الكتابة الإبداعية ، في الأساس ، فعل جريء ؛ بتعبيرها عن الذات ، وكشفها عن المواقف والسلوكات ، ومحاورتها للأفكار والقناعات ، ومواجهتها للنواقص والاختلالات . قد تخالف السائد ، وتعارض المعتقد ، رغبة منها في تحريك ما سكن وٱرتكن ، قد تحطم الحواجز ، وتتخطى الموانع ، أملا في إذكاء شعلة التفكير ، وإيقاد جذوة السؤال ، قد تزيغ عن المألوف ، وتشذ عن المتعارف ، تطلعا إلى آفاق واسعة للمعرفة ، وسعيا وراء فتح أبواب جديدة ، يطل منها نور يضيء حياة الناس.
ولعل رواية "أموات يحكموننا" للكاتبة شيماء أبجاو ، بأدواتها الفنية وأساليبها الجمالية ، راهنت على تأكيد هذه المقولة ، وحاولت ترسيخها وتثبيتها من خلال معالجتها لقضية شائكة ، طالما تحرز الكثيرون من التطرق إليها، وترددوا مرارا في خوض غمار الجدال والسجال فيها ، لارتباطها في البنية الثقافية الإسلامية بإطار مرجعي عقائدي يتسم بصفة القداسة ؛ وهي قضية الموروث الديني ، وما يقترن به من مفاهيم وتفسيرات وتأويلات تراكمية تدخلت في تشكيل وعي المسلم ، وأسهمت في تحديد ماهيته وكينونته الوجودية.
تسائل هذه الرواية الموروث الديني مساءلة المتحرر من سلطة الخوف ، الرافض للاستكانة والتغافل وغض الطرف ، متعاملة معه بٱعتباره إنتاجا معرفيا بشريا ، قابلا للأخذ والرد ، مطروحا للغربلة و التنقيح ، خاضعا للمناقشة والنقد ، غير منزه عن المثالب والشوائب ، نازعة عنه عباءة التقديس والتبجيل.
تدفع الرواية قارئها إلى التفكير والتأمل بمجرد الوقوف على عتبة عنوانها : "أموات يحكموننا" ، محاولا تبديد الغموض الذي يحف هوية هؤلاء الأموات ، موضوع الإخبار ، متسائلا عن طبيعتهم ، وعن ما يختص من أمورهم الحسية والمعنوية التي تمكنهم من القدرة على أن يصدر منهم فعل "الحكم" الذي لا يُتصور إنجازه ، ولا يُرجى تحقيقه ممن هم على شاكلتهم ؛ قد فارقوا الحياة ، وٱنقطعت أعمالهم التكليفية التي يُسألون عنها، الأمر الذي يجعل الواقف على هذه العتبة يصوغ عددا من الفرضيات ، ويخمن جملة من الاحتمالات الممكنة، التي تسعى إلى رسم ملامح هؤلاء "الأموات" وتقاسيمهم ، في محاولة لتحديد هويتهم . فيقبل على قراءة العمل عسى أن يجد في عوالمه، وبين شخوصه ، إجابة على ما تساءل عنه ، وإحاطة بما ٱلتبس وٱستشكل عليه.
