"ربنا لا تغفر لنا "
د. السعيد بوطاجين
استيقظت قبيل الفجر و المدينة ساكنة سكونا يكاد يخفيها عن أنفاس الوجود..فتحت النافذة
و تنفست بعمق و الليل يعزف سمفونيته الاخيرة.
أمير الفضاء لا زال ينشر أجنحته النورانية على الخلق كما أراده بديع السماوات و الأرض.. دقائق الاثير حابلة بشيء لا يفنى..الهدوء ، السلام ، النجوم ..علائق الود متجذرة عبر الازمان .. الفلسفة الخفية ، الجميلة منشورة ..منشورة للعيان.
الناس نيام ..ليتهم يظلون نياما !..
وحده الموشوم بالفقر و الحرمان يخرج من بين فلقتي الظلام يدور في أنحاء المدينة، يود لو يغطسها في الماء المبارك لتصبح نقية ، فاضلة..
وحده المصلوب على وحدته و وحشته يدفع تابوته الخفي كل ليلة عبر الطرقات المتربة و الزوايا العاتمة يريد أن يطهرها ، أن يرشها بالمسك ، أن يحتويها من أول الليل الى السحر.
وحده الحافي الا من حكمته أو حماقته يكتب على أسوارها سر الانسان..
و تصمتين ...
لا تتنفسين ..تتوجسين خيفة من قلب يمكن أن يطلق أنة ..أن يكسر أمواج السكينة المفتقدة ..أن يمزق ستار الهدوء ..أن يحدث جلبة..
تصمتين طويلا و هو يمر تحت نافذتك يجر الخطو و يجمع طواعية ما تكدس على الرصيف من قاذورات.
على ظهره المقوس شوال من خرقة خشنة يضع فيه ما يلتقطه.و هو لا يلتقط غير كيس حليب فارغ ، علبة سجائر خاوية ، قشور فواكه ، أوراق جرائد مستهلكة ، قارورة ماء ناضبة ، عظمة عارية. و يمضي مترنحا تحت ثقله ينحني و يقف ، يركع و يقوم ..هكذا كأنه سيزيف لحقته لعنة الآلهة.
تصمتين طويلا و أنت تحسين بنفسك ممتلئة الى النقطة التي تقفين عندها ساهمة لا تشعرين حتى بالنسمات الباردة تعبرك الى النخاع و تهزك كالشراع.
" الوطواط " ! هكذا تسميه المدينة التي لا تبوح بأسرارها الا له ولا يسمع أناتها الا هو..
فهو من يحاول أن يفك حزام بؤسها ، هو من يحاول أن يغرقها في اليم لتطلع عروس بحر زاهية..
هو من تلفح أنفاسه تفاصيلها العارية ، و يلفحه سحرها الليلي يرمم فيه جروح الزمن و يفتح مسامات جسده للحلم..
موغلا في وحدته و في جنون فكرته عن العالم الذي يريد ، عن الأرض التي يشتهي كان يسير ، راح يسير، ظل يسير و غلالة رقيقة من نور الصديق تنثر عليه غبار الحب و تلفه في هالة من الجمال تجعل تجاعيده ترق ..ترق حتى تكاد تتلاشى ليصبح وجهه العجوز قرصا من نور.
حين شعر بالتعب جلس يأخذ أنفاسه على الرصيف و وجهه للسماء، و ذهب في تأمل غريب و مناجاة غرائبية و كأنه تحول الى تمثال يتشرب النور ويرى ما لا يرى.
لعله يحلم في جلسته تلك أن يكنس الغبار عن وجه القمر ليعيد له بهاءه الاول، رونقه الازلي ، جاذبيته الاسطورية .هو لا يعلم أن الاغنياء يسمسرون فيه ..هو لا يعلم أن الفقراء في سعيهم المحموم وراء لقمة العيش لا يرونه.و يحز في نفسه هذا النكران الفاقع لحبيب الشعراء و الطيبين .. لا يعرف أنه أصبح صفقة عند المستثمرين.
العجوز ..السقيم..مؤمن هو بأن المدينة حين تنقى من أوساخها ينحدر القمر ، يغير المدار ، يصبح أكثر اشراقا ، يضع صولجان النور على رؤوس الأبرار..مؤمن هو بقداسة مهمته، بضرورة وجوده كل ليلة في قلب المدينة ليعيش علاقته مع أشيائها و مع عليائها.علاقة تشكلت مع الطرقات المتربة و الزوايا المملوءة بالقمامة ، و تشكلت أيضا مع الليل و مع قمر الليل بدرا و هلالا، حضورا وغيابا.
و عاود السير من جديد..
و الشوال يثاقل على كتفيه..
و الخطى تنكسر ذات اليمين و ذات اليسار..
" يا رب موسى و عيسى و محمد اغفر لهم !اغفر لهم ! .."
