انطلق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان من القول أن أسس نظرية العدالة العالمية تحددت صيغتها مع كبير فلاسفة السياسة المعاصرين وهو الأمريكي جون رولز، و جاء بها على طورين في كتابيه "نظرية العدالة" سنة 1961 و "قانون الشعوب" سنة 1999، فأفرد الكتاب الأول لمبادئ العدالة الأهلية أو الوطنية، وهي التي تنظم البنية القاعدية للمجتمع ومراده بهذه البنية القاعدية؛ المؤسسات الاجتماعية الأساسية بدءاً بالدستور وانتهاء بالأسرة و خصص الكتاب الثاني "لمبادئ العدالة الدولية" وهي التي تنظم العلاقات بين مختلف المجتمعات والتي ينبغي أن تلتزم بها كل دولة في سياساتها الخارجية.
وأوضح طه عبد الرحمان معاني الميثاق الآمنة عند رولز بإبرازه أن الفيلسوف الأمريكي المعاصر قد سلك في استنباط مبادئ العدالة الدولية نفس المسلك التعاقدي الذي اتبعه في استنباط مبادئ العدالة الأهلية، وقام هذا المسلك على مفاهيم مترابطة ثلاثة تكشف آثار التفكر في مذهب سياسي، وهذه المفاهيم هي مفهوم العقد الاجتماعي ومفهوم الوضع الأصلي، ومفهوم حجاب الجهل.
وفي مقاربته لمفهوم "العقد الاجتماعي" ذهب الفيلسوف المجدد إلى القول أن هذا المفهوم ؛ أعرف من أن يتوقف القول ها هنا، فلايزال الكلام يدور حوله مند هوبز ولوك وروسو وكانط... حتى أضحى معتقدا سياسيا رأسها ما لا يعرف عنه بالقدر الذي تعرف به وظيفته هو ما منشأه (منشأ مفهوم العقد)، إذ هو عبارة عن تظهير لمعنى ميثاق الأمانة السالف الذكر. والشاهد على ذلك أن هذا العقد أطلق عليه في الأصل اسم الميثاق، نقلا من كتاب الثوراة وأريد به عهد إفتراضي سابق على التاريخ وعلى المجتمع وعلى السياسة، عهد يحدث تحولا جدريا يبدأ معه تأريخ الإنسان وتدبير المجتمع وتنظيم الحكم، لذلك كان هذا التحول البنيوي الذي ينقل الإنسان إلى الحالة التعاقدية بمثابة تظهير لتحول معنوي الذي نقله إلى الحالة الميثاقية.
ويرى طه عبد الرحمن أن رولز وجد في العقد الاجتماعي أفضل صيغة لبناء نظرية العدالة لاعتقاده أن العلاقات الإنسانية صبغة اجتماعية راسخة تتجلى في تعاون و تبادل المنافع، والراجح أن هذا الاعتقاد بقدر الجماعة البشرية يرجع إلى بالغ تأثره بمعنى الجماعة الروحية في المسيحية. و يقر بصحة القول أن مفهوم الجماعة البشرية عند رولز عبارة عن تظهير لمعنى الجماعة الروحية.
وقدم الفيلسوف المغربي الدليل على ذلك، بقوله إن رولز قد أنجز قبل تجنيده في الحرب العالمية الثانية رسالة جامعية بعنوان:"بحث وجيز في معنى الخطيئة والإيمان: تأويل مؤسس على مفهوم الجماعة" وكان رولز حسب طه عبد الرحمان يأمل أن يتابع دراسته اللاهوتية لكي يصبح كاهنا، ولئن كان قد إرتد عن دينه بعد هذه الحرب فإن آثار هذا المعنى الروحي للجماعة ظلت نافذة في نفس رولز، فبنى نظريته على مفهوم الجماعة باعتبار أنها أساس العدالة.
وانتقل طه إلى مقاربة مفهوم الوضع الأصلي الذي يعد بالنسبة إليه تظهير لمعنى الحالة الائتمانية. فإذا كان العقد الاجتماعي يفترض وجود حالة طبيعية التي هي حالة حرب أو حالة فوضى، فإنه يفترض عند رولز وجود ما يسميه "الوضع الأصلي" على أنه حالة افتراضية، مجردة يتحقق فيها كمال الاستواء بين المتعاقدين، إذ يكونون جميعهم عقلاء وأحرار ومتساوين، حيث يستطيعون أن يتوصلوا في مداولاتهم إلى مبادئ عدلية تتمتع بحالة الاستواء التي يتمتعون به وقد سماها "عدالة الاستواء"، ويصف المتعاقدين الذين اهتدوا إلى مبادئ هذه العدالة بوصفهم أمناء، إذ يقول رولز :"إن المتعاقدين باعتبارهم ممثلين لمواطنين أحرار ومتساوين يتصرفون تصرف الأمناء أو الحراس، فمسؤوليتهم.. كأمناء على المواطنين لا تسمح لهم أن يقامروا بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنين"، وهكذا يتبين حسب طه أن الوضع الأصلي هو بالذات الحالة الائتمانية.