تحكي الرواية عن شابين متعلمين يتقاسمان نفس الميول والأفكار، ويحذوهما نفس الأمل في الانعتاق من سلطة موروثهما الديني الذي يثقل كاهليهما ، بوصايته وفرض سطوته عليهما ، محملَيْن إياه مسؤولية تعبئة الأذهان والنفوس ضد كل تحديث ، وضد كل التغيرات والتطورات الاجتماعية والفكرية التي باتت اليوم تفرض نفسها على الإنسان المعاصر؛ فطارق الشاب الذي كان يبحث عن الراحة والسكينة والطمأنينة النفسية بين أحضان الكتب ، بعد أن فقد والدته وشقيقه ، وٱعتزل والده الناس ، يجد نفسه ، بتوجيه من أبيه ، غارقا في نوبة تفكير وتأمل عميقة ، وقد راودته أسئلة محيرة لم تجد سبيلا لعقله من قبل ، جعلته يدخل عالم الشك والمظنونات ، بحثا عن الحقيقة ، ورغبة في الوصول إلى إجابات شافية لتساؤلاته المؤرّقة ، مقبلا على قراءة تاريخ الإنسان ، وتاريخ الأديان ، وكتب الفلسفة والعلوم ، فبات " يرى الناس كالمغيبين عن الإدراك ، يراهم ضحايا تم التلاعب بهم منذ الطفولة ، وبقوا عالقين بين قطبي الترهيب والترغيب!"(ص 31)،غير معاتب أو لائم لذاك المتدين المتعصب الذي "سُمّم عقله منذ الطفولة ، وأحيط به من المجتمع والإعلام ! وعندما طرق السؤال الوجودي أبواب عقله ، كان الدين قد بادر بتقديم الإجابات ، بل حتى التشريعات ونهج الحياة !" (ص81).
تتوطد علاقة طارق بسلوى التي تعرف عليها في إحدى المنصات الإلكترونية التي تتيح إمكانية النقاش والمحادثة الصوتية مع أشخاص يتشاركون نفس الاهتمام ، سلوى التي عاشت بجانب والدتها وأختيها تحت سطوة أب قاس ، جبار ، شديد البأس ، لا يتوانى في ٱحتقارهن وإهانتهن ، ولا يجد غضاضة في ما يصدر منه نحوهن من أفعال عنيفة وأقوال جارحة.
يراود سلوى سؤال العدالة، ويُشقيها وضع المرأة التي يعصف بنفسيتها ، وتؤلمها النظرة المنتقصة التي يُنظر بها إليها ، " فقد رموها بنقص العقل والسفاهة ، وأمروها بالسمع والطاعة ! حتى وإن ٱنتُهكت إنسانيتها بالوصاية والضرب(...) "(ص73) ، مقابل الكمال العقلي والنضج العاطفي اللذين يتمتع بهما الرجل !
تبحث سلوى ، مستعينة بالقراءة والاطلاع ومتابعة الحوارات والمناظرات ، عن مسببات تجذر هذه القناعات المزيفة حول المرأة في البيئة الثقافية الاجتماعية الإسلامية ، والتي تواترت عبر الأجيال ، واحتضنتها المناهج التعليمية ، وتبنتها الخطب الدينية ، لتخلص في النهاية إلى نتيجة تحمل فيها المسؤولية عن ذلك لبعض مقولات الموروث الديني الذي خلفه " أموات قد خلت السنين على أجسادهم "(ص74) ، والتي أنتجت تصرفات ورسّخت سلوكات تنزع إلى الإقصاء والتمييز السلبي ، وتجنح إلى نبذ الآخر والانتقاص منه بدعاوى مثل: القوامة والولاية والطاعة والأفضلية.
تعمل سلوى على ٱستنهاض همة والدتها الخانعة المنكسرة ، محاولة إقناعها بضرورة التصدي لقهر وجبروت والدها المتسلط ، محرضة إياها على إعمال عقلها و إمعان النظر في تهافت حجج "المصدر الذي يستقي منه قانونه ودستوره "(ص63) ، إلا أنها تفشل في بلوغ ذلك أمام ٱستسلام الأم ومهيض جناحها وضعفها التام ، لتعقد العزم على مواجهته بنفسها ، بعد أن تسببت قسوته وشدته في دفع أختيها الصغيرتين إلى الإقدام على وضع حد لحياتيهما وهما لازالتا في مقتبل العمر ، معلنة خلاصها و ٱنعاتقها من تسلط هذا الأب الظالم ، وتحررها من هيمنة فكره الذي أورثه إياه حكم الأموات ، لتلوذ بحبيبها طارق كي تنعم صحبته بصفاء الحب وطيب الحياة ، تحت الظلال الوارفة للفكر الحر المتنور.
