الإنسان يبحث عن المعنى، في عصر الوباء التقني البيولوجي، ويكاد يتلخص في شموليته في غريزة البحث عن البقاء، وليس شيئا أخر سوى البقاء، بشتى أنواع السبل الممكنة، والغير الممكنة، إنه لأمر طبيعي، وغير طبيعي في الآن ذاته، فمن طبيعة البشر دائما البحث عما يبقيهم أحياء، بالرغم من قضية الموت التي ترعبه وتهدد كيان وجوده في كل لحظة.
لقد سبق لمعظم الفلاسفة، خاصة في الفكر البيوإتيقي، أن توقعوا، ونبهوا، بل وشككوا، فيما قد تنتجه الثورة البيولوجية-التقنية من مشاكل أخلاقية-إنسانية، تهم مواضيع، الإجهاض، الاستنساخ، التجارب على البشر، الأبحاث التي تجرى على الحيوانات، البيئة، والأجنة والأنسجة البشرية، التبرع بالأعضاء وزرع أعضاء الحيوانات، الصحة العمومية والأبحاث الوبائية والحروب والأبحاث حول الأسلحة البيولوجية والكيمائية ... لقد صار اليوم، التقدم التقني-البيولوجي أكثر خطورة وأشد فتكا بالإنسان ذاته، وعلى غرار ذلك أيضا، فعلت التقنية بالطبيعة (البيئة- والحيوان)، لقد تجاوز البشر في عدوانيته أشد الحيوانات عدوانية وخطورة، فقد سبق للفيلسوف الألماني نتشه أن أشار لخطورة هذا التطور على الإنسان، حيث، عبر بقوله على ذلك، بأنه "يخاف أن تعتبر الحيوانات الإنسان كائنا من جنسها، فقد فطرته الحيوانية بأكثر الأشكال خطورة، أن تعتبره بمثابة الحيوان الغريب الأطوار، الحيوان الضاحك، الحيوان الباكي، الحيوان الذي مآله التعاسة."[1]
لقد انقلبت العلاقة الموجودة بين الإنسان والتقنية، فلم يعد الإنسان وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني هانس يوناس " هو الذي يستخدم تقنية معينة بل أضحت التقنية هي التي تنتج الإنسان،"[2] بل أكثر من هذا، غدت التقنية -البيولوجية، راهنا، تعمل على صناعة الموت كما الحياة، للإنسان نفسه. لعل راهن العقل التقني-الأداتي الرأسمالي المتمركز في المجتمعات الصناعية الكبرى على وجه التحديد خير مثال على هذا الحمق-التقني، المفرط في تقنيته، إنها تقنية مفرطة في تقنيتها إن جاز لنا قول ذلك. صحيح إن هذا الجنون البشري ليس وليد اليوم، إنه صيرورة تاريخية مستمرة من الإجرام التقني - خاصة البيولوجي منه، على البشرية. ولنا في تاريخ الجرائم البشرية أمثلة عديدة على تلك الوقائع الفظيعة. لكن كما أشرنا الذكر آنفا، إجرام راهن العقل التقني-الأداتي على أعظم رأسمال في الكون (الإنسان) بلغة ماركس. تجاوز كل التخوم الإنسانية ليصل به، إلى عالم اللا إنسانية المطلقة على مجمل مناحي الحياة الإنسانية برمتها ( إتيقيا، اجتماعيا، اقتصاديا، سياسيا ...) إنها الويلات الجديدة للقرن الحادي والعشرون، ربما، الطبيعة كما قال هيراقلطيس لم تهب الإنسان عقلا !!
