيدة النثر، لأنّ تميزها عن أنواع الشّعر الأخرى ليس تميّزا شكليا خارجياً، وإنما هو تميّز إيقاعي. هاهُنا، نَكُون قد أَصخنا السّمع جيداً لعمق هذه القصيدة.
ويرفض النّاقد كلَّ قول يَنْحَاشُ إلى اعتبار قصيدة النثر ثورة جذرية تعكس تطوّر القصيدة الشعريّة. فالشعر لم يولد ضعيفاً وصار أقوى مع مرورِ الزّمن. بل إن الشّعر يظل محتفظاً بجوهر مّا، ببنية خفيّة ما، وإن الذي يتغيّر بين الحقبة والحقبة، هو العرضي. كأنما يبحث الشعر عن شيء أضاعهُ مخترقاً الأزمنة كلّها، وكلما يئس من العثور على ضالته اتخذ هيئة أخرى مغايرة للسابقة، لكنه يظلّ هو هو، شعراً ذا هدف واحدٍ، هو أنْ يكونَ شعراً.
انسجاماً وهذه المعطيات، ينبغي بناءُ وعيّ نقدي يربأ عن اعتبار الوزن والقافية مركز العمليّة الشعريّة. وبالتالي، استصغار كلّ نصّ خالٍ منهما، إن لقصيدة النثر قافية، ليست القافية بمعناها القديم، وإنما هي قافيّة اجترحتها هذه القصيدةُ لتتساوق وممكناتِ التجربة الشعريّة الجديدة. وبناءً عليه، فإنّ النقد مطالب، أكثر من أيّ وقت مضى، بالبحث عن إيقاع القصيدة النثريّة، والذي ليس بالخارجي ولا بالداخلي. إنه إيقاع متفتقٌ عن القانون الأكبر للنسق العام على حدّ تعبير "شارل بودلير".
ويورد النّاقد في نهايةِ هذه المحور، العديدَ من المؤاخذات على الخطابِ النّقدي العربيّ الذي استوردَ أطروحة "سوزان برنار" عن قصيدة النثر، دون أن يستقرئ خلفيّاتها وعُمقها الإبستمولوجي. وهكذا، يرى في الشّروط التي حدّدتها سوزان برنار لقصيدة النثر (الإيجاز، التّوهج، المجانيّة) انزلاقاً عن ضوابط العلم. وتكمنُ لا عمليّة هذه الشّروط في كونها مرتبطة بشعريّة النّص بالضرورة، فقد يكون في النّص إيجازٌ وتوهجٌ ومجانيةٌ ولا يكونُ فيه شعرٌ. ويعزّز هذا الادعاء أن جلّ ما كُتِبَ تحت يافطة "قصيدة النثر" في الشّعر العربي، خاصة في البدايات الأولى، مجرد هلوسات تحتمي بفوضويتها وثوريتها فيما هي خالية، تماماً، من أية نفحة شعرية مُتذرعة في ذلك بكونها سورياليّة، أو عبثيّة، أو دادائيّة تختار الكتابة الآليّة وسيلة.