إن المتفاعل مع هذه الرواية ، يجد أن صاحبتها لم تعمد إلى تأطير أحداثها بفضاء مكاني مرجعي مخصوص ، أو حصرها في زمن تاريخي معين ، بل جعلتها محررة ، مستمرة في الزمان والمكان ،غير مقيدة بقيد زمني قد يعرضها للتقادم أو ينفي راهنيتها بمجرد ٱنقضائه ، غير محددة في حيز مرجعي قد يمنعها من تجاوز حدود الخصوص إلى رحابة العموم ، لأنها تعكس مجابهة وجودية محتدمة ، تبقى مفتوحة أبدا على القراءة والنقد والتحليل ، تمتد على مدى الأيام ، وتحتد في مختلف البيئات الاجتماعية والثقافية التي يُقصى فيها الفكر الحر، وتسيطر عليها العقلية الاستحواذية الصماء ، المشبعة بنزعة التعالي المطلق.
كما أن إطلاق هذا الزمن وتخليصه من فكرة التاريخ الدقيق ، وفتح المكان على كل الآفاق الممكنة ، ساهما في تقوية الإحساس لدى القارئ بالرغبة الجامحة لبطليْ هذه الرواية في التحرر من القيود المصادِرة لإرادتيهما، وتَوقهما إلى الخلاص من أغلال الوصاية والخضوع ، قصد إشاعة قيم جديدة ونشر أفكار تنويرية شاحذة للهمم، مثل ما أشرا على توسيع الدائرة "الجغرافية" لقضية المرأة ، التي ٱحتلت مكانا دالا في هذا العمل ، يجعلها تتجاوز نطاق البيئة الاجتماعية المحلية المحدودة إلى نطاق أوسع وأرحب ، ذا بعد إنساني وكوني ، ينادي ضمائر الجميع للانخراط في صف الدفاع عن هذه القضية العادلة . ولعل خروج والد طارق المثقف من عزلته وظهوره في جنازة فداء وجهينة ، أختَي سلوى ، يحمل دعوة ضمنية لمختلف أطياف المثقفين قصد الخروج من عزلتهم لمعانقة هموم الناس وقضاياهم ، وعلى رأسها قضية المرأة في دفاعها عن آمالها والانتصار لطموحها الوجودي.
وبالوقوف على شخوص هذه الرواية ، في محاولة للكشف عن أفعالها وأحوالها ، وعن ما يعتريها من مشاعر وأحاسيس متضاربة ، لاختلاف التفاعلات والعلاقات التي تجمع في ما بينها ، تستثير المتلقي إيحائية دلالة بعض أسمائها ، حتى ليبدو كأن الكاتبة انتقت بعناية هذه الأسماء التي وسمت بها شخوصها ، كي تسعفها على تمرير جملة من الصور الذهنية المرتبطة بها وبصراعها الفكري الراهن ، وما يمكن أن يسفر عليه هذه الصراع مستقبلا ، باعتبارها شخصيات تمثل نماذج اجتماعية وثقافية تعبر عن مواقف ورؤى متباينة للعالم ؛ فشخصية طارق مافتئت تطرق أبواب السكينة والطمأنينة النفسية ، باحثة عنها تارة في الكتب ، وتارة أخرى في ربط علاقة عاطفية ، سرعان ما انصرمت خيوطها الرفيعة ، ثم ما لبثت تطرق أبواب الحقيقة للتخلص من وطأة الشك ، وضغط القلق والتشويش اللذين كادا أن يعصفا بها ، حتى انتهى بها المطاف إلى بلوغ مرادها ، بردّ ما تشذر من شتات نفسها ، وقد سكنت روحها بالعثور على سلواها في شخصية سلوى ، التي لم تكن في هناء أو في سلوة من العيش ، بسبب احتفار أبيها لها لمجرد أنها أنثى " تستلزم الوصاية في كل أمرها ، والشدة في معاملتها ، حتى لا تزيغ أو تطغى!"(ص38) ، فقد كان لاسمها ـ في ما يخصها ـ دلالات عكسية ، مناقضة لما يمكن أن يحيل عليه من صفات ، ومثلها والدتها سعيدة " التي لم تملك من اسمها إلا وظيفته ، فقد عاشت في بعد كبير عن السعادة "(ص95) ، مقهورة ، ذليلة ، ملزمة بالطاعة والامتثال لزوج طاغ ، يستند في سلوكه إلى " فكر يدغدغ غريزته ،ويعلي من شأنه بدون وجه حق "(ص64) .
