كانت عيناه لا تكفان عن ذرف الدموع، كلما رأيته تجذبني إليه مسحة الحزن التي تهب ملامحه طعما موغلا في القتامة والألم. تنزل دموعه الحارقة كالجمر على خديه في صمت من لا يريد البوح بما يعتمر في قلبه من مواجع، لا يريد أن يبدو ضعيفا تراه دائما مكابرا عنيدا، كان كمن يخفي ضعفه وعجزه وخوفه.
كنت ألمحه، منذ حل في هذه المدينة الموحلة، كل يوم في الشوارع الممتدة الفسيحة، وفي الأزقة الملتوية والأنهج الضيقة المعفرة بالأوحال والأحزان والمكائد، كنت ألتقيه أمام المقاهي وفي الأسواق وحذو المدرسة وفي بهو الجامع. لم أجرؤ على التحدث معه، تحاشيته خوفا عليه أو منه. لم يكن يُقبِل على أحد، يرفض ما يعطى له من نقود أو طعام. يزم شفتيه كمن يهم بالبكاء أو الشتم كلما امتدت له يد بحسنة، ثم يمضى متجاهلا الجميع في كبرياء. نبت فجأة في أرجاء مدينتنا ونما بيننا بأسماله البالية وأظافره الطويلة المتسخة وشعره الأشعث الطويل المعفر دوما بالتراب. يدلّك بعض الزغب الذي نما في فوضى أسفل ذقنه على سنواته العشرين. كتلة من الأحزان كان يمشي حين تراه، ولا تملك إلا أن تأسى لحاله أو تبكي لبكائه.
سمعته خلال إحدى الليالي، حين كنت مارا حذو إحدى الخرابات التي كان يقضي الليل فيها، يدندن بأغنية حزينة، بدأ صوته يرتفع شيئا فشيئا، وكلما علا غناؤه تجلت ملامح الحزن فيه. كانت كلمات الأغنية مفعمة بالبكاء وظلت متشبثة بذاكرتي حينا من الزمن، بل كثيرا ما وجدتني أرددها في ساعات وحدتي. تسمرت بجانب الجدار وأصخت السمع، وكان سيواصل غناءه وبكاءه لولا فزع أحد القطط الذي نبهه لوجودي. قطع الغناء وانسحب في صمت واحتواه الزقاق الطويل الممتد ومضى متعثرا في دموعه وخوفه تقوده خطواته المتعبة إلى حيث سيُمضي بقية ليله مناجيا أطيافا تعبر بين الفينة من أمام عينيه وتشق ظلمة الليل وتأتيه لتؤنسه في وحدته ووحشته. أتحمل الحياة كل هذا الضنى وهذا الضجر؟؟؟
هكذا كانت أيامه تمر على وتيرة واحدة يحيا نهاره هائما على وجهه بين الأزقة وأروقة المباني تتقاذفه محطات القطارات والحافلات وسيارات الأجرة، عرف مواعيد وصولها وانطلاقها، ينتظر قدومها ويتسمر بجانب الأبواب يحدق في كل الوجوه، كان كمن ينتظر غائبا، يتفرس في كل الملامح، لكنه في كل مرة يخيب رجاؤه. حينها يجمع ما تناثر من حزنه ويرحل في انتظار قدوم قطار جديد محمّلا بالغرباء والآمال العراض.
أما ليله فقد كان يقضيه مع أطيافه التي يناجيها، وكلما زاره أحدها مخترقا السنوات الكثيرة التي تفصل أحدهما عن الآخر نسي أو تناسى الباقين، ويظل يسامره الليل كله كأن لا حواجز بينهما، يشكو إليه غربته وعذابه.
لست أذكره إلا عبر صورة تكاد تتلاشى من ذاكرتي. أذكر حين رأيته أول مرة يحوم حول إحدى الحانات يجمع أعقاب السجائر في كيس بلاستيكي أسود ليدخنها بنهم شديد حين يختلي بنفسه في إحدى الزوايا المعتمة. وقف يومها يحدق في اليافطة المعلقة فوق الباب فبدا كأنه يتهجى حروفها، ثم اندفع كالملدوغ ودلف إلى الداخل ومن فوق أول طاولة التي اعترضته انقض على قارورة خمر وفي لمح البصر سكب ما فيها في جوفه أمام ذهول الجميع. وحين مد يده إلى غيرها عاجله أحدهم بقبضة يده أسفل ذقنه فترنح ثم تكوم على الأرض، فأعمل فيه صاحب القارورة قدمه ركلا ورفسا، ولم ينقذه سوى النادل الذي هب لنجدته وسحبه إلى الخارج ثم ألقاه في زاوية اتخذها المخمورون للتبول، ومنذ تلك الحادثة لم يحم حول الخمارة ولم أره يدنو من غيرها.
في ليلة القدر قررت أن أصطحبه إلى بيتي لأطعمه عسى ينالني منه ثواب، بحثت عنه في كل الأماكن التي ألفت رؤيته فيها أو يحوم حولها فلم أعثر عليه، كأن الأرض انشقت وابتلعته. دلني عليه أحدهم وأكد أنه رآه يجلس القرفصاء بجانب الباب الغربي للمقبرة، اتجهت إلى هناك، لمحته من بعيد مكورا بجانب قبر، دنوت منه، ووقفت حذوه، صعّد بصره وصوّبه نحوي ثم خبّأ رأسه بين ذراعيه. وحين نظرت إلى القبر وجدته قديما وبالكاد قرأت اسم امرأة مكتوبا فوق الشاهدة، وحين سألته عنها أجابتني دموعه المنهمرة بغزارة...عجيب من أين يأتي هذا الفتى بكل هذه الدموع التي لا تنقطع؟ وأي مآق تذرف هذه العبرات ولا تنضب؟؟ رجوته أن ينهض فرفض، مددت له يدي فهرشها بأظافره الحادة الطويلة ثم جثا على ركبتيه وانخرط في بكاء مر.. سمعته يهمهم بكلمات لم أتبينها، ثم رفع إليّ عينين كحلهما الحزن وأشار إلى ساكنة القبر فخرجت الكلمة من بين شفتيه جافة محرقة "الوالدة". كان صوته حزينا مربكا حوى كل مواجع الدنيا وآلامها. توسلت إليه أن يقوم لنمضي معا، فغرز فيّ عينين ازدادتا احمرارا كلما ازدادتا اتساعا، شهابان انغرسا في وجهي. تركته وانسحبت خائفا متعثرا في حيرتي وحزني، وحين بلغت باب المقبرة حانت مني التفاتة فرأيته يحتضن القبر وجسده يرتعد وصوت نحيب يعلو وينخفض. ومنذ ذلك اليوم لم أره أبدا.