في الباب الثّاني من الكتاب يعالجُ النّاقد التّقاطعاتِ والهويّة الأجناسيّة للشّعر والنّثر، وذلك من خلال فصلين رئيسين. الفصلُ الأول وُسِمَ بعنوان: الشّعر النثر: مكرُ الشّكل-وفاءُ الإيقاع، وفيه يضطلع "محمّد الصّالحي" بالبحث عن العلائق التي تجمعُ بين الشّعر والنثر، وعن الهويّة الأجناسيّة لكلّ منهما. وهكذا استهلّ عمليّة البحث باستثارةِ مجموعة من الأسئلة اللاذعةِ، من قبيل: كيفَ يمكنُ أنْ يصبحَ الشّعرُ نثراً؟ وكيف يمكنُ أنْ يصبح النثرُ شعراً؟ هل المسألة الأجناسيّة مجرد اختيار؟ أليس للجنس الأدبيِّ إكراهاتٌ؟ ما مسوغات تسميّة النّص الواحدِ "نثراً شعرياً" أو شعراً منثوراً؟ كيف يمكنُ أن يكونَ النصّ شعراً ونثراً في آن؟ هل تغيّر الشّاعر؟ هل تغيّر النّص؟ هل تغيّر القارئ؟ هل غدا القارئ العربي قارئاً ذكياً بعد أن كان مستمعاً مأخوذاً بإيقاع الصوتِ ورنينِ القوافي من غير إدراكٍ منهُ لدلالة الخطاب؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، ينطلق النّاقد من ملاحظةٍ مُؤداها: إنّ الشّعر والنثر، بما يحضنانه من أنواع، هما قُطبا الأدب الرئيسان. إضافة إلى هذا، فإنّ ما يصيرُ شعراً أو نثراً في زمنٍ ما، إنما صار كذلك بحكم التواضع والاتفاق لا بسبب خاصياتٍ بنيويّة واضحة يتمّ الاحتكام إليها. وبهذا المعنى، وَجَبَ تغيير النّظر إلى طريقة التمييز بين هذين القطبين الأدبيين، لا الاحتكامُ في تحديد العلائق بينهما إلى عناصرَ شكليّة خارجيّة تختزلُ النّص الأدبي في عُنصرٍ محدّدٍ، أو الركون في التمييز إلى وضع حدودٍ ملفقةٍ ومصطنعةٍ بين الظواهر.
في ضوءِ ما سبق، رفض الناقد المقارباتِ التي قرنت الشعر بالموسيقى؛ وركنت إلى التبرير لا التّحليل. فهذه المقاربات ترى أن الشّعر والموسيقى كانا شيئاً واحداً في طفولة البشريّة، ثم شيئاً فشيئاً تخلّى هذا عن تلك استجابةً لشروطِ الرُقيِّ الإنسانيّ. وهكذا، احتفظت الموسيقى ببعض السّمات الشعريّة، أي الكلام، واحتفظ الشّعر ببعض سمات الموسيقى، أي الوزن والقافيّة. والحاصل فإنّ المقارنة بين الشّعر والموسيقى تنطوي على نظرةٍ تبسيطيّة مخلّة؛ ذلك أن الوزن والقافيّة، كما يرى النّاقد دائماً، ليسا حليتين ألصقتا بالشّعر في فترة حضاريّة ما، إنهما لازمان لكّل نصٍّ شعريّ، في كلّ زمان، بيْد أنهما يأخذانِ ملامح النص الذي يتخلق ويأخذ صبغته مرّة واحدةً فيكون إمّا نثراً وإمّا شعراً من غير إضافةٍ ولا حذفٍ. ومن هُنا، تستمدّ قصيدة النثر نُسغها من استراتيجية إيقاعيّة تقلص من مساحة التوازي الصوتي لصالح التوازي الدّلالي، دون أن يعني ذلك تقلّص أهميّة دراسة الجانب الصوتي في هذه القصيدة، ما دام المعنى هو المحدّد للصوت.
ارتباطاً بهذا المسار التّحليلي، يرفض الناقد اعتبار الشّعر نقيض النثر، واعتبار النثر قرين الكلامِ العادي، لأن هذا التقسيمَ يأخذُ فيه الشعر معناهُ من شكله الخارجي أكثر من دلالته وإيقاعه، فتضيع الحدود بين ما هو شعري وما هو غير شعري. كلّ هذا يكرّس الاعتقاد الزائفَ بأنّ الشّعر هو الشّعر، حدٌّ معروفٌ بذاته. أمّا النثر فهو ما ليس شعراً، حدٌّ معروفٌ بغيرهِ. ولتحديد النثر يتم النّظر إليه قياساً إلى معايير الشّعر، مما يَثْلُبُ النثر إيقاعهُ الخاص، ويطوّح به إلى أحيازٍ مُعتمةٍ. ويسوق الناقد، في هذا السّياق، جدولاً يوضح أوجه الاختلاف والائتلاف بين الشعر والنثر، ذّيله بملاحظة نقدّية تكشف الأحكامَ التحليلية التي أنتجها الخطابُ النقديّ في هذا الصّدد.
