يسير بمحاذاة الجسر مكتئبا كاسف البال، تائها في شرارات أحزانه ونكداته، يرتدي أطمارا بالية وحذاء مرقعا باهت اللون، ويضع طربوشا أبيض تعلوه طبقات من العفن والأوساخ، يمسك ما تبقى من سيجارة وجدها ملقاة على الأرض ما تزال تصارع موتها. كان ينظر إليها ويتفحصها، سائلا نفسه لماذا يمسك بها إذا كان لم يسبق له أن دخن، هل فعلا سيجد في امتصاص دخانها عونا على نسيان همومه؟ كيف يكون الداء دواء؟ وضعها بين شفتيه، وصار يدخل الدخان إلى رئته، ولكنه ما لبث أن رماها لما أحس أنه على وشك أن يختنق، ورفسها بكعب حذائه، ثم صار يسرح بخياله في ذلك العالم الذي أُجْبِر على العيش فيه. لم يكن عالَما مثاليا تحيط به هالة من نور، وتنشر فيه الزهور رحيقها، وتصدح فيه الطيور بأناشيدها الأخاذة، وتحلق السعادة في كل أرجائه، ولكن كان عالما بهيما، ضرير النجم، ساقط النواحي... إنه عالم الحزن الذي أُلْقِيَ فيه منذ أن فتح عينيه على هذه الحياة، ذلك العالم الذي شده إليه كما تشد البهيمة إلى الشجرة بوثاق من حديد..
آدم بريء ـ نص : بغاديد عبد القادر
-تهمة كاذبة-
صعب جدا أن تجمع الأحلام في سنوات لتفارقها عند مجرد لحظة، و الأكبر من ذلك أن تكون المـُذنب والذَّنبُ و أن تكون الجلاد و المجلود في نفس الوقت.
ما أتعس لحظات تكون فيها في عين من تحب آثما و قد شاركك إثمك عن طواعية، غريب ذاك الذي يعيش مع الحلم و يجرك عنوة إلى أمل سرعان ما يكون أول من يقتله في قلبك.
أصعب ما في الأمر أن يسكنك الذهول، فلا تدري أين أجرمت، و متى أجرمت، و كيف كان شكل و لون و رائحة جرمك.
الجريمة تحتاج إلى جثة ولكن في هذه الحالة القاتل والقتيل صورتان لإنسان واحد، السفاح و المسفوح إنسان واحد، من يُصدق هذا؟
أمي عائشة ... وورقة من الأرياف ـ قصة : رشيد سكري
من وراء الأحجار الطينية الملساء ، كانت عائشة تنظر إلى الساقية تسيل ماءا زلالا .اقتربت من مجراها ...فأخذت تعبث بعصا ، ترسم دوائر تضيق على الطين المبلل. ينعش خرير ماء عين " بوتلمسيردين " نفسها المتضايق ، دلفت بحذر شديد ، تحت أشجار الدفلى المتشابكة الأغصان و الأوراق تجر رجلها المعقوفة إلى الوراء ؛ وأخذت مكانها بالقرب من مجرى المياه . رشفت منها رشفة عميقة ... استلذت برودة الماء و المكان ، وروائح التربة المبللة . ذبال متساقط من أشجار الكليبتوس ، زاد من عطونتها مدت رجلها اليسرى كابسة على ركبتها لتطرد منها العياء . اقتحمها صوت ، تعرف رنين أوتاره...
ـ إلى أين أنتِ ذاهبة أمي عائشة؟
ودون أن ترفع بصرها ، أجابت قائلة : إلى المقبرة
ـ ذلك سيتطلب منك جهدا جهيدا ، وأنت مهيضة .
فأجابته ، وهي تشدك على رأسها المشتعل شيبا بحزام من الصوف المفتول ، بكلام منفلت من بين ثنيتين ذهبيتين :
حبيبتي التي لا تقرأ - نص : عادل اعياشي
تنظرُ إليَّ باستغرابٍ تارةً، وتارة أخرى بإشفاقٍ حاد، وكأنها تلومني على أوقاتي التي أقضيها سجيناً بين دفّتي كتاب، أو صفحات جريدة، فهيَ لا تقرأ، أو بالأحرى لا تقرأ بالقدر الذي يُصنّفُها في خانة القارئات، وحين أسألها عن أشهَرِ من كتبوا وتركوا آثاراً بعد رحيلهم لا تذبلُ ولا تُمحا، تعرفهم بسيماهم واحداً واحداً، وقد تحفظُ بعض مؤلفاتهم وتستظهرُ شيئا من سيرتهم الذاتية، فأجدني مستغرباً لا أملكُ لذلك تأويلا.
