أمطار غزيرة تنساب على الزجاج بسلاسة، همست له بلطف بميزاتها العديدة، تسقي الحرث لتستمر دورة الحياة وتغسل الأمكنة وتطهر الأجساد من قذارات الزمن.. ربما تطهر فكره أيضا من ترسبات الماضي الحزين..!
أطل برأسه عبر النافدة؛ فلمسته قطرات الماء الباردة، وانتقلت إلى جسده انتعاشه غريبة، أحيت بباطنه عواطف ميتة، وحفزت في دواخله مشاعر جامدة...
أخد صندوق أسراره أو كما يسميه صرة الكآبة المغلق مند الواقعة ونفض عنه الغبار والأتربة؛ هذه رسالة من حبيب قد هجر، تلك صورة له في زمن قد ولى، يتباهى بتدخين سيجارة أيام المراهقة، تأمل ملامحه وقتئذ لا شيء تغير، هو نفس الجسد النحيل، التجاعيد فقط أصبحت تؤثث كل جسمه، هذا تذكار من زميل الدراسة انقطعت الأخبار بينهما مند أجل غير قريب…
وهذا قلم مكسر وسط كومة من الأشياء، لكل منها حديث وشجن، تنهد ومد يده لالتقاطه فخذلته، حاول مرة أخرى وتشجع، تلمس جوانبه بيده المرتعدة ووقف على موضع الكسر؛ فانسلت دمعة متمردة من جفنيه، تصاعدت الآهات والآلام والأحزان، تردد في أعماقه نفس السؤال الحارق الذي لا ينفك يمارس لعبته المفضلة في قض مضجعه مند تلك اللحظة، لماذا حدث ما حدث؟ بدون جواب...
أنا الآن على أعتاب الخمسين وقد بدأت السنون تتساقط من عمري كأورق الخريف الميتة ونضجت كثير من معتقداتي وتغيرت عديد من أفكاري ما زلت لم أفهم لماذا؟ ما زلت أشم رائحة عصا ذلك الشرطي البدين في لباسه الحصين تحطم قلمي، لم أعد أتذكر صوت أضلعي تتكسر تحت ركلاته ولا شتائمه وهي تخترق طبلة أدني إلا نادرا وإن حدث لا أبالي...
لقد انجلى كل شيء أو كاد، هي نفس الذكرى تتربص بخيالي وتلازمني منذئذ في زفراتي وشهقاتي...
سقطت الدمعة في مثواها الأخير وبللت بثلة وردة يابسة؛ فأنبعث منها عطر عابق، يحمل معه أمل اللحظة البائدة وأحلامها، حور رأسه نحو القلم؛ فخط على يده كلمات حب وشجن ومواساة ومعاتبة وأمل...
إنه يكتب!
أحكم قبضته على القلم وخرج إلى حيث انبثق النور الأول.