الثنائيات |
النثر |
الشعر |
اللغة |
مفهومية، عقلية، ذهنية، تصورية. |
وجدانية، عاطفية، انفعالية، تأثيرية. |
المعجم |
عناصرهُ ثابتةٌ. |
عناصره متحركة. |
الدلالة |
مطابقة، وضعيّة. |
إيحائيّة، مجازية. |
المدلول |
صمتٌ، سكون. |
غناء، نشيد. |
الكلمات |
محايدة، مشلولة القدرة، باردة، ميتة، مسطحة، عديمة اللون، خامدة. |
فاعلة مؤثرة، متحركة، حية ممتلئة، ملونة، مشتعلة |
القراءة المتكررة |
غير ضرورية، مجرد حشو، تحصيل حاصل. |
ضرورية، معين لا ينضب من الدلالات. |
الاستماع |
لا يحدث شيئا. |
يحدث ذبذبة داخلية. |
العالم |
مفتعل، مصطنع، مضاد للإنسان. |
حقيقي بريء، إنساني. |
التجربة |
معرفة تدمجها الذاكرة ضمن معارفها السابقة. |
جزء من المعيش، معاناة، مكابدة. |
الحياة |
مكرٌ، تمدنٌ، تعاسة. |
سذاجة، طفولة محتفظة بها، سعادة. |
يلحظُ النّاقدُ أنّ الأحكام التحليلية النصيّة الواردة في الجدول أعلاه، قد تصدق على بعض الشّعر وبعض النّثر، لكنها ليست قمينةً بتحديد الجنسين دائماً. ومردّ ذلك، فساد مقدماتها، والتي اعتبرت النثر أصلاً وضيعاً لجنس أرقى يخرج من صلبه هو الشعر.
وفي هذا السّياق، ومن بابِ المقارنة المنهجيّة، يؤوب النّاقد إلى التراث العربي القديم ليورد تعريفاتٍ متعدّدة للشعر. تأتلف هذه التعريفات في وصمها للشّعر بالإيقاع، وما عداه بلا إيقاع. الفصل هُنا خارجيّ لا يلامس المكونات العميقة لشعريّة النَّص ملامسةً شفيفةً. ويستشفُّ النّاقد من خلال تمحيصه لهذه التعريفات؛ أنّ الشعرية العربية الحديثة، قد ورثت من الشعرية القديمة خلطاً فيما يخصّ المسألة الأجناسية؛ ذلك أنّ مقارنة النثر بالشعر، هكذا إطلاقا، لا تفضي لنتيجة، لأن المعنى؛ نفس المعنى، يتجلى هنا شعرا، ويتجلى هناك نثرا. بعبارة أخرى، إنّ تجليات المعنى في النص الشّعري يتحكّم فيها إيقاعُ الشّعر. أمّا تجليات المعنى في النّص النثري يتحّكم فيها إيقاع النثر.
أمّا الفصّل الثاني، الموسوم بعنوانِ هويّة النّص، فقد قسّمه النّاقد إلى محورين رئيسينِ هُما: أولاً، تشاكل النّص الشّعري. وثانياً، الإيقاعُ مهيمنةً.
- تشاكلُ النّص الشعري
يشيرُ النّاقد، في مستهلّ هذا المحور، أنّ تغيّر الأشكالِ الشعريّةِ لا تُمليهِ تغيّراتُ المضمون الشعريّ، كما وقر الاعتقادُ لدى كثيرٍ من النّقاد، بل إنّ الأمرَ يرتبطُ بتغيُّر استراتيجيّة الإيقاع على حدّ تعبير "موريس إيخنباوم". تتغيّر الأشكال ويظلّ الإيقاع مخترقاً لجنس الشّعر والشّاهد الأزليَ على هويّته. وبهذا الاعتبار، فإن تغيّر الأشكالِ يرتهن بالتحولات التي تحيق النّسق؛ أو ما يسميه "شْلُوفْسكِي" نسق الأفراد، فرؤيتنا للأشياء تتغيّر على نحوٍ دائمٍ، مما يجعلُ الشّكل مُشرعاً على كلّ احتمالاتِ التحوّل والتبدُّل.