متسربلا في وحدته أخذ يمد الخطو في الحارات و الازقة و عينك تتبعه حتى تلاشى كأنه رؤيا عابرة استفقت منها في الحين..
أنّ القلب أنينه..أنّ ..
جعلت نسائم الخريف تهزك كورقة جافة..
تشربت برودة العالم كله حتى ثملت و أنت في وقفتك تعبثين بقطع الليل و تعبث بك قطع البدر..لم تشعري حتى بالدموع تساقط على خديك..على فؤادك ..على أخمص روحك..
و لم تبرحي المكان..
النافذة مشرعة على شيء قد يكون..
غبت أم أسري بك الى أعالي الكون ؟
أين أنت ؟ في أي الاقمار؟
و عاد " الوطواط " الى حقل رؤيتك و قد عدت من بعيد...
تقدم من ساحة عمومية لا تبعد كثيرا عن نافذتك، فارغة الا من وحشتها و صمتها الليلي .. جعل في العين الواقعة في ناحية منها أنبوب بلاستيك و أخذ يرش المكان ..يرش..يدور..يرش : الماء..النظافة..النقاء..سطوة الفكرة الجميلة عن العالم الجميل..
و تملكه شيء من الزهو ثم الكثير من الزهو بما يفعل فلم يتوقف الا والساحة تقطر ماء و جسده يقطر ماء و الدنيا كلها تقطر في عينيه ماء طهورا.
نظر حواليه ..ماذا بعد ؟..لا زال يحس برائحة العفونة ..لف المكان..تعثرت قدمه في حصاة.. سقط على ظهره.. سقط الانبوب يدفق الماء على صدره ..سقط البدر في عينيه..ابتسم ..ابتسم و كاد يبكي من فرط النشوة !
" يا ليل ابك معه قمرك الذي لم يعد سوى عقارات تباع في السوق ! "– هل قلت ذلك؟-
لكنه في سورة هستيريا جارفة نهض ، صوب الانبوب الى أعلى و ضغط على فوهته ليقذف الماء عاليا في الأفق ..مد يده لينال القمر..ليغسله .."سأغسله بالماء و البرد و الثلج ليعود ناصعا كما كان فقد لوثوه بنظراتهم الطامعة و راودوه عن جماله"..ربما قالت دخيلته شيئا مثل هذا.
أطال في مهمته مأخوذا بما يفعل..في فورة جنونه خلته سعيدا ..خلته يبتسم..خلته في حوار مع الأشياء، فوحده يعرف لغة الأشياء. غير أن موجة الاشفاق التي اتجهت منك نحوه تحولت الى قلق عليه و قد أصبح مبتلا تماما و الأنبوب لا زال يدفق الماء عليه و حواليه و هو موغل في قلب الليل و البرد لا الأرض أرضه و لا السماء سماؤه و لو أصر على امتلاكهما.
...
ثم انتهى كل شيء في غمضة عين..
من شقوق الأرض أو من زواياها المظلمة أو من أحوازها البائسة أو من حاناتها الرخيصة طلع سرب من المراهقين سكارى ، يترنحون و يقهقهون..دخلوا الساحة النظيفة و اتجهوا نحوه ..تمترس خلف أنبوبه..صوبه نحوهم ..لم يتراجعوا .. اقتربوا منه أكثر.."اذهبوا..اذهبوا" ..لكنهم لم يذهبوا ..أخذ يرشهم بالماء..اهتاجوا.. أحاطوا به في حلقة ..قبض على الأنبوب بشدة : " تعالوا لأغسلكم من أدرانكم ، من فقركم ، من ضياعكم ! "- قالت عيناه-
و انقضوا عليه يحاولون أن ينزعوا من يديه أنبوب الماء..
قاوم ..قاوم بشراسة رغم ضعفه و قوتهم.
لكنهم أسقطوه !
كسر أحدهم زجاجة الخمر التي كانت في يده يلوح بها أمامه و غرسها في بطنه.
تدفقت سيول الدم من جسده..تمازجت مع الماء المتدفق فوقه..فروا تاركين المسكين قد خرجت أحشاؤه..
في غمضة عين انتهى كل شيء اذن...
صرخت...صرخت فأيقظت النيام...
فتحت الباب..خرجت كالسهم متجهة اليه : " كفاه قد أوغل الليل في صدره و أوغل في صدر الليل وحيدا، داميا ! "
جثوت أمامه..الدماء شكلت بركة حوله.. الماء توقف..السكون شامل.. وجهه للسماء..البدر فوق رأسه..مد يده اليه و هو يغمغم بشيء مبهم.. رجعت يده اليه تحمل القمر تضعه على صدره .. ابتسم و مات !
نزعت شالا يغطي كتفيك و وضعته عليه و قد أغمضت عينيه على دمعة يتيمة.
