رأيته فى مساء ذلك اليوم هادئاً على غير عادته،ولولا أنه مر بجواري كأنه لا يعرفني لشككت أنه في طريقه للتعافي،لكنني حينما لحظته ـ بعد وقت قليل ـ بمنتصف الش،يخوض معركة مع أشباح،يخرج على الدوام من عراكه معها خاسراً،تأكد لي أن حالته تزداد سوءا.
بمنتصف الشارع الذىيشق قلب بلدتنا ،غير مكترث بأبواق السيارات،وزحام المارة يواصل عراكه فى شراسة مع أشباحه ، فتراه يقبض بيديه على الهواء فى استماتة على عنق أحدها،وفى هستيرية جنونية يصرخ فى وجهه معنفاً،وكالعادة ينجح الشبح فى الفرار،ويسقط "عارف"مغشياً عليه،حتى يجد من بين المارة من يتبرع بإفاقته.
يجر قدميه فى تهالك،يجذب كرسياً خشبياً،وبوجهه المحتقن،وأنفاسه اللاهثة يجلس قبالتي، فى استسلام تام لحصار عيون عيون زبائن مقهى فضولية تحدق إليه فى وقاحة،يرمقني بنظرة واهنة تثير شفقتي،وتدفعني على الفور لمناداة النادل :
،قائلاً: "شاى للدكتور"كما يروق له مناداته،فيفتعل ابتسامة باهتة،ويواصل شروده.
من علبة سجائري التى توشك على الانتهاء،أشعل له سيجارة،يتابع فى استغراق تام سحابات دخانها، يوقظه صوت النادل ملاطفاً:"أحلى شاي بالنعناع لأحلى دكتور "فتصدر عنه ابتسامة ودودة، تخفى قلة حيلة، وشكر لم يقو صوته الهارب على النطق به.
يصر "عارف" على الجلوس إلينا كشاعر،وإذا ما تجرأ أحدنا على التشكيك بموهبته ممازحاً،ثارت ثائرته،وبعيون تتقد غيظاً،يفتش فى جيوبه الكثيرة عن كراسته المهترئة،ويجبرنا رغماً عن أنوفنا على الاستماع لقصائد،ينم أكثرها عن موهبة حقيقية، يصر ـ هوـ على تسميتها بعبقرية خائفة من عقاب آلهة قمع ،حاولت ذات يوم تعطيلها بضربة على أم رأسه، ولكى تظل ـ كما يقول ـ كل النوافذ النى يمكن أن يتسرب إلينا الضوء من خلالها مغلقة ، أودعوهلمستشفى المجاذيب ..
فى ساعات صفائه، ينجح "عارف"فى دفعك على التشكيك فى حكمك عليه بالجنون،وقناعتك المراوغة فى ادعائه أنه ـ كما يقول ـ يتظاهر به،بعد أن اكتشف أنه ـ أى الجنون ـ يعد الأسلوب الأمثل للتعامل مع أناس وعصر يتسم كلاهما بالجنون.
تعرف قدماه الطريق إلى المقهى ، لذا لم أفاجأ بمجيئه،لكن ما أثار ريبتى حقيقة،حماسه الزائد فى ذلك اليوم،كأنه قد عقد هدنة مع أشباحه،ليتفرغ لمعركة أخرى نجح بامتياز فى إجباري على المشاركة فيها،وفى محاولة فاشلة منى لتأجيلها،دفعت له بعلبة سجائري كاملة،وتبرعت له بفنجان قهوة "ع الريحة"،لكنه ما أن أخذ منه رشفة،ونفث من بين شفتيه سيلاً من الدخان،حتى باغتني قائلاً فى حدة:
ألا تراني جديراً بتمثيل هؤلاء..؟ ، وأخذ يشير بيد مرتجفة إلى المارة.
ومن غبر ترّو ،قلت له مجاملاً: بلى
قال فى توتر مفاجئ:إذن لماذا تصر سدنةالآلهة على تجاهل أمثالى ..؟
وقبل أن أجيبه، أردف مستهجناً : أيشكون فى كفائتنا؟
فقلت له فى أسى : وربما فى أشياء أخرى..
ساورني الشك فى أنه يتحدث إلىّ فى قضية لا تعنينى كثيراً،فيما كنت أسير به تجاه قضية أخرى أكثر أهمية،بل أراها تمثل مأساة حقيقية،تنذر بأخطار قادمة ، يصعب التكهن بها ...
أفقت من شرودي مفزوعاً على صوته،وهو يصرخ فى هياج : انها مؤامرة ..وأخذ يضرب بيده على الطاولة فى عنف،ثم مضى قائلاً: أنهم لا يروننا غير كائنات صحراوية متوحشة، يجب عليهم ترويضها
.. هددته فى حدة بمغادرة المكان،إن لم يتحدث بطريقة لائقة.
اعتذر فى أدب جم، وهو يضع يديه أمام وجهه على الطريقة الصينية،قائلاً:
أنا آسف ، أعذرني فأنا أرى ما لا ترونه..
يعى تمامابعى تماماً أن ثمة عيوناً ثعلبية تتربص بنا،لكنه قناعته التامة أن الحرية فى ان نتحرر من خوفنا ، دفعت به للإعلان على الملأ فى جرأة لا تخلو من سخرية:
وقد شرعوا بالفعل فى تنفيذها للقضاء على وحشيتنا المؤكدة ..
وكأنه يعلن عن رفضه،واستعداده الكامل للدفاع عن مصيره،جال بناظريه فى سخط على وجوه الجميع،فيما كانوا ينظرون إليه فى حيرة، بصق على الأرض فى قرف ، ثم غادر ناقماً،تاركاً لهم حيرتهم ،ولى فنجان القهوة الذي أجبرني للتو على طلبه.