تبعاً لهذه المُعطياتِ، يكشف النّاقد تهافت آراء بعض النّاقد العرب المحدثين، الذين اعتبروا أنّ الارتجاج العنيف الذي تعرضت له القصيدة العموديّة، وتخليّها عن المواضعاتِ العروضيّة، قد أتاح للقصيدة الحديثة التمدّد والتوسع لتطال الدراميَّ والسرديَّ وغيرهما من العناصر. هذه الآراء يعرّش في طواياها حكم قيمةٍ يرى كلّ الشّعر الحديث أكثر شعريّةً من كلّ الشّعر القديمِ، ويسقطُ في وهم التّشكيل الشّعري.
ويرفض محمّد الصالحي، وهذه هي الفكرة الأساس لهذا المحور، النّظرة التجزيئية التي تختزلُ النّص الشعريّ في عنصرٍ دونَ آخر. والواقع، أن هذه النّظرة لا تنفك تتنامى في النّقد العربي القديم والحديث. ففي النّقد القديمِ، نُظر إلى قصائدِ أبي تمامٍ نظرة استهجانٍ بحكم تركيزه على البديع. والغريب أنّ هذا النّقد لم ير في كلّ التغيراتِ التي اعترت قصائد أبي تمام إلا بروز البديع. ونُظر، أيضا، إلى سيادة البحور القصيرة في الشعر العبّاسي دون الالتفاف إلى باقي الجوانب الفنيّة، أو حتى قراءة هذه السّيادة في ضوءِ سيّاقها الثّقافي والفني.
أما في النّقد الحديث، فقد قُرِئ الشعر الحديث، الذي لم يترسّخ كطريقة، في ضوء القديم الذي أشبع نقداً ودراسةً وحفظاً وتمثلاً. هذه النّظرة التبسيطيّة الكميّة، تتبدى جليًّا في قول "حاتم الصكر"، وهو ناقدٌ حداثيٌّ معاصرٌ، إنّ انتقال القصيدة العربية، في العصر الحديث، من شعرِ الشّطرين إلى قصيدة التّفعيلة، إلى قصيدة النثر، معناه الانتقال من التقليد إلى التّجديد إلى التحديث. مثل هذه النّظرة التبسيطية، حسب النّاقد، لا يمكنُ أن تكونَ منطلقاً صلداً لبناءِ خطابٍ علمي لقصيدة النثر العربيّة. الأحرى، يجب الاهتمام بتحليل النّصوص تحليلاً علمياً شعرياً للوقوفِ عند كيفيّة اشتغالها، ثم ربط التغيرات أو ما قد يبدو كذلك، بحتمية تغيّر الاستراتيجية الإيقاعية بين مرحلةٍ وأخرى وَفْقاً لتغيرات أُخرى أعمق: لغويًّا، حضاريًّا، رؤيويًّا...
- الإيقاع مهيمنة
لتحديد ماهيّة المهيّمنة يعودُ النّاقد إلى تعريف "رومان ياكبسون"، الذي يرى في المهيّمنة البؤرة التي تتدفق نحو مركزها كلّ مكونات النّص، صغيرها وكبيرها، صوتياً ودلالياً وهي بذلك-بناءً على مركزيّتها وجاذبيّتها-تملك قوة التأثير في المكونات الأخرى وتغييرها، وتضمن تشاكلها. إنّ المهيمنة، من هذه الزاوية، قوة جاذبة تنتظم حولها كلّ العناصر ضمن مدار استقطابيّ. وبهذا المعنى، يرى النّاقد أن الإيقاعَ قوةٌ مغناطيسيّة للشعر. إنه مدوزن خطى النّص ومانحه هويته وهو المهيمنة الوحيدة.
يسعفُ الإيقاعُ في تَحليلِ النّص الشّعري تحليلاً علميًّا يقاربُ مكوناته الخفيّة، ويحدّد الرابط الدّقيق بين هذه المكونات التي كانت متنافرة قبل ولوجها عالم النص، ويمنحها "الإيقاع" تشاكلاً وانسجاماً. وهذه صيغة أخرى للقول، إنّ الإيقاع هو ناظم أنساق اللغة التعبيرية وغير التعبيريّة، أي أنساق النّص كاملاً.