وفي حديثه عن المفهوم الثالث عند رولز وهو ما يسميه" بحجاب الجهل"، ذهب طه إلى أن هذا الحجاب يتصور ويفترض حجابا عبارة عن ستار يحجب عن المتعاقدين معرفة كل ما يمكن أن يخرجهم عن نزاهتهم ويؤثر في اختيار مبادئ العدالة، سواءً كانت وقائع أو مصالح أو معلومات؛ فهم مثلا لايعرفون أعراق المواطنين ولا مزاياهم الطبيعية ولا ثرواتهم ولا مداخلهم ولا تصوراتهم للحياة الطيبة، كما لا يعرفون النظام السياسي لمجتمعهم، ولا وضعه الاقتصادي ولا بنيته الطبقية، كل ما يعرفون هو أمور جد عامة تتعلق بطبيعة الحياة الاجتماعية من حاجات أولية وندرة في المواد، فضلا عن بعض المعارف العلمية. ولا يخفى أن هذا الحجاب الافتراضي هو الآخر عبارة عن تظهير لوصف حالة التجرد الذي قام به الإنسان في الحالة الائتمانية، وإذا كان في هذا الحال له مصالح و أغراض، و ليس هذا فحسب، فان رولز يعتبر أن هذا الحجب ينقل المتعاقد إلى رتبة الطهارة الأخلاقي. و عندما نحجب بين المتعاقدون في هذا الوضع الأصلي، فإن تجردهم يجعلهم يخرجون إلى حالة من الطهارة الأخلاقية، لهذا يقول رولز:"هذا الحجب يجعل المتعاقد يرقى إلى رتبة الطهارة الأخلاقية التي تجعله ينظر إلى الأشياء بمنظور الخلود" ويضيف قائلا:" إن منظور الخلود ليس منظور من مكان خارج العالم ولا وجهة نظر لكائن متعالي، وإنما هو شكل من أشكال الفكر والشعور، الذي يمكن للكائنات العاقلة أن تتخذه في داخل العالم نفسه. إن طهارة القلب لو أننا نحصّلها لكنا نرى ما نراه بوضوح ونعمل بكياسة، وضبط للنفس انطلاقا من هذا المنظور". هاهنا نجد طه يوضح الكيفية التي يسلكها رولز في استعماله للمفاهيم الإيمانية في بناء نظرية تعاقدية تطهيرية.
وبعدها انتقل بنا الفيلسوف المجدد إلى ابراز مبادئ العدالة الأهلية عند الفيلسوف الأمريكي رولز، حيث تحدث عن مبدأ الحرية الأساسية الذي يقتضي أن يكون لكل فرد الحق في أوسع قدر من الحريات و أن يكون متوافقا مع نظام الحريات الخاصة.
وتحدث بعدها عن المبدأ المتعلق بالفروق الاجتماعية والاقتصادية الذي يقضي بإقامة شرطين:
أحدهما؛ أن تتعلق هذه الفروق بوظائف أو أوضاع تكون متاحة للجميع.
وثانهما؛ أن يتم تدبير هذه الفروق الاجتماعية والاقتصادية بما يجعلها في صالح أقل الأفراد حظا.
ويرى أنه حتى إذا فرغ من تحديد مبادئ العدالة الأهلية، انتقل إلى المرحلة الثانية في استخدام الوضع الأصلي للتوصّل إلى مبادئ العدالة الدولية التي تضبط التعامل بين المجتمعات الديمقراطية الملزمة بمبادئ العدالة الأهلية، فأنزل ممثليها وضعا أصليا أيضا يحجبون فيه. وتوصل إلى ثمانية مبادئ مألوفة في القانون الدولي ما عدا المبدأ الأخير.
ويقول جون رولز :" هذه مبادئ شعوب حرة و مستقلة :
_ يجب على الشعوب الأخرى أن تحترم حريتها واستقلالها.
_يجب على الشعوب أن تحترم المعاهدات والالتزامات، فالشعوب متساوية وهي أطراف في الاتفاقات التي تلزمها.
