صدرت رواية "همس الأقدار" لعبد العزيز بلفقير عن دارسلمى الثقافية للنشر سنة 2016، يقتحم فيها الكاتب هذه المرة مغامرة الكتابة الروائية، على غرار تجربته القصصية الأولى "الأرض البعيدة"، وفي هذا النص نكتشف نزوحا نحو المحلي وتأسيسا للتعالق النصي.
ينهض المروي أساسا على سيرة عيسى مثالا للشخصية النمطية في أصقاع الجنوب الشرقي بالمغرب. شخصية عيسى المنحدرة من أقاصي الجنوب الشرقي والمنشغلة بتفاصيل معيشها اليومي بالدار البيضاء تختار الزواج في مدشرها من فاطمة، زواجا دام عقدا من الزمن، غير أن صدفة القدر لم تأتيه بالذرية منها. وظل محكوما بإكليشيهات الثقافة المحلية التي تربط الفحولة بالإخصاب.
وبعد يأس وانتظار أعياه يقرر الزواج من جديد في الدار البيضاء من حليمة التي شاركته ورش العمل. وتسير خطية السرد بقاعدة التحول. فبرهة زواجه من حليمة وترتيبه إجراءات الطلاق من فاطمة أتاه خبر حملها باليقين. فما كان لعيسى إلا أن يسلم نفسه لمشيئة الأقدار.
يتقلب السرد وفق ميثاق الصدفة أيضا. فالصدفة التي أتته مولودا ذكرا لم يكن ينتظره من أحشاء فاطمة هي ذاتها التي تأتيه بمولودة من حليمة. وللصدفة في النص سطوتها التي تمتد إلى حد لقاء أبنائه في خطة سردية نسجت بإحكام. إذ لم يكونوا على دراية أنهم أشقاء إلا بعد أن أنشبت الحاجة قصة حب بينهما في الدار البيضاء.
هكذا يأخذ السرد بال القارئ إلى النهايات الدرامية. نهاية التشظي والعبور التراجيدي، التي وضع لها منطق الكتابة حدا لحياة فاطمة ويحيى ومريم، فاطمة التي ماتت متأثرة من هول الصدمة بعد انكشاف الحقيقة، ويحيى ومريم في نهاية انتحارية بعدما صعب ابتلاع الواقع والتسليم به.
الهوية السردية.
تتشكل الهوية السردية في نص همس الأقدار من خلال تقاطعات الحبكات، ولتمثل تفاصيل المحكيات، نورد الهوية السردية للشخصيات في الآتي:
محكي عيسى: تشكل شخصية عيسى محور الترافع السردي في النص. وتأخذ موقعها مثالا للإنسان المتأصل في نوازع الثقافة المحلية. الآخذ في مواجهة ظروف الأقاصي منشغلا بتوفير لقمة العيش. كما تشكل الشخصية هذه نموذجا للذات المترددة التي يفعل بها الشك فعلها. ويموضعها في المنطقة الحدودية ما بين نوازعها الإلهية ونوازعها الشيطانية.
يختار عيسى بعد تفكير عميق أن يتخلى عن زوجته فاطمة ويقبر كلاسيكية المدشر ملاحقا حداثة الدار البيضاء عبر الجمال الأخاذ لحليمة، وتبدو الأفعال السردية للشخصية منشطرة بين فعلين ثقافينَ. فعل أصيل محلي وهو جزء من ذاتيته وذاكرته. وفعل انفتاحي متطلع وهو جزء من مغامرة الأقاصي في مدينة كالدار البيضاء، ويصور النص لهذه الصور الثقافية. آخذا ذائقة القارئ في همس سردي إلى انتصار المحلي على الدخيل. ذلك أن المدشر وهبه مولودا ذكرا في الأخير يضمن استمرار السلالة والشكل الثقافي. وفي المقابل لم تمنحه انعطافات الدار البيضاء سوى حادثة أليمة وصدفة قاتمة ومولودة أنثى. فيما يفيد أن المغايرة الثقافية شكل من أشكال المجازفة المجهولة.
محكي فاطمة: تموضع السردية هذه الشخصية مثالا للمرأة القروية الصبورة التي تستنفذ كل الممكنات لإرضاء زوجها. وفي الآن نفسه فهي الآمنة بالقدرية والقدرة الإلهية. وقد بدت في مضايق الحكاية نموذجا للقادرة على مواجهة دقائق الحياة وتخطي صعوباتها. بيد أن عيسى سرعان ما يتخلى عنها غير آبه بما تتحمله صبرا. وقادها بالتالي إلى مرحلة عولت فيها على أنثويتها واستطاعت أن تربى ولدها وتعلمه إلى إن مرت به إلى بر الأمان. تحمل فاطمة في ذاتيتها السردية هموم المرأة القروية وسذاجتها وتحملها المتواصل. وبالتالي فهي تشفير لواقع بالقوة والفعل يجتاح الوعي النسوي في أقاصي المداشر.