بينما يقبل اسم "فداء" ، الأخت الصغرى لسلوى ، إمكانية الربط بينه وبين دلالته اللغوية ، إذ حاولت فداء أن تفتدي نفسها من نظرة المجتمع إليها بوصفها كائنا غير معترف به ، وقد دفعت من جمالها وبهائها لتخليص أنوثتها من الشرور المحيطة بها من كل جانب ، من خلال حلقها لشعرها كاملا وتشبهها بالذكور.
أما ٱسم " الهاشمي " فيبدو أنه متصل بمعناه العام ، الذي يحيل في الرواية على الأفعال العنيفة التي ٱتسمت بها تصرفاته ، من ضرب وكسر وشدة وضغط، عاكسا طبعه الذي ما ٱنفكت ٱعتقاداته الدينية تغذيه وتضفي عليه طابع الشرعية والمصداقية.
لقد اتخذت الكاتبة من هذه الشخصيات وغيرها تعِلّة لتشخيص جزء من المعاناة النفسية والفكرية التي يتصارع في خضمها فئة من الشباب ، ترزح فوق طموحاتها مقدسات تراها مزيفة ، غير منسجمة مع نفسها ، ومع تغيرات الأزمنة وتطور المجتمعات ، عاملة (أي الكاتبة) على ملامسة بعض العوائق النفسية التي تجعل المرء أسير موروثه المقدس وحبيس سلطته.
فالشخصيتان الرئيستان ، سلوى وطارق ، وما يجسدانه من رؤية عقلانية فاحصة ، مرتا بمخاض فكري ونفسي عسير ، حتى تمكنتا من تخطي حواجزهما النفسية ، والتخلص من قبضة الأفكار والقناعات الموغلة في التخلف التي تناقلتها بعض تفسيرات وتأويلات الأولين ، والتي وجدت لحمولة خطابها حضنا عند من تمثلهم شخصية الهاشمي، يبررون بها سلوكهم المتعصب ، ويستندون إليها في ٱنتقاصهم للآخر والإمعان في قمعه. بينما ترزأ سعيدة المغلوبة على أمرها ، والتي تمثل أنموذجا من النساء في مجتمعاتنا ، تحت ثقل الخوف الذي تجذر في نفسها عميقا ، مورثا إياها الإحساس الدائم بالعجز عن ممارسة حقها في النقد والرفض ، وتجاوز كل ما ينتقص منها ويحط من كرامتها.
وقد قامت الكاتبة بالاستعانة بما يتيحه التصوير النفسي من إمكانات لإبراز هذه النماذج الإنسانية ، وما يعتمل في أعماق نفسها ، وهي تخوض مجابهاتها في هذه الحياة ، فصورت للقارئ حجم القلق والتوتر النفسي الذي تكبده طارق وهو يحاول صوغ حياته صياغة جديدة ، مبنيةً على مبادئ وأسس عقلية متينة ، يسير على ضوئها وينهج طريقه تحت نبراسها . ويمكن التمثيل لذلك من خلال الشاهد التالي الذي يعكس بعض هذه المكابدة ، ويجلي جزءا من مظاهرها المتعددة : " أصاب طارقا زلزالٌ رج بعنف تلك السكينة اللذيذة التي طالما ركن إليها ، الشعور بالتيه يكتم أنفاسه . داخل رأسه تدور معركة حامية الوطيس (...) ألقى جسده على سريره المتهالك ، ابتلعه كاملا حتى لم يكد يظهر منه إلا رأسه المحترق بنار الأفكار المتحاربة"(ص24) .
