ينزل الدرجات ببطء. باليد اليمنى الحذاء الذي اشتراه للتو و باليسرى يتحسس الجدار البارد للممر الضيق المؤدي مباشرة إلى القبو الذي يكتريه منذ أسابيع بمونتمارت. باريس مدينة الفن و الإلهام. يشعر ببرودة الأرض تحت قدميه الحافيتين. يبتسم و هو يتذكر النظرة في عيني جارته ترقبه باستغراب يقطع المسافة التي تفصل باب البيت الآيل للسقوط عن الجحر الذي يسكنه.
صحيح أنه حذاء بني قديم مهترئ لكنه مع ذلك أحسن من المشي حافي القدمين. هزت الجارة رأسها أسفا و هي تتبعه بنظراتها إلى أن توارى داخل قبوه.
فاطنة: قفطان، بلغة، مشط عريض، أسورتين ذهبيتين، كحل و رائحة الخزامى فاحت في الغرفة بعدما فتحت الصندوق الخشببي.
أخرجت فاطنة برفق شديد قفطانها الجديد من الصندوق الخشبي و وضعت حليها، مشطت شعرها، مررت مرود الكحل في عينيها و هي تدندن بأغنية. اشتاقت إلى سماع الموسيقى. سترقص على نغمات الشيخات كما لم ترقص من قبل.
سنتأخر عن العرس يا فاطنة، اسرعي!
CHRONOS ـ قصة : البوعيادي محمد
في غمرة الغضب رمى سلة الأسماك بعيدا، تمازجت السمكات الصغيرة برمل الشاطئ، اتسعت حدقات عينيه و تحولت إلى جمرات متقدة، نظرات أشبه ما تكون بقذائف من اللهب، تسارعت دقات القلب و اتسعت فتحات الأنف المفلطح ، امتد البحر أمامه جحيما أزرقا ، بحرا من الدم و المخاط، لم يعد يسمع سوى هدير الموج الصاخب يدندن في أذنيه الحمراوتين...
اللعينة،القحبة سأذبحها ذبح الشاة...
سار على طول الشاطئ بخطى متسارعة تكاد تكون هرولة ، تتناثر حبات الرمل عند قدميه، يتطاير الشرر من عينيه و قبضتاه مطبقتان على صنارة الصيد، الطريق ظلام، تعتمل في ذهنه آلاف الأفكار القاتلة، سيناريوهات مختلفة لجريمة القتل التي سيرتكبها بعد قليل..
" سيشدها من عنقها و يطبق عليه الخناق حتى تتخبط كسمكة أخرجت من الماء فتموت، سيضربها بقبضة الصنارة على رأسها حتى يفور الدم متجلطا من فمها ، قد يقتادها إلى الأكمة الصغيرة خلف البيت ثم يذبحها و يرميها في النهر جثة هامدة ككلبة نافقة ، أو ربما كان سيضربها بقبضة يده على رأسها حتى تنزف كنافورة ماء في ضريح هادئ، سيخنقها إلى أن يصبح لونها أزرقا كالبحر، حتى تطفو رغوة الموت على شدقيها الملطخين بأصباغ الفضيحة و العار..."
كل ما فكر فيه ساعتها هو إنقاذ شرفه الذي لطخته ابنته العاقة، هي و أمها مسئولتان، سيذبحهما معا ...و تكاد أوداجه تنفجر ، يتلاعب شيطان أزرق بخلاياه الدماغية، مارد من عهد سليمان يتلو آيات الغضب و النار داخل جمجمته الساخنة، يحس بموج المحيط كاملا يصطخب داخل هذه الجمجمة المتهرئة بملح البحر ...
امرأة لا توجد إلا فيكَ..! ـ قصة : زهير اسليماني
على سطح المقهى تطفو الكثير من التضاربات، الشعور بالأسر رغم الحرية، وبالنقص رغم الامتلاك، وبالضيق رغم السماء..