تساوقاً وهذهِ المُلاحظات، فإنّ إدراكَ الكونِ الشّعري بحسبانه شعراً، لا بحسبانه إحالةً، لن يتأتى خارج تشاكل النص ودوريّته ودلالته؛ أي إيقاعه. فالإيقاع هو الذي جعل هذا الكونَ كونا مستقلاً، وجعل من اشتباك التركيب والدّلالة والشّكل الخارجي والدّاخلي قوام الشّعري. هَكَذَا، يمكن القول إنّ الإيقاع يعيدُ ترتيبَ العلائق بين الصوتِ والمعنى، وبالتالي بين النّص ومَرْجِعه.
يشبه، إذاً، مفهوم الإيقاع مفهوماً آخر ابتدعه "روما ياكبسون"، وهو مفهوم "الوظيفة الشّعريّة"، بموجَبِ هذه الوظيفة يتأسس النّص الشعري ويبني فرادتهُ ويتميزّ عن باقي النّصوص. وهذا القول لا يعني، بتاتاً، أن النصّ النثري عارٍ من الإيقاع، إنّ له إيقاعاً خاصاً به. لكن لا ينبغي أن ننزلق نحو البحث عن خصائص الشّعر بالّنظر إلى شيء آخر غير الشّعر، أي تحديد الشّعر من خلل ما يختلف فيه عن النثر، فمن أجل تحديد الشعر لا نكتفي بتحديد ما يختلف فيه عن غيره، لأنّ الشّعر والنثر يمتلكان خصائصَ كثيرةً مشتركةً لكونهما قُطبي العملية الإبداعية. والتسميّة التركيبية ل"قصيدة النثر" تستدعي استيعابها ضمن المتاح الثقافي والفني الذي أُفرزت ضمنه.
في الباب الثّالثِ الموسومِ بقصيدة النثر...بحثاً عن شَكلٍ، اضطلع النّاقد بالبحث عن الشّكلِ الذي يُمكن أنْ تتحدّد عليه قصيدةُ النّثر. فكيفَ يمكنُ تحديدُ شكلِ قصيدةٍ مُشرعةٍ على التشكّل الدائمِ، أو بالأحرى قصيدة تتخذ من اللاشكل آية وجُودها؟ للإجابة عن هذا السّؤال الأسّ يبحث النّاقدُ عموديّا في تاريخِ النّقد العربيّ والغربيّ، وأُفقيا في بنيّة هذه القصيدة وإيقاعها. ومن ثمّة، يقترحُ أربعةَ مبادئ كُبرى تُسْعِفُنَا في تلمُّس شَكْلٍ لهذه القَصِيدة الهاربةِ، نَسُوق هذه المبادئ، تباعاً، فيما يلي:
- الإيقاعُ-القوّة البادِئة
يرى النّاقد-بعد عرضه كوكبةً من الرؤى النٌّقديّة المستمدّة من التراث العربي، وهي رؤى جعلت بين الشّعر والنثر شرخاً لا يُرأب، وبذلك فإن أمرّ امتلاكهما بحذق معاً أمرٌ مستحيلُ المُرام، أو أقرّت، بعض هذه الرؤى، بضربٍ من المصادرةِ التقريريّة، استحالةَ ائتلاف الجنسين في نسقٍ عامٍ يبني كينونته استناداً إلى قوانين خاصّة-أنّ الدّلالة الشّعريّة تَنْبَهِقُ من النّص بِعَدٍّه كُلًّا منسجماً. إن القصيدة تتخلّق عالما متشابكاً تُشَكِّلُ لُحْمَتَهُ العَنَاصرُ الصّوتيّة واللفظيّة والتركيبيّة والوزنيّة بطريقة آنيّة، غير قابلة للانفراط أو العزل، لأنها تصدر عن الشّاعر كاملة البناء، متشابكة العناصر وذات معنى؛ وعلى القارئ استقبال النّص كعالمٍ مُنسجمٍ متشاكلٍ كما صَدَرَ عن مُبْدِعِهِ. وبعبارة أُخرى، يستحيل الحديث في النّص الشعري عن زوائد نثريّة، كما يستحيل الحديث عن نصٍ مزيجٍ من النثر والشّعر معاً؛ فالقصيدة بناءٌ كليٌّ منسجمٌ.