لقد شُحن هذا المقطع بألفاظ تمتح من معجم الشدة والمشقة مثل : زلزال ـ رج ـ عنف ـ التيه ـ يكتم ـ معركة ـ حامية ـ الوطيس ـ المحترق ـ المتحاربة ، وكلها ألفاظ تتركز على شخصية طارق وتتمحور حوله ، في محاولة لنسج صورة مقربة لأزمته النفسية وحيرته الذهنية ، وقد ساعد ٱنتظام هذه الألفاظ في شكل ٱستعارات تصريحية ومكنية على إشراك المتلقي في بناء هذه الصورة المبرزة لحجم المعاناة التي تتكبدها الذات ، عند وضع قناعاتها المتجذرة تحت مجهر المساءلة والنقد والتحليل .على النقيض من شخصية الهاشمي ، مثلا ، التي تُسَلم ما يسلم له الناس من أدبيات متوارثة تسليم الراضي الواثق ، من غير تمحيص أو مساءلة ، فيتولد عندها الإحساس باليقين المطلق ، وتترسخ في نفسها صفة صفاء قناعاتها وخلوها من أي عيب أو نقص قد يشوبها. ولعل المقطع التالي قد يقوي ٱحتمال هذا الزعم من خلال إلقائه الضوء على بعض الملامح النفسية لهذا النموذج الإنساني ، في ذاته وفي علاقته بغيره :" أبوها الهاشمي لم يجد غضاضة فيما يفعل ، بل هو راض كل الرضا، مستريح الضمير لقوامته وسداد رؤيته أمام هذه المخلوقات الضعيفة السفيهة الناقصة(...)"(ص38) .
إن هذا الإحساس بالرضا والشعور براحة الضمير إزاء إيلام الآخرين والانتقاص من قدرهم ، دون الوقوف أمام مرآة الذات ومراجعة قناعاتها المولِّدة لهذا الإحساس ، لهو سلوك نفسي مضطرب ، يستوجب التقويم، ويتطلب التصويب ، لإعادة الاتزان إليه.
ومثل الشاهد الأسبق ، المقطع السردي التالي الذي تبرز فيه صورة سردية تستبطن نفس شخصية سلوى ، تجليةً لتمزقها النفسي الناتج عن سلوك والدها القاسي والمجحف نحوها ، ونحو والدتها وأختيها ، إذ تقول الساردة : " كلما فكرتْ في مكان أبيها من حياتها ،شعرت بطعم مر زُعاف ، يخترق حلقها ويمتد إلى قلبها فيحرقه ! شعرت بمعنى الظلم والاستئساد ، وخبرت معنى الاستسلام والخنوع ، فنأت بنفسها حتى عن أختيها وأمها المستسلمة! "(ص42) ، فقد نهض هذا المقطع على صورة وصفية مجازية تُشخص إحساس الشخصية بالظلم والإجحاف اللذين لحقا بها ، وتُقرّب وقع هذا الإحساس على نفسيتها وأثره عليها من خلال نسب أفعال مهيمنة إليه ، تصدر عن الاختراق والامتداد والإحراق . كما أشر هذا المقطع على حالة الخضوع والانصياع التام التي كانت تواجه به الشخصية ، في البدء ، كل هذه الأفعال الواقعة عليها ، الأمر الذي أضفى عليها صفات نفسية سلبية متمثلة في الاستسلام والخنوع والعزلة ، لتبرز بذلك هذه الصورة بعض الانعكاسات الحادة التي قد تؤثر على الذات وقواها النفسية ، من جرّاء تصرفات نرجسية تلغي الغير وتقصي كيانه.