"أنتَ الآن تنظر إلى السماء، تستطيع أن تمتلكها بعينيك، تنظر إليها لكن هيهات أن تنظر إليك..!" هكذا خاطب نفسه. نظر إلى كوب قهوته الفارغ وإلى المقاعد التي من حوله واسترسل: "فارغة هي كأصحابها، هامدة كالأموات، فهل تكون مرتاحة وهي تشعر بكل هذا الجمود والفراغ؟ قد تكون مرتاحة لكن لا قيمة لها هكذا منفردة، فهي لا توجد لذاتها ولكن لغيرها أو مع غيرها على الأقل.. قد تبدو جميلة لكن الجميل لحظي، النافع وحده يبقى، تبقيه حاجتنا الدائمة إليه".
أربكه النظر إلى كل هذا الفراغ الذي يحوم حوله، ليتساءل إلى متى سيستمر هذا الفراغ؟ فحمل عينيه المثقلتين إلى السماء، عله يرى ما يفرج عنه كربه.. "لكن لماذا تتجهم السماء في وجهي كلما حاولت الخروج من "أناي" المظلمة لألامس زرقة السماء ولو مرة واحدة في هذه الحياة؟"
"ومن قال إن السماء زرقاء؟" تجيبه..
هذيان ـ قصة : عبد الواحد الحمداني
...التقت عينانا، فلم أقو على رفع عيني الى عينيها ثانية، فجعلت أتسلى بمداعبة ولاعتي حينا، و برشف القهوة حينا آخر، و لم أسطع البقاء على تلك الحال طويلا....ضايقني المر كثيرا حتى خلت نفسي في زنزانة انفرادية...كانت هي الأخرى لمحة من حين لآخر كما كانت تخشى أن تتعانق عينانا، وتتسلى بمداعبة زجاجة المشروب الغازي....
أخرجت سيجارة من علبتي، و أضرمت فيها النار و نفثت الدخان حلقات.. حلقات في الهواء المريض للمقهى، تسكعت بعيني في زوايا المقهى و كأني أراه للمرة الأولى....خيوط العنكبوت تصل سقف المقهى بأرضها....كراسي مكومة في زاوية ... أعقاب السجائر و اللفافات تزين أرض المقهى مشكلة لوحة يعجز أمهر الرسامين عن تشكيلها....
في قلبي ألَق من لمسة حب... ـ ضحى عبدالرؤوف المل
تراوح الأزمان في مكانها كل حين... فجر!.. غروب!.. شرق!.. غرب!.. عوالم.. أكوان.. ونحن مَنْ نُغادر الأمكنة دائماً، ربما سأغادر زماناً ليس بزماني!.. او ربما سأغادر مكاناً ليس بمكاني!.. فأكتشف إشراقاً يُزيدني حضوراً وسحراً كي أزرع عطراً يجعلني سراً!.. يلوّن زهراً!.. يُشعل جمراً!.. ونرفع تلك الأكف التي نفتحها ونتأمل سيرة حياتنا فيها، لنزداد طُهراً وإيماناً وخيالاً، فما نحياه!.. إنما حلم استفاق وماجت به خيالاتنا، نداعبه ويداعبنا!.. نلامس فيه جزءًا من حقيقة حبّ نحياه بتفاصيل طفولية لا زالت فينا، وقصائدنا التي ستحيا دهراً!.. وربما دهوراً!.. ما هي إلاّ قرابين روحية نقدّمها لأنفسنا، لنكمل طريق الحياة بصفاء وإشراق وتأملات نرى بعضنا فيها عبر المسافات أطيافاً، والضوء يلملمنا بغنى روحي يجعلنا مُتصلين من خلال صميم حرف نجعله مضيئاً!.. نكتبه كمرآة عين مصقولة نرى فيها ذواتنا بقوة الايمان، إيمان حُبّ موجود فينا، فلا نكتفي بزمان ولا نتقيّد بمكان، فكيف نصغي يا حبيبي لأنفسنا؟.. ما لم نُمسك بحقيقة كونية مُركبة فينا؟.. وكيف لا نسمع لأصواتنا التي تنادينا رغماً عنا؟.. فجوهر كلمة أحبّك هي أنا!.. هي أنت!.. هي هؤلاء!.. هي نحن!.. هي كل نفس قرأت واستمعت، وشعرت بنبضها وبوجودها فينا..
