نبذة مختصرة عن المحاورة :
تبدأ المحاورة بوصول كل من سقراط و شيريفون إلى منزل كاليكلس لحضور جلسة من جلسات جورجياس .وذلك رغبة من سقراط في التحدث إليه .ولكي يطرح عليه الأسئلة، كعادته .
و تدور المحاورة بشكل أساسي بين كل من سقراط و جورجياس و بولوس و كاليكلس .و موضوعها باقتضاب عن فن الخطابة أو (البيان) و الإقناع و العدالة .و قد حاول سقراط فيها بوصفه -الفيلسوف المحنك- إحراج محاوريه بقوله أن العدالة هي فضيلة و أن من يتصف بها هو بدوره فاضل لأنه لا يرتكب الظلم ،وأن أشقى الناس هو من يرتكب الظلم -لا من يمارس عليه الظلم- فهو سيعاني مع نفسه .
تنتهي المحاورة بخرافة عن العذاب الذي يتلقاه الظالمون غير العادلين و الطغاة في العالم الآخر من طرف الآلهة .
تحليل المحاورة :
إن الحب الذين نكنه لشخص معين ،أحيانا، قد يعمينا و يجعلنا لا نرى سلبيات هذا الشخص و عاداته والسيئة و أخطاءه و عموما جانبه "الفاسد" .و لعل هذا ما وقع مع أفلاطون حين حاول أن يقدم لنا سقراط بصورة مثالية ،صورة ذلك الملاك الطاهر الذي لا يبغي إلا معرفة الحقائق و إكتشاف الأمور كطفل بريء .و لعل القارئ تنطبع لديه هذه الصورة في البدء أيضا، فتتشكل عنده هالة من القدسية حول شخص سقراط ،و سبب ذلك أنه يدرسه بنفس روح أفلاطون المحب العاشق .
لكننا هنا و على غير العادة لن نفعل ذلك ،اليوم لن نقف في صف سقراط ،سنقف مقابلين له .و بالتالي سنقف ضد الخطاب الفلسفي أيضا، مدافعين عن الخطابات الأخرى ،في شخص الخطاب السفسطائي .
و ليس هناك أفضل من محاورة جورجياس لفعل ذلك .
بداية كل ما أراد سقراط معرفته من محاوريه ،هو الوصول إلى تعريف لهذا الفن الذي يعملون به، و هو "البيان" أو الخطابة ،و معرفة كذلك فضيلته الخاصة و طبيعته وموضوعه و فائدته .لكنه وجد نفسه يبحث عن تعريف العدالة و الظلم و الحديث عن أشياء لا علاقة لها بالموضوع الأساس للمحاورة .إنها عادته السيئة الأولى، في الخروج عن الإطار و الشرود بعيدا ،وهذا لا ينطبق إلا عليه وحده فقط ،فهو يلزم الآخرين بالاقتضاب و عدم الإسهاب والإطالة ،فنجده يطلب من جورجياس و بولوس الإيجاز بحجة أن هذا الأخير لا يزال يتدرب على الخطابة و إتقانها ،لذا لا يجب أن يطيل الكلام لأنه لا ينصب على جوهر الحوار. و لعل سقراط ينسى نفسه هنا، فكما أشرنا هو يفعل ذلك و يأخذ طرقا ملتوية في البحث عن الجواب ويجر مواضيع عديدة و يربطها في سلسلة طويلة –تكون أحيانا غير محكمة- .
و ذلك هو نفس ما يفعله الخطاب الفلسفي في حواره مع الخطاب السفسطائي ،إنها محاولة الحط من قدر هذا الأخير و إظهاره بمظهر الخطاب الفارغ ،عديم الجدوى، المشتغل على التلاعب بالكلمات و الألفاظ و الإقناع ،و المتحدث في جميع المجالات و الاختصاصات ،و الحق أنه حتى لو كان كذلك، فالخطاب الفلسفي غير ببعيد عنه، أليس هو كذلك المشتغل بالكلمات ؟ أليس هو كذلك هدفه الإقناع، و إلا لم يأخذ سقراط وقتا طويلا في الحديث مع محاوريه و يعصر عقله و يستحضر سيلا من الأمثلة و القصص ؟ أليس هو كذلك المتحدث في جميع الاختصاصات من العلم إلى الطبخ و الطب و الرياضة ؟ أتراه سقراط قد كان عالما و طباخا و طبيبا و رياضيا ؟ قطعا لا. و لكنه يعطي لنفسه حق الكلام في كل شيء.
إنه التعالي السقراطي الذي تطبع به الخطاب الفلسفي، و نجد هذا التعالي كذلك في عدة أماكن من المحاورة .فحين يقول لمحاوره جورجياس مثلا "إذا كنت رجلا من طرازي فسيسرني أن أمضي في مساءلتك" و في موقع آخر من المحاورة "فلنتحدث إذن إذا كان هذا هو طبعك أيضا" .قد يظهر هنا سقراط بمظهر المتواضع الذي يحط من قدر نفسه أمام جورجياس ،و لكن هيهات أن يفعل ،إن مقصده من خلال السياق ،كان أن جورجياس لا يقدم ضحدا كافيا لحجة سقراط بل ولا يتساوى معه .