أما تتبُّع جزء من الحوار المتوتر الذي جرت أطواره بين الأم وٱبنتها فداء حول قضية حقوق المرأة ، فلعله يمثل تصويرا واضحا للدوافع والهواجس النفسية المتضاربة التي تدفع كلتا المتحاورتين إلى ٱتخاذ موقفها الخاص تجاه هذه القضية.
"ردت فداء وهي تحاول جاهدة كظم غيظها مما سمعت :
ـ لكن الأمر مازال مستمرا يا أمي ، ألا ترين أننا أنفسنا نعيش القهر والاستعباد !؟ قالت سعيدة بٱنفعال :
ـ ألهذا قمت بحلاقة شعرك ؟ أتتنكرين لأنوثتك ؟ يجب أن ترضي بالدور الذي خلقك الله من أجله !
قاطعتها فداء بٱنفعال :
ـ كفى يا أمي ! تشعرينني بأني دمية ، ولا ترين ـ ولا حتى أبي ـ أنني روح تلتمس طريقها نحو الحياة ، فلم الضرب ؟ ولم الأسر ؟ ولم القسوة ؟"(ص 53) .
تعبر فداء في هذا الحوار عن سخطها ، وعن عدم الرضا لنفسها الخضوع لسلطة قهرية تستسلم لها ٱستسلام الراضي الخانع ، معلنة رفضها لمصادرة حقها في تشكيل رؤيتها الخاصة للأشياء والعالم ، بينما تواجهها الأم بالصورة النمطية الموروثة للمرأة ، والتي ترسخت في الذهنية العامة ، مؤكدة لها ضرورة الرضا بالبقاء داخل إطار هذه الصورة ، عاكسة بذلك ٱستبداد هاجس التخوف بها من تخطي الحواجز التي حُددت لها ولعموم النساء من قبل . فقد أدى هذا الحوار، إلى جانب دوره في نقل الحكي إلى نطاق التشخيص المباشر لخطاب هاتين الشخصيتين وتصادمهما، وظيفة بيان التجاذبات النفسية المتضاربة التي تستحوذ على مكنونات فداء ووالدتها ، والتي جعلتهما منشغلتين بهموم متباينة حالت دون التواصل الإيجابي بينهما ، وهو مما ساهم في تقديم حضورين مختلفين للمرأة في هذا العمل ؛ حضور للمرأة الضعيفة ، المقيَّدة ، العاجزة ، وآخر للمرأة القوية الطامحة ، التي ٱستنهضت مكامن القوة فيها قصد التغلب على العوائق العظيمة التي تعترض سبيل تحقيق ذاتها.
لقد ٱستطاعت الكاتبة ،عبر متخيَّلها السردي هذا ، فتح باب النقاش من جديد حول بعض المظان الدينية التي ٱستبدت بالعقل ، فتحكمت في توجيهه ، وفرضت عليه حدود تفكيره ، وأسهمت في إنتاج سلوكات غير متوازنة باتت ثقافة ٱجتماعية متوارَثة ، كما ٱستطاعت أن تحمل على عاتقها ثِقل الدعوة إلى مواجهة نواقص تراثنا الديني، والعمل على تنقيحه ، من أجل صياغة رؤية جديدة محتكمة إلى المنطق ، متخلصة من الأحجبة والأستار، تساعد الفرد ، ومن خلاله المجتمع ، على المضي قدما نحو صلاح حاله وتحقيق سعادته ، متمكنة في الآن ذاته من التوفيق بين عرض نقاش يتطلب الوضوح والمباشرة ، وبين الكتابة الفنية التي يشترطها جنس الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-العمل للكاتبة شيماء أبجاو ،منشورات دار الوطن، الرباط ـ المغرب ـ الطبعة الأولى،2020 .والإحالة إلى صفحات الرواية تتم داخل متن القراءة.