_يجب على الشعوب أن تراعي واجب عدم التدخل.
_ يجب على الشعوب أن تدافع عن نفسها.
_لا يحق لها أن تدخل في الحرب لأسباب أخرى ما عدا الدفاع عن النفس.
_يجب على الشعوب أن تحترم حقوق الإنسان.
_يجب على الشعوب أن تحترم القيود الخاصة بسير الحرب.
_يجب على الشعوب ان تساعد الشعوب الأخرى التي تجتاز ظروفا غير مواتية تحرمها من نظام اجتماعي وسياسي عادل.
هذه هي مبادئ العدالة الدولية".
وينتقل بعد ذلك للمرحلة الثالثة ليستخدم الوضع الأصلي للتوصّل إلى مبادئ العدل التي تضبط التعامل بين المجتمعات الغير الديمقراطية ويخصها بوصف "المجتمعات التراتبية" على خلاف المجتمعات الديمقراطية التي سماها "المجتمعات الحسنة التنظيم"، و لا يتوقف حسن التنظيم على تحصيل التصور العام للعدل والعمل بمقتضاه واحترام القوانين. ويرى رولز أن الوضع الأصلي المتعلق بالتعامل بين المجتمعات التراتبية يوازي الوضع المتعلق بالتعامل بين المجتمعات الليبرالية، لذلك فإن المتعاقدين التراتبيين المحجوبين في الوضع الأصلي، حجب عنهم المتعاقدون الليبراليون لأنه ليس لهم أي داع يدعوهم إلى الانصراف للمبادئ العدلية الليبرالية، ويضرب مثالا ب المجتمع الإسلامي.
ان رولز حسب طه عبد الرحمان استفاد من تكوينه اللاهوتي الأول، في استثمار عناصر ميثاق الائتمان العابر للأديان في انشاء نظرية تعاقدية للعدالة مستبدلا مفهوم العقد بمفهوم الميثاق، ومفهوم الوضع الأصلي بمفهوم الحالة الائتمانية ومفهوم المتعاقد بمفهوم المؤتمن ومفهوم حجاب الجهل بمفهوم التجرد الائتماني ومفهوم العدالة الدولية بمفهوم العدالة الكونية.
ويعتبر طه أن هناك معاني ميثاقية أخرى جعلها رولز الأساس الأخلاقي المشترك الذي أقام عليه نظريته التعاقدية وهذه المعاني؛ هي الصدق والمساواة والحرية والحق والعدل، وقد يقول بعضهم أن هذه القيم إنسانية خالصة يسلم بها الجميع فلا يمكن اعتبارها قيم تفكريّة وإنما هي قيم تفكيرية. والجواب على هذا الاعتراض يتمثل في أن الوصف العقلي لهذه القيم لم يُتوصل إلى ادراكه إلاّ من جهة الدين فقد لزمت هذه القيم الإنسان ملازمة الدين له، فتكون بالتالي ملازمة للين.
وقد تبصر رولز بحسب طه بهذه العلاقة الأصلية بين الأخلاق والدين، و لم يكن يتصور أنه سوف يغيّر مساره اللاهوتي الأول ويشتغل بالفلسفة السياسية. إذ عبر عن ذلك في بحثه الجامعي قائلا:" إن المواقف الأخلاقية والدينية متشابهة لان كلتهما تتولى إنشاء الجماعة، فلا يمكن أن يكون هناك فصل بين الدين والأخلاق، لأن المسائل التي يشتغلان بها تندرج في نفس النسيج من العلاقات، أي العلاقات التي تجمع بين الذوات الموجودة في الكون سواء كانت في السماء أو في الأرض"
ولئن كان رولز قد أسس العقد الاجتماعي على هذه القيم المشتركة (الصدق، المساواة) فقد لزم أن تكون مبادئ العدالة التي توصل إليها المتعاقد في الأوضاع الأصلية الثلاث مبادئ حاملة لآثار التفكر الميثاقي لانها هي أصلا، أصلها ميثاق.
و هاهنا يطرح طه عبد الرحمان السؤال التالي: هل بعدا هذا نعجب أن يضمن رولز مبادئه العدلية، مبدأ لم يتقرر في العلاقات الدولية المعهود وهو المبدأ الذي يقضي بإعانة الشعوب التي يسميها "الشعوب المثقلة" حتى ترقى إلى مرتبة شعوب يحسن تنظيمها؟. فالعون خلق رفيع لا ينازع في أصله التفكّري الا مكابر إذ أصله أن ما بيد الإنسان ليس ملكا لنفسه وإنما هو وديعة لغيره.