لقد أفضت موجات الحداثة المتتابعة الى تقدم هائل في العلوم الطبيعية لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين ، ولم يعد من السهولة بمكان قياس قدرات الأنسان في السيطرة والتحكم بالطبيعة وتجييرها لصالحه .. فضلاً عما تحقق من تقدم ورقي في مضامير الحضارة والثقافة .. يعد طفرة أفتراقية هائلة عن مرحلة القرون الوسطى .. أنجلت عن تطور نوعي كبير تمخضت عنه (( حياة أجتماعية مترفة تصوغها أنظمة قانونية ونظريات معرفية )) لكن هذا التطور الكبير بأدواته التكنولوجية الجبارة ، لم يخلق التوازن النفسي المطلوب للجنس البشري ، وبالتالي لم يوفر للأنسان بحبوحة السعادة المرتجاة .. رغم هذا الترف والثراء الفاحشين .. أن هذه الأنجازات العلمية كلما حققت تقدماً أكبر كلما أفرخت مخاطر تهدد سعادة الأنسان وتنغص سلامة البيئة .. ذلك أن الأنسان الحداثي أتجه بكليته الى العلوم الطبيعة ، وفي غمرة أنغماسه في مد التقدم التكنولوجي غفل أو تغافل عن المعارف الأخلاقية والفلسفية .. مما أوجب ضآلة في نمو العلوم الأجتماعية إذا ما قيست بالعلوم الفيزيائية .. الأمر الذي قضى بحدوث صدع بين الفلسفة والعلم .. ولعل عجز العلم عن أن يجعل من تقدمه خيراً عميماً للأنسان ، يجنبه آثاراً جانبية مؤذية للأنسانية ، أنما هو وليد ذاك الصدع .. يقول لويس دي بروليه : (( نشأ في القرن التاسع عشر حاجز بين العلماء والفلاسفة . فالعلماء ينظرون نظرة شك الى تأملات الفلاسفة التي كثيراً مابدت لهم وقد أعوزتها الدقة في الصياغة كما أنها تدور حول قضايا عديمة الجدوى ولاحل لها . أما الفلاسفة فلم يعودوا بدورهم مهتمين بالعلوم الخاصة لأن نتائجها كانت تبدو محدودة . ولقد كان هذا التباعد ضاراً بكل من الفلاسفة والعلماء )) .
كانت الفلسفة تشمل في أول الأمر كل العلوم .. إذ بدأ الأنسان يتخذ موقفاً عاماً إزاء الطبيعة والمجتمع وذاته ، وينطلق من نظرة كلية .. ولاينظر اليها كمجموعة اجزاء مغلقة .. حيث ظهرت المذاهب الفلسفية الكبرى سواء كانت المثالية ام المادية .. غير أن تطور الحضارة وكثرة المعارف وأزدهارها تطلب المزيد من التخصص والتفرع .. الأمر الذي أنتهى بالعلوم الى الأستقلال عن الفلسفة تدريجياً .. ونحىّ كل علم للبحث في حقل ما من حقول المعرفة .. فشاع أثر ذاك تصور يقضي بعدم جدوى النظرة الكلية .. وغياب شمسها .. وفناء دهرها .. بيد أن الحاجة الى الفلسفة ونظرتها الكلية قائمة وستبقى مثلما كانت في الماضي لأن العلم أثبت عجزه عن ان يقوم بمهمة هو أجنبي عنها ، أو يعتوره القصور في إنجازها .. حتى أمست عصية عليه ، حيث (( لايكتفي الأنسان لرؤية الصورة كاملة بمهمة العالم ، لابد من الفيلسوف )) .. فالأنسان في أبعاده ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، لايمكن للعلم أن يكوّن له رؤية كلية عن تلك الأبعاد ، إذ أن كل علم يعمل في ميدان تخصصه وحسب .. لذلك تبقى الحاجة مسيسة الى الفلسفة بله تاريخ الفلسفة لأنجاز ذلك .
لعل تكريس الأهتمام بالعلم خلق أجيالاً متفوقة في تفجير الطاقات وممارسة التقنية .. بيد أن أهمال المباديء المنطقية جعل من تلك الأجيال عاجزة في فهم العلم .. (( أن حالة الأوتوماتية اللاواعية التي يجد العلم نفسه غارقاً فيها اليوم أنما ترجع الى أفتقاده طوال تاريخه لمدرسة نقدية تعمل من خلال الحركة العلمية نفسها )) .. فأكتساب المعارف العلمية ليست عملية تتغيا التنعم والتلذذ بقدر ما هي صيرورة معرفة الأنسان في الحقائق والأنطلاق بها صوب المباديء والقيم .. إنها خطى حثيثة من سيرورة تتخللها وتلازمها إحالات مستمرة تدفع المعرفة وتحولها الى أقتدار ، يقول الفريد نورث هوايتهد