وفي هذا السّياق، يتحدث النّاقد عن مفهوم "القوّة البَادِئة" باعتباره عقدة إيقاعيّة جوانية تنسجها الروحُ، فتمنح النّص هويّتهُ الأجناسيّة، فيأتي إمّا شعرا أو نثراً، فكلّ كاتب ينطلق من تصوّر قبليّ بدئيّ لما يروم كتابة. إنّ القوة البادئة ترتبط بقصدٍ سابقٍ على التجلي النّصي يحكم الهيئة التي سيتخذها النصُّ مآلاً له. وبمعنى آخر، فإنّ عملية ولادة النّص بخصائصه الأجناسيّة عمليّة مفكّرٌ فيها وفق نسق شاملٍ يتعانق فيه الشّعري بالنثريّ حدّ التماهي.
- وضعيّة المقامة
ينتقدُ محمّد "الصّالحي" اعتبار "عبد الفتّاح كَلِيطُو" المقامة إطاراً للنثر وللشعر معاً؛ فالمقامة، حسب "كليطو"، تتسع لتشكيلة الأنواع الأدبيّة، فقد ضمّت إلى جانب الأغراض الشعريّة التقليديّة أنواعاً مستحدثةً كاللّغز والمأدبة والمناظرة والموازنة. وهذا تحدِيدٌ قاصرٌ وتبسيطيّ؛ لأنه ينظرُ إلى المقامة كخليطٍ من الأغراضِ والأساليب لا كجنسٍ يستغل كل تلك الأغراض والأساليب لتشييد كينونته الأجناسيّة شأن كلّ جنسٍ أدبيّ. إن بنية النّص الأدبي(المقامة) يجب البحث عنها في مكان آخر غير الوجه الظّاهر للنص، ذلك أن الدّلالة تبقى أقوى من هجانة قد تبدو كذلك. فالشّعر في المقامة لم يستطع إخفاء النثر، ولا استطاع النثر إخفاء الشّعر، لكن المقامة، في نهاية الأمر، ليست نثراً ولا شعراً، بل إنها المقامة. وبالتّالي، فإن لها بنيتها وإيقاعها ومنهما تستمدّ نُسغها، جوهرها، كينونتها الخالصة. قياساً على هذه الملاحظة النّقدية الثّاقبة، يمكن القول إن الشّعر يغيّر، في منعطفات تاريخيّة معينة استراتيجيته الإيقاعيّة فيبدو فاقداً لخاصياته الإيقاعيّة مستسلماً للنثر، وهذا يسري على قصيدة النثر؛ إنّها شكلٌ جديدٌ بمقوماتٍ إيقاعيّة لم يألفها الذوق العامّ.
- غوايةُ الصّوت
ينطلق النّاقدُ، في هذا المحور، من سؤالٍ وجيهٍ، يمكن صياغته كالآتي: ما الذي على شاعرِ قصيدة النّثر الخضُوع له وهو ينشئ قصيدَتهُ؟
لا يرتبطُ إيقاعُ قصيدة النثر بالوزن والقافيّة كما درجَ توظيفهما. فالقانون الإيقاعي، هُنا، خارجيٌّ ينظرُ إلى الحاصل من خلال ما تحصّل. إنّ المكونات الصوتية والدّلاليّة في قصيدة النثر تحيلُ على نفسها أكثر ما تحيلُ على خارجٍ مّا. فتغدو بذلك الوشيجة بين الصوتِ والدّلالة أكثر ظهوراً وخصوصيّة.