لم يعد الوجود الإنساني في هذا العالم المعاصر سوى جسد متجرد من كل شيء،) إنه الوجود المتعري) وجود التجارب البيولوجية الخبيثة- المميتة،إنها أسلحة الحضارة المعاصرة،التي تطرح إشكالات إنسانية-أخلاقية مقلقة على العالم، فإلى أين يسير العالم يا ترى؟ وإلى أين يقودنا هذا التطور؟ ماذا يتوجب علينا أن نفعله؟ لقد سبق وأن أشار الزعيم النازي أدولف هتلر في الحرب التي قادها من أجل غزو العالم، "أن السياسة سوف تبقى عمياء دون أساس ولا هدف بيولوجيين،"[3] هنا تجلت الخطورة، وهو مايظهر كما أشرنا القول سابقا أن استعمال الأسلحة البيولوجية- الكميائيية، ليست وليدة الراهن، بل، أخذت مع الزمن، تطورا جنونيا مستمرا، لدرجة أنها أوصلت منتجها )الإنسان( إلى عدم القدرة على السيطرة على ما أنتجه بنفسه، وهاهنا تتجلى الخطورة القصوى التي تهدد البشرية جمعاء، لقد أصبح من الواضح، انطلاقا من الآن "أن التطور التقني ليس مجرد تطور متدرج، أو ليس تطورا مندرجا بشكل شامل، إنه ينطوي على انحطاطات خاصة وينتجها."[4]
إن هذا الإنسان العاقل/المجنون في الآن ذاته، حسب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، جعل العالم في الآن ذاته، يتقهقر داخل التقدم، ويتقدم التقهقر، ما معناه أن التقدم التقني -البيولوجي على وجه التحديد يرفع إلى السطح، الوحشية، تجاه الإنسان ذاته، في ظل غياب كابح إيتقي- قانوني، يحد هذا الإنسان المفرط في إنسانيته. إن العالم في الآن الواحد، في تطور وثورة وفي ذات الوقت في أزمة وتقهقر.
إن الأزمات الأخلاقية الكبرى التي يمر منها العالم، لا يمكن الفصل في فهمها عن السياق العالمي ذاته، كون أن العالم اليوم أصبح قارة واحدة، بفعل التطور العلمي- التقني الذي سار نحو العالم إلى خلق عالم الآلة المليونية بلغة إدغار موران وهذه الأخيرة كما يصفها موران ما هي إلا وحش عملاق يسير نحو الهوية الكونية أو نحو الوحش الكوني "إن هذا العالم الثاني هو عالم الآلة المليونية الجديدة. ويتسم ببيئة تقنية مافتئت تتقدم، مطورة باستمرار، مفاصله، وأجهزته، وتفرعاته ... تخضع هذه الآلة المليونية لإدارة نخبة دولية من القادة، والمديرين والخبراء، والاقتصاديين. ترتكز سلطة هذه النخبة كما يقول كرستوفرلاش على التحكم في المعلومة، والكفاءة الإدارية والتعليم التخصيصي رفيع المستوى. وتعيش النخبة الجديدة في عالم واقعه الوحيد هو الكم... تجهل أية فضيلة أخرى باستثناء إدارة المجتمعات المتطورة، والابتكار التكنولوجي، وعقلانية السوق."[5]
إن هذا التحكم التقني -الأداتي الذي يجتاح العالم كافة، أو هذا الوحش الكوني بلغة موران، الذي يسير بالإنسان نحو الكارثة العظمى، بل والذي يهدد مستقبل الإنسانية، وكذلك الذي يعمل على صناعة المصير المشترك بين دول العالم قاطبة، تحت قبعة نظام عالمي موحد، قد أيقظ الوحشية والعدوانية بأساليب جديدة، ناتجة عن جنون التقنية ذاتها، إذ أن هذه الأشكال الجديدة للوحشية كما يقول عنها إدغار موران " لم تفشل في تقليص الأشكال القديمة للبربرية، بل إنها أيقظتها واقترنت بها ."[6]
[1] نتشه فريدريك " العلم المرح" ترجمة وتقديم، حسان بورقبة- محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 1993، ص155.
[2] بوفتاس عمر "البيوإتيقا الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا" أفريقيا الشرق-المغرب 2011، ص 213.
[3] المرجع نفسه، ص133.
[4] موران إدغار "النهج انسانية البشرية -الهوية الكونية" ترجمة، هناء صبحي، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى 2009 .
[5] المرجع نفسه، ص281 .
[6] موران إدغار "إلى أين يسبر العالم" ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية ناشرون، الطبعة الأولى 2009، ص36.