و قفلت راجعة تحت نظرات مبهمة وكل شيء في الصورة سواد غير نقطة نور :جثمان رجل طاهر يحرسه بدر تنازل عن مداره و جثا بالقرب من صديقه يبدد وحشته و يلازم وحدته..
رجعت لا تدرين أي اتجاه تأخذين فقد تجمعت الطرقات في خشوع عند جثة الحكيم..
رجعت و القلب هشيم و الدموع تسيل..
رجعت و الفضاء عاتم ، و الفضاء ساخر ، و الفضاء فارغ، عار من كل النجوم..
وهيبة جموعي
و تصمتين ...
لا تتنفسين ..تتوجسين خيفة من قلب يمكن أن يطلق أنة ..أن يكسر أمواج السكينة المفتقدة ..أن يمزق ستار الهدوء ..أن يحدث جلبة..
تصمتين طويلا و هو يمر تحت نافذتك يجر الخطو و يجمع طواعية ما تكدس على الرصيف من قاذورات.
على ظهره المقوس شوال من خرقة خشنة يضع فيه ما يلتقطه.و هو لا يلتقط غير كيس حليب فارغ ، علبة سجائر خاوية ، قشور فواكه ، أوراق جرائد مستهلكة ، قارورة ماء ناضبة ، عظمة عارية. و يمضي مترنحا تحت ثقله ينحني و يقف ، يركع و يقوم ..هكذا كأنه سيزيف لحقته لعنة الآلهة.
تصمتين طويلا و أنت تحسين بنفسك ممتلئة الى النقطة التي تقفين عندها ساهمة لا تشعرين حتى بالنسمات الباردة تعبرك الى النخاع و تهزك كالشراع.
" الوطواط " ! هكذا تسميه المدينة التي لا تبوح بأسرارها الا له ولا يسمع أناتها الا هو..
فهو من يحاول أن يفك حزام بؤسها ، هو من يحاول أن يغرقها في اليم لتطلع عروس بحر زاهية..
هو من تلفح أنفاسه تفاصيلها العارية ، و يلفحه سحرها الليلي يرمم فيه جروح الزمن و يفتح مسامات جسده للحلم..
موغلا في وحدته و في جنون فكرته عن العالم الذي يريد ، عن الأرض التي يشتهي كان يسير ، راح يسير، ظل يسير و غلالة رقيقة من نور الصديق تنثر عليه غبار الحب و تلفه في هالة من الجمال تجعل تجاعيده ترق ..ترق حتى تكاد تتلاشى ليصبح وجهه العجوز قرصا من نور.
حين شعر بالتعب جلس يأخذ أنفاسه على الرصيف و وجهه للسماء، و ذهب في تأمل غريب و مناجاة غرائبية و كأنه تحول الى تمثال يتشرب النور ويرى ما لا يرى.
لعله يحلم في جلسته تلك أن يكنس الغبار عن وجه القمر ليعيد له بهاءه الاول، رونقه الازلي ، جاذبيته الاسطورية .هو لا يعلم أن الاغنياء يسمسرون فيه ..هو لا يعلم أن الفقراء في سعيهم المحموم وراء لقمة العيش لا يرونه.و يحز في نفسه هذا النكران الفاقع لحبيب الشعراء و الطيبين .. لا يعرف أنه أصبح صفقة عند المستثمرين.
العجوز ..السقيم..مؤمن هو بأن المدينة حين تنقى من أوساخها ينحدر القمر ، يغير المدار ، يصبح أكثر اشراقا ، يضع صولجان النور على رؤوس الأبرار..مؤمن هو بقداسة مهمته، بضرورة وجوده كل ليلة في قلب المدينة ليعيش علاقته مع أشيائها و مع عليائها.علاقة تشكلت مع الطرقات المتربة و الزوايا المملوءة بالقمامة ، و تشكلت أيضا مع الليل و مع قمر الليل بدرا و هلالا، حضورا وغيابا.
و عاود السير من جديد..
و الشوال يثاقل على كتفيه..
و الخطى تنكسر ذات اليمين و ذات اليسار..
" يا رب موسى و عيسى و محمد اغفر لهم !اغفر لهم ! .."
متسربلا في وحدته أخذ يمد الخطو في الحارات و الازقة و عينك تتبعه حتى تلاشى كأنه رؤيا عابرة استفقت منها في الحين..
أنّ القلب أنينه..أنّ ..
جعلت نسائم الخريف تهزك كورقة جافة..
تشربت برودة العالم كله حتى ثملت و أنت في وقفتك تعبثين بقطع الليل و تعبث بك قطع البدر..لم تشعري حتى بالدموع تساقط على خديك..على فؤادك ..على أخمص روحك..
و لم تبرحي المكان..
النافذة مشرعة على شيء قد يكون..