- شعريّة النّص... الحصّة الغائبة
يوردُ النّاقد، في بدايةِ هذا المحور، رأياً ل"هنري ميشونيك"، يرى فيه أن مقاربة النّص الشعريّ مقاربة لسانيّة؛ أمرٌ لا يُفضي إلى القبض على شعريّة هذا النّص؛ فاللسانياتُ التي تنطلق من المعيارِ تعتبر كلّ زحزحةٍ، ولو بسيطة، لهذا المعيار ملمحاً شعرياً، وهذا قولٌ يجانبُ الصّواب. ولعلّ هذا ما حدا برومان ياكبسون إلى الاعترافِ بقصور اللسانيات عن رصد الملامح الشّعرية مثيراً ضرورة الاهتداء بالسميولوجيا. وحدا، أيضاً، بجون كوهن إلا الاعترافِ بكون الانزياح ملمحاً مشتركاً بين الشّعر والنّثر. وهنا يتساءل النّاقد: ما الذي يظلّ عالقا بالنّص ويمنحه صفته الشعريّة رغم تخليه عن كثير من مقومات الشّعر المتعارف عليها والتي شكّلت معيارا لزمن طويلٍ؟
يجيب النّاقد عن هذا السّؤال بقوله إن النظر إلى الشعر باعتباره لغة راقيّة نَظَرٌ لا يُفضي إلى نتائج ملموسة؛ إذ النص الشعري دلالةٌ مستقلةٌ ومكتفيةٌ بذاتها ويجبُ النّظرُ إليها باعتبارها كذلك، لا باعتبارها انزياحاً عن معيار تم تحديده من زاوية اختلافيّة، ليسهل المأموريّة على كلّ من يدنو من النص الشعري، مُسائلاً نظامهُ ونسيجهُ ولعبتهُ الدّلالية. وبهذا المعنى، فإن رهان النّص الشعري أن يكونَ شعراً بدلالته وإيقاعِه لا بوزنه وبعروضه، فغايةُ الشّعر، كما حدّد ذلك ميشونيك، هو أنْ يكونَ قوياً بإيقاعه.
- على سَبيلِ الختمِ
يَضعنا كتابُ "شيخوخة الخليل" أمامِ رهانٍ إبستمولوجي داغلٍ في التشعّب والعمق؛ رهانٌ أفضى بالنّاقد، بعد رحلةٍ تقصٍ وبحثٍ، إلى تأكيد ضرورةِ فحصِ قصيدة النّثر في ضوء تجليّاتها الإيقاعيّة التي هي الكَفيلة، وحدها، بإيجادِ شكلٍ جديدٍ، وبالتّالي الحد من الهجنة الإيقاعيّة السّائدة، والتي ترى في كلّ كتابةٍ تخالف السّابق من الشّعر (قصيدة تقليدية وشعر تفعيلي) شكلاً وتيمةً، قصيدةً نثريّة. وتتبدى القوّة التّحليلية للكتابِ، أيضا، في قدرته على الانتقال، عبر مدماكٍ مركّب، بين الشّعريّة القديمة والحديثة وبين التنظير الغربيّ لقصيدة النثر. هذا الانتقال، المسكونُ بهاجس الفحصِ والمساءلة، جعل النّاقد يصل إلى نتيجة فحواها: إنّ قصيدة النثر العربيّة، بما تحبلُ به من خصائص إيقاعية وشعريّة، تستدعى مقاربتها في ضوء ما لهذه القصيدة من مداميك إيقاعيّة مع تغيّرات تفرضها الاستراتيجية التي ينهض عليها إيقاع الشّعر العربي بين مرحلةٍ تاريخيّةٍ وأخرى. وبهذا المعنى، نكون أمامَ كتابٍ مُنطلقه السّؤال الحقيقي، ومنتهاه السؤال الحقيقي، فقوته ليست في المراكمة وإنّما في المساءلة والنّبش واستثارة الكامن.
*- محمّد الصّالحي: شيخوخة الخليل؛ بحثاً عن شكل لقصيدة النثر العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرّباط، ط1، 2003.
[1]- نفس المرجع، ص16.
[2]- نفس المرجع، ص19.
[3]- نفس المرجع، ص21.