مدينة الـنحاس*- نص : محمد الفشتالي
جائـزة
أملي أن أكون دوما عند حسن ظنك، و عليه وجب ألا أخفيك سرا أبدا، و أن أميط لك اللثام عن سر عظيم ظللت أكتمه حتى غدا عبئا ثقيلا لا يحتمل. لقد آن الأوان لنتقاسمه معا... إن مدينتنا العزيزة – أيها الكريم – هي مدينة النحاس. نعم مدينة النحاس، و هذه حقيقة عارية لم يعد عليها غبار.
لقد عمم مركز وطني هذا الخبر بمناسبة الإعلان عن جائزة علمية جديدة. ولعلمك فهذا مركز علمي وطني محسوب على مؤسسات علمية عالمية معروفة؛ كان قد نشر في إعلانه شروط هذه المسابقة للإثبات بالدليل العلمي أن تازا هي مدينة النحاس. و جاءت شروط البحث صارمة بمنهج علمي دقيق. ولن تقبل الأعمال الانطباعية، على أن يقدم الباحث المشارك في الجائزة سيرته العلمية، إضافة إلى عمله مطبوعا، و مذيلا بمستنداته الفكرية ومراجعه العلمية، و الوثائق العينية في ما لا يقل على الألف صفحة و صفحة.
الحشــــــــد - قصة : عبد الفتاح المطلبي
كنت أظن أن الأمر يتطلب قليلا من الصبر لكنني كنت مخطئا بشأن ذلك فانفجرت غضبا وشتمت( ال...) كيف لا أنفجر و أنا أرى الشرطي يتواطأ مع اللص لسرقة ما بحافظتي و عندما لم يجدا شيئا أشبعاني ضربا مبرحا و اتهماني بالخداع ، كيف لا أنفجر غضبا و أنا أرى معلم التلاميذ الصغار يسرق حقائبهم و يبيعها في سوق ( مريدي) و رصيف الحرامية، كيف لا أنفجر و أنا أرى أن القطط و الكلاب قد قاومت تغيير طباعها كل هذه العصور و لم ينجح كثير من الناس بالإحتفاظ بطبائعهم الآدمية ، أكان علي أن أتحلى بالصبر و أنا أرى البقال يضع أزبالا في كيسي بدلا من الفاكهة التي أشرت اليها و دفعت مالا لشرائها ، كيف لا أنفجر،و كلما مُدت يد لأشعال شمعة تضرب بعصىً غليضة تكسر عظم اليد و تطيح بالشمعة ، ماذا يجري ، كيف لا يغزوك الخوف و الغضب و أنت ترى وطنك مثل رجل فارع يمشي مترنحا وهو يغرزخناجره بجسده دون وجل مخلفا وراءه خيطا من الدم الأحمر القاني .
دائرة زرقاء - قصة : محمد كماشين
إلى روح شهداء انتفاضة 1948 بالقصر الكبير
أكتم الصوت داخلي، يتأجج صدري، أوزع تساؤلاتي،، نظراتي عبر النافذة،، اختفت الحركة، صياح الباعة وهلوساتهم، أحاديث قدماء محاربي الحرب الأهلية الاسبانية، وهم يتحذلقون حول الأدرد ، يتطاير لعابه من فمه وهو يمسك القصبة الصقيلة، من طرفها تارة، ومن وسطها تارات أخرى، يحكي يشد الأنفاس،، يحكي يشخص المواقف المناسبة لقامته القصيرة، والصوت المبحوح الذي يعرف محطات توقفه، يتقن فن التوقف يجول بالحدقتين الضيقتين، يتفرس الوجوه يستعطفها باسما تنفحه فيتابع رحلته .