غبت أم أسري بك الى أعالي الكون ؟
أين أنت ؟ في أي الاقمار؟
و عاد " الوطواط " الى حقل رؤيتك و قد عدت من بعيد...
تقدم من ساحة عمومية لا تبعد كثيرا عن نافذتك، فارغة الا من وحشتها و صمتها الليلي .. جعل في العين الواقعة في ناحية منها أنبوب بلاستيك و أخذ يرش المكان ..يرش..يدور..يرش : الماء..النظافة..النقاء..سطوة الفكرة الجميلة عن العالم الجميل..
و تملكه شيء من الزهو ثم الكثير من الزهو بما يفعل فلم يتوقف الا والساحة تقطر ماء و جسده يقطر ماء و الدنيا كلها تقطر في عينيه ماء طهورا.
نظر حواليه ..ماذا بعد ؟..لا زال يحس برائحة العفونة ..لف المكان..تعثرت قدمه في حصاة.. سقط على ظهره.. سقط الانبوب يدفق الماء على صدره ..سقط البدر في عينيه..ابتسم ..ابتسم و كاد يبكي من فرط النشوة !
" يا ليل ابك معه قمرك الذي لم يعد سوى عقارات تباع في السوق ! "– هل قلت ذلك؟-
لكنه في سورة هستيريا جارفة نهض ، صوب الانبوب الى أعلى و ضغط على فوهته ليقذف الماء عاليا في الأفق ..مد يده لينال القمر..ليغسله .."سأغسله بالماء و البرد و الثلج ليعود ناصعا كما كان فقد لوثوه بنظراتهم الطامعة و راودوه عن جماله"..ربما قالت دخيلته شيئا مثل هذا.
أطال في مهمته مأخوذا بما يفعل..في فورة جنونه خلته سعيدا ..خلته يبتسم..خلته في حوار مع الأشياء، فوحده يعرف لغة الأشياء. غير أن موجة الاشفاق التي اتجهت منك نحوه تحولت الى قلق عليه و قد أصبح مبتلا تماما و الأنبوب لا زال يدفق الماء عليه و حواليه و هو موغل في قلب الليل و البرد لا الأرض أرضه و لا السماء سماؤه و لو أصر على امتلاكهما.
...
ثم انتهى كل شيء في غمضة عين..
من شقوق الأرض أو من زواياها المظلمة أو من أحوازها البائسة أو من حاناتها الرخيصة طلع سرب من المراهقين سكارى ، يترنحون و يقهقهون..دخلوا الساحة النظيفة و اتجهوا نحوه ..تمترس خلف أنبوبه..صوبه نحوهم ..لم يتراجعوا .. اقتربوا منه أكثر.."اذهبوا..اذهبوا" ..لكنهم لم يذهبوا ..أخذ يرشهم بالماء..اهتاجوا.. أحاطوا به في حلقة ..قبض على الأنبوب بشدة : " تعالوا لأغسلكم من أدرانكم ، من فقركم ، من ضياعكم ! "- قالت عيناه-
و انقضوا عليه يحاولون أن ينزعوا من يديه أنبوب الماء..
قاوم ..قاوم بشراسة رغم ضعفه و قوتهم.
لكنهم أسقطوه !
كسر أحدهم زجاجة الخمر التي كانت في يده يلوح بها أمامه و غرسها في بطنه.
تدفقت سيول الدم من جسده..تمازجت مع الماء المتدفق فوقه..فروا تاركين المسكين قد خرجت أحشاؤه..
في غمضة عين انتهى كل شيء اذن...
صرخت...صرخت فأيقظت النيام...
فتحت الباب..خرجت كالسهم متجهة اليه : " كفاه قد أوغل الليل في صدره و أوغل في صدر الليل وحيدا، داميا ! "
جثوت أمامه..الدماء شكلت بركة حوله.. الماء توقف..السكون شامل.. وجهه للسماء..البدر فوق رأسه..مد يده اليه و هو يغمغم بشيء مبهم.. رجعت يده اليه تحمل القمر تضعه على صدره .. ابتسم و مات !
نزعت شالا يغطي كتفيك و وضعته عليه و قد أغمضت عينيه على دمعة يتيمة.
و قفلت راجعة تحت نظرات مبهمة وكل شيء في الصورة سواد غير نقطة نور :جثمان رجل طاهر يحرسه بدر تنازل عن مداره و جثا بالقرب من صديقه يبدد وحشته و يلازم وحدته..
رجعت لا تدرين أي اتجاه تأخذين فقد تجمعت الطرقات في خشوع عند جثة الحكيم..
رجعت و القلب هشيم و الدموع تسيل..
رجعت و الفضاء عاتم ، و الفضاء ساخر ، و الفضاء فارغ، عار من كل النجوم..
وهيبة جموعي