محكي حليمة: الفاتنة في جمالها الأخاذ. هي مثال للمرأة الحضارية والعصامية التي تأخذها موقعها ضمن المواقع الذكورية. فقد عملت إلى جانب عيسى في ورش العمل. أبانها السرد مثالا للباحثة عن احتماء والتي تخلو سيكولوجيتها من الشر وإلحاق الأذى. فكان أن قبلت الزواج بعيسى وساندته ودعمته في نشوء أسرة ستلعب الصدفة بمآلها، وعلى إثر ولادتها لمريم أصبحت عقيمة غير قادرة على الإنجاب. ولم تكتمل فرحتها لأن في نيتها إتيان عيسى بمولود ذكر، غير أن للمشيئة الإلهية وللقدرية سلطتها، وكما أحسنت فاطمة تربية ونشوء ابنها يحيى حتى أصبح محاميا معروفا بالدار البيضاء وكبرت شوكته، فإن حليمة بالمثل أحسنت تربية ابنتها مريم حتى أصبحت مدرسة للغة العربية وداعمة لأسرتها.
هكذا تكون سردية فاطمة محكومة بمبدأ الألم، وتكون سردية حليمة مرهونة بمبدأ اللذة واجتناب الألم. غير أن ما أخفته مجازفة زواجها كان حافلا بالألم والسقوط. فبعد زواجها من عيسى، ووضعها لمريم، تحدث لعيسى حادثة شغل على إثرها توقف عن العمل وإبان استرجاعه عافيته وجد نفسه مطرودا ولم يتسلم إلا تعويضا هزيلا بعد توقيعه على أوراق لم يعلم بفحواها، كتب فيها رب العمل أن عيسى قد اقتنع بالتعويض ولن يطالب مالك الورش بتقاعده النسبي ولا بتأمينه. وفي هذا المحكي حوار نقدي مع قضايا الاستغلال والشطط التي تستفحل المجتمعات كأخطبوط أخذ يتداعى سالبا للإنسان حقه وأدنى شروط عيشه الكريم.
محكي يحيى: محكي يحيى جدلي، تتجاذبه الجدة والتيه، فقد كائنا تائها يبحث في قصة أبيه، إلا أنه ينصرف عن تيهه منشغلا بدراسته وشغفه المعرفي، فشق طريقه نحو الارتقاء متأرجحا بين رغبته الأكيدة في إيجاد نفسه، ورغبته الأكيدة في تحقيق وجوده المستقبلي، يتخرج يحيى محاميا اشتدت قوته وبزغ فجره، وبميثاق الصدفة من جديد يتسلم ملف حادثة عيسى وما ترتب عنها، هكذا تنسج الحكاية وقائعها بالتحولات، فقد كانت مريم عازمة على أن تأخذ حق أبيها من رب العمل، فكان أن وجدت يحيى محاميا جديرا في قضايا الشغل، وهو السياق الذي سيعزز روابط العلاقة بينهما في تشبيك حكائي يقودهما إلى نهاية درامية.
تجسد شخصية يحيى لنموذج الشاب المنحدر من الجنوب الشرقي الجاد في دراسته، والذي تجرع صعوبة التعلم رفقة صديقه يوسف، وغاص في دروب المعرفة إلى وجد لنفسه حياة مليئة بالنجاح، ولمتغيرات الحكاية فلسفة أخرى، عبرها تخلق قصة حب بينه وبين مريم التي سرعان ما يكتشف أنها أخته، وحينما لم يستسغ الأمر، أودى بحياته في متاهة الانتحار. ولماذا انتحار المثقف؟ إن للحكاية يدا طويلة حينما تنهي حياة مثقفين منتحرين، فيما يفيد أن للسردية رؤية مختلفة للمعرفة والثقافة في ظل مجتمع متفسخ وغير متماسك. رؤية لها نهاية درامية وانتحارية.