إن سقراط لا يعتبر نفسه بالتأكيد مخطئا ،ولهذا نجده يقول بعد الجملة السابقة "ليس هناك في الواقع ما هو أشد سوءا للإنسان ،فيما أرى، من رأي خاطئ عن الموضوع الذي نتكلم عنه " ،و كذلك حين قال "أما إذا كنت تعتقد العكس و أن الأفضل هو ترك المناقشة، فلنقف هنا و لينته الحديث" ،إن هذا لا يزيدنا إلا تأكيدا على أن سقراط كان ينظر بنوع من التحقير لمخاطبه ،أي أنه مقتنع بكلامه هو و ليس في حاجة لإكمال الحوار مع جوجياس بل هو في إكتفاء عنه ،إنه يعلم إلى أين سينتهي الحديث ،و عليه فبقية الكلام شيء ثانوي أو أقل و لن تضيف له شيئا ،أي هناك ثقة كبيرة في خطابه . و هذا شيء آخر أخذه الخطاب الفلسفي من والده ،إنه الثقة و اليقين في صحة أجزائه و مكوناته ،فمهما قال الخطاب السفسطائي لن يكون بقوة خصمه و لن يرقى إلى مستواه ، و كذلك لأن ما يكتشفه هو تافه بعيون الفلسفة -و لكننا قد نكتشف العكس- .
و تجدر الإشارة إلى شيء بسيط لوحظ في خضم القراءة ،حين فكر جورجياس في الناس الذين قد يشغلهم عن أمورهم و عدم رغبته في تعطيلهم عن قضاء مصالحهم، قد لا يلتفت الجميع إلى هذا و يمر عندهم مرور الكرام ،و لكن تظهر هنا صفة من صفات السفسطائي والخطاب السفسطائي ،و هي التفكير في الآخرين و رعاية مصالحهم و الاهتمام بهم و هذا ما لا نلمسه في كلام سقراط و في الخطاب الفلسفي ،ببساطة لأن كلامه و منصب على ذاته فقط ،و هذا واقع الخطاب الفلسفي اليوم ،إنه منعزل بنفسه ينظر من فوق عليائه إلى الناس و يقول من يريدني فل يأتني راجيا ،إنه يبني حوله حصنا و يقف على برج عاجي من المصطلحات و المفاهيم المعقدة التي أخذها من مجالات أخرى و يدعي أنها له .
و هذا هو سبب ابتعاد الناس عن الفلسفة ،إنها روح التكبر و اعتقادها بأنها تحسن صنيعا بدون احتياجها من تطلق عليهم "العوام"، و الإدعاء بأن القلة هم فقط من يستطيعون فهمها .و لهذا السبب بالذات لا توجد فلسفة شعبية مندمجة مع الثقافة الإنسانية .
كما و أن الفلسفة تحب الظهور بمظهر العارف بكل شيء، كما سبقت الإشارة، فنجد سقراط في المحاورة هو من يطلب من بولوس أن يسأله عن إلى أي نوع من الفنون ينتمي فن الطهي ،و هنا سقراط لا يبتعد عن منطقة راحته ،بمعنى أنه يتحدث في شيء يزعم بأنه يعرفه .و هذا الزعم هو ما يميز الفلاسفة عن الناس المزاولين لنشاطات أخرى ،إن الفيلسوف لا يعرف قول أنا لا أعرف .فحت قولة سقراط الشهيرة "كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا" هي إعتراف من سقراط بالمعرفة . إن الخطاب الفلسفي لا يعرف متى يتوقف ومتى يصمت ،فما يكاد ينهي جملة حتى يردفها بكلمة "و لكن" ،ثم ينطلق في موضوع آخر ببعد آخر .
و لعل هذا هو ما أزعج كاليكلس من سقراط، بحيث قال لجورجياس "إن سقراط هو سقراط ،لا يتوقف عن طرح الأسئلة الصغيرة التي يضحدك بها " ،نفهم من كلام كاليكلس أن سقراط ليس هدفه هو البحث عن التعريفات الدقيقة كما نظن ،بل الهدف هو محاولة ضحد حجج الخصم بأساليب وأسئلة فرعية ملتوية، و لو أخذ ذلك منه اليوم بطوله .إن الهدف في إعتقادنا الشخصي هو ’’نزع الإعتراف’’ ،نزع الإعتراف من الآخر بأي شكل ممكن و عدم التعرض للخسارة بأي وجه كان .وهذا ما يفسر إستمرار سقراط في الكلام لوحده بعد أن ضاق به كاليكلس ذرعا ،فقد حاول أن ينصحه بالتخلي عن فلسفته هذه لأن لا طائل من ورائها و أنه قد كبر على مثل هذه الأمور فهي أمور تلاءم الشباب اليافعين ،و أنه بفلسفته هذه لن يجني شيئا ،فهي لن تنفعه إذا ما أقام أحدهم ضده دعوى في المحكمة ،فهو لن يستطيع حتى الدفاع عن نفسه ،بل قد يغرق نفسه أكثر ،و يودي بحياته للموت. و كأن كاليكليس بكلامه هذا قد إطلع على مآل سقراط و عرف ما كان ينتظره من لدن أنتيسون .
للختم على هذه القراءة في محاورة جورجياس ، نقول بأن الأمور في ظاهرها قد لا تفهم بالشكل الصحيح ،و كذلك التأويل الخاطئ لا يضعنا على الدرب السليم ،لذا فهذه القراءة ما هي إلا شذرة من شذرات متعددة ،فيها من القبول ما فيها من الرفض ،و لكن هناك رغبة ملحة في قول التالي :
يمكن أن نمكر مع قولة العرب الشهيرة ،الولد سر أبيه ،بأن نصوغها كالتالي: الفلسفة سر سقراطها .