فهي كالفراشة الطائرة، لا تكادُ تبرحُ مكاناً حتى تنتقل إلى غيره في لهفةٍ وحنين، ولا تقضي من الوقت في قراءة عابرةٍ بين السطور مثلما تسرحُ حواسها أمام التلفاز أزمانا طويلة، دون أن يُصيبها لفحٌ من عناءٍ أو مَلل، ودون أن تحتفظ في ذاكرتها بما يستحقُّ البقاء، فالذي يقرأُ لا ينسى، فكيفَ يَنسى مَنْ
القاع ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي
أقفُ نافراً أمامَهُ، أيّها السيّدُ أنا غاضبٌ، ومزاجي سيئٌ جداً ووجودُنا في هذا الوضعِ يتمخّضُ عن خطرٍعلينا نحن أعني الإثنين أنا وأنت فقط، ها أنت قد أغاظكَ خطابي ولجأتَ إلى تصَنّع الضَحِكِ الكاذبِ، كلّما ادعيتَ أمراً فَنّدَتْهُ الوقائعُ فأنتَ الذي كنتَ تبحثُ عنّي وما بحثتُ عنك يومًا، جلستَ تخططُ بخبثٍ وتهرفُ ليلاً ونهاراً تُذلّ نفسَك لكلّ مُتكبّر وتستسيغَ الصَغارَ من أجلِ أن تعثرَ عليَّ وإنْ تَعَثّرَتْ خُطاك وإنْ ملأَ أنفَكَ الترابُ ويومَ حصلتَ عليّ ووضعتني في جيبك، مع الكثير من أمثالي، أسكتَتْ رائحة جيبِكَ رنيني ورنينَ الصحبِ معي، كنتُ أشمّ عفونةَ شحّكَ حتى استبدلْتني مُجبرًا بحاجتكَ التي كانتْ عند مرتزقٍ خفيفِ الظلّ نذرَ أن يرمي أولَ ما تتناولَهُ كفّهُ إلى البحرِ اتقاءً لشرّ (بوسيدون) .
الخلاص ـ قصة : الحسين لحفاوي
وقفت سعدية خلف الجدار و عيناها تدوران في محجريهما، و هي تحاول يائسة أن ترى ما يجري داخل الغرفة من خلال كوة الباب، لكن نظرها يصطدم بالعتمة في الداخل فيرتد حسيرا، فمنذ أن وصلت وزوجها مرفوقين بابنتهما، أمرهما المساعد أن ينتظرا في الخارج و أن لا ينقطعا عن التسبيح و ذكر الله. أما زوجها فقد تلا ما كان يحفظ من آيات ثم اسند ظهره للجدار و سحب مسبحته من جيب سرواله الفضفاض و راح يمرر حباتها بين أصابعه و شفتاه تنفرجان و تنطبقان في حركة متواصلة لا انقطاع فيها، و كلما تحسس الشاهد المسبحة، رفع سبابته اليمنى و تلا الشهادتين بصوت أقرب إلى الجهر و رفع بصره إلى السماء و دعا في سره.
لا يدًا ستُلوّحُ لك بعد اليوم..! – قصة : خيرالدين جمعة
ما كنت ُ أتصوّر أنّ تلك اليد الراقصة مع جنون القيظ المُترَعَة بحكمة الشمس...هي التي ستفتح لي باب مملكة الرجال لأول مرّة في حياتي ...! تلك اليد السمراء الممتلئة التي تلوّح لي تحت أشعة الشمس العنيدة كل صباح ....تلك اليد التي ما إن أراها من بعيد حتى أنفلت بسرعة راكضا متوجّها إلى بيتنا ..كانت تلك رحلة طفولتي الغافية في غمام الذكريات ..
في ذلك الصيف كانت أمي ترسلني كل صباح لأحمل فطور أخي الأكبر الذي كان ينهض مبكرا كل صباح ليلتحق بالعمل في إحدى حضائر البناء عند مدخل قريتنا... كان فطورا بسيطا هو عبارة عن رغيف خبز به بيضة وبعض الخضار المقلي تلفّه أمي في ورقة جريدة ، و كانت توصي أخي أن لا يعود إلى عمله بعد تسلّم فطوره إلا بعد أن يطمئنّ عليّ فيُشيّعني بنظراته على طول الطريق الرئيسي الذي تكثر به الشاحنات الثقيلة و أظلّ أتّبع الظل مُجانبًا بنايات المنازل المتواضعة اتقاءً للشمس الحارقة نازلاً منحدرا و حين أصل إلى مفترق الطريق أعلى التلة ، عند ذلك ألتفت فيكون أخي قد شيّعني بناظريه لعشر دقائق ثم يلوّح لي بيده في الناحية المقابلة من التلّة فأردُّ عليه التحيّة ثم أركض في الطريق الجانبي إلى بيتنا .
بؤس وورود - قصة : أحمد العكيدي
لم تكن هي نفسها عندما فتحت الباب وخرجت، لم تكن تحمل معها مجلتها النسوية وهاتفها الوردي الرائق، حتى عطرها الفرنسي الجميل لا يفوح في الفضاء كعادته، عيناها حمراوان وشفتاها ذابلتان من غير زينة، وجهها شاحب تغطيه سحنة الأموات...
مرت من أمامي في مكان التقائنا المألوف كأنني غير موجود، لم تنظر قط نحوي كأنها لم تراني، ابتاعت باقة ورد كبيرة، فازدادت حيرتي؛ الورود في قاموسي رمز الفرح والسرور وحالها ليس كذلك...
همست لها وهي عائدة بكلمات جميلة، فالتفتت نحوي في ذهول. حدقت بي شاردة الذهن للحظات حسبتها الدهر حتى كادت نظراتها تخترق فؤادي، تسللت قطرات العرق الباردة فوق جبيني، وأحسست بأن الجميع يراقبني، وبأعداء التضامن الطبقي يشمتون بي ويتبجحون بصحة نظرياتهم حول حتمية الصراع الطبقي. ثم ركبت سيارتها وذهبت من غير لوم ولا عتاب.