محكي مريم: ثمرة حب عقد عليها أمل، فتاة جميلة تلاعبت بها الصدفة، فبعد أن حققت مبتغاها وأصبحت سند الأسرة، تقودها الصدفة إلى مكتب المحامي يحيى لترفع قضية أبيها إلى القضاء، وقد تطورت علاقتها بيحيى إلى أن اشتعل فؤادها حبا، وفي الأخير وبعد قدوم يحيى رفقة أمه لخطبتها، تكتشف أنه أخوها. ولما لم تكن لها قابلية لتصديق الأمر وحين علمها بانتحار يحيى بعد سقوط مدوي من أعلى جسر، وبكل تلقائية تسقط هي الأخرى من ذات الجسر إيذانا بهروب مماثل نحو عالم الأرواح.
محكي سامية كريم: المحامية المرموقة والتي على يدها أخذ يحيى مفاتيح المهنة وتسلق الدرجات، تشكل في أفعالها السردية مثالا للإنسانة المعطاءة التي تتقاسم التجربة في جو من الاحترام والتقدير، هي التي ساعدت يحيى بعد تدريبه على بناء القاعدة وأمدته بآليات العمل. وهي فضلا عن ذلك ليست عدوة النجاح، ولم تقف في طريق الارتقاء الذي أخذ فيه متدربها. وهي في طيات النص نموذج للصفاء والهدنة، ومثال حي عن دماثة الخلق والمهنية.
محكي رشيدة: تمثل هذه الشخصية علامة عن البديل، البديل الذي يتبناه عالم القرية والمخالف لبدائل عالم المدينة، وتوضح هذه السردية واقع العالم القروي وحاجته إلى أبسط ظروف الاعتناء. رشيدة هي قابلة المدشر وهي العارفة بشؤون الكون النسوي، امرأة طاعنة في السن متشبعة بثقافة التجرية، وهي التي أدركت علة فاطمة وأنبأتها بخبر حملها، وقد أبدت عطفها وقدمت خدمتها حتى وضعت مولودها، وتشكل هذه الشخصية ذلك الجانب المنير من الاتحاد والانخراط في أكوان المداشر الصغيرة.
محكي سعاد: جارة فاطمة في المدشر وهي أيضا مثال للمرأة القروية المعروفة برقتها وحنانها، والقادرة على احتواء الآخرين والرحمة بهم، فقد أمدت يد العون كما كتمت سر طلاق فاطمة، بل أدخلت عليها البهجة والسرور، ووقفت إلى جنبها في عز وحدانيتها، إلى أن رزقت بمولود يؤنسها.
تتشكل الهوية السردية في النص من خلال اشتباكات وتقاطعات هذه المحكيات، وإن كان المتن الحكائي غير متوغل في التجريب وواضح المعالم، فإن الرواية ها هنا لا تكف عن دغدغة الخطاب، فحجم الرسائل التي خطتها أنامل مبدع ينتمي إلى الجنوب الشرقي، كلها تدق السياسة وتفتح حوار مع الثقافة وتنتقد الواقع كما تتطلع إلى مستقبل واعد، ومن القضايا التي أسست لها الحكاية نورد مثالا: الطلاق ومدونة الأسرة، الصحة القروية، الاستغلال والشطط، الاختلاف الثقافي...
- استراتيجية التعالق النصي.
تنهض الذاكرة النصية في هذه السردية على تعالقات نصية تمتح مرجعيتها من النص القرآني والنبوي. فيما يؤكد انفتاح الكاتب على المخزون القرائي القرآني وعلى ذاكرة المحفوظات النبوية، ويستشعر القارئ حيوية الذاكرة وديناميتها في مجرى اللغة والأسلوب منذ افتتاحية الرواية إلى غاية إسدال ستارة السرد.
اشتغال النص القرآني.
يفتح النص السردي هذا حوارا صريحا مع الخطاب القرآني. سواء من حيث استراتيجية انتقاء الدوال الاسمية. أو من حيث التضمينات المباشرة والمنزاحة. ويعمل هذا التناص وفق منطق الاقتباس في البلاغة.
- كريستيفا وقانون الكتابة.
نظريا حينما نعود إلى طروحات الناقدة البلغارية جوليا كريستيقا. يتأكد أن الكتابة ليست وليدة الفراغ. كما أنها ليست وجودا في الصمت. بل تتأسس من خلال ما يعتمل بدواخل الذاكرة. وعبر ما راكمته التجربة القرائية أو تأتي من خلال الاستيعاب الشفهي وإملاءات المرئي.
يقوم بالتالي نص همس الأقدار على الحفرية وعلى ارتجاعات المكتسب الماضوي محدثا رجة أسلوبية بين زمن الكتابة السردية وزمن انفتاح الذهنية على المسيد.
نورد هذا التصور اعتبارا لسياقات خارج نصية. ذلك أن الإبداع فضلا عن كونه وليد لحظة زمنية ونفسية فهو نتاج ارتباطات فضائية وتداعيات ثقافية. وبهذا الصدد يرتبط فضاء الجنوب والجنوب الشرقي في شوط زمني مبكر من نمو الذوات المبدعة بمقامات التحصيل التي يشكل فيها المسيد سلطة ثقافية وحجر الزاوية في التكوين. لذلك يبدو مفيدا ربط هذا الأمر بالملفت للنظر في آليات الكتابة عند عبد العزيز بلفقير.
- ترشيد الكتابة وتهذيبها.
يولي الكاتب بلفقير كبير العناية لخلفيته اللغوية والأسلوبية. لذلك حتى في بعض الاجتراحات على مستوى الحكاية التي تستدعي مقاربة أسلوبية غير محتشمة. نجده يعمل على ترشيد اللغة وتهذيب الأسلوب والحرص على التأسيس لميثاق قرائي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الذات المبدعة ومسافة التوتر والصمت التي تخلقها مع الفاعل المستقبل.
نورد مستويات التعالق النصي في رواية همس الأقدار فيما يلي:
- التعالق النصي والعلامة الاسمية:
حينما ننظر إلى العلامات الاسمية في هذا النص نجدها تمتح من الخطاب القرآني مادة لها (عيسى، مريم، يحيى ...) ومع أننا نسجل اشتغال هوية الشخصيات خارج ارتباطاتها الاسمية في الخطاب القرآني. فتبقى مسألة الاختيارات الاسمية لها علاقة وطيدة بالحمولة الثقافية القرآنية، وباطلاعات جديرة بالقصص القرآني. وهو ما يقع في صميم افتراضنا حضور ذاكرة المسيد في الفعل الكتابي. بما تحركه من رواسب أسلوبية وآثار لغوية عالقة.
- التعالق النصي الصريح والضمني:
يمتاز نص همس الأقدار بالتصريف الماتع دواخل بنيات السرد للنص القرآني، تصريف صريح، يشتغل بمنطق الاقتباس كما هو الحال مع سياقات نصية مختلفة نوجز بعضا منها في الآتي.
بعد العياء الذي تسلل إلى عيسى منتظرا مولودا ذكر، وفي حوار مونولوجي يقول: حتى في الأعياد «أشكو بثي وحزني إلى الله ...» وفي التعالق النصي هنا نستحضر الآية القرآنية 86 في سورة يوسف «قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون».
لقد كان في نية فاطمة أن ترضي زوجها، ولم تكن راضية عن نفسها ما لم تأتيه ذكرا، وفي هذا السياق تقول في الرواية ...آه... «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا..» وللذاكرة هنا ارتباطات نصية بالآية 23 من سورة مريم «فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا».
في محكي يحيى مخاطبا صديقه يوسف نقرأ: «يوسف أيها الصديق...» وينسج النداء هنا تعالقاته في سورة يوسف الآية 46 «يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون».
أما عن بعض تجليات التعالقات الضمنية أو حتى المنزاحة أحيانا، فقد كان حضورها لافتا في النص، لا يقل أهمية عن التعالقات الصريحة.
نقرأ مثالا، لما تماثلت حليمة للشفاء وعادت إلى شقتها سليمة قالت: «الحمد والشكر لله.. سبحان من وهبنا مريم على الكبر.» وتنسج هذه الحمدلة بصيغتها النصية هذه ارتباطات مع الآية القرآنية الواردة في سورة إبراهيم، الآية 39«الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء»
هذه بعض النماذج، من كثير يعج بها النص وتعمل في دواخله، إلى جانب تعالقات أخرى كانت ذا صلة بالتعاطي مع الذاكرة الشفهية والثقافة المحلية.
ختاما يتشكل الفعل الكتابي عند الكاتب عبد العزيز بلفقير عبر آلية التناص، ومن خلالها يؤثت لعالمه النصي ويصوغه وفق رؤاه، ومع أن المرجعية تنجلي وتكشف من خلال مسحة الكتابة، فإن العالم النصي الذي يعول عليه عبد العزيز بلفقير له آفاق رحبة، لا سيما في تقويض الظواهر المجتمعية والسفر عبر الزمن تجاه مناطق الجنوب الشرقي بما تختزنه من حكايا المواجهة، وإيقاعات التحول، وممكنات الفضاء.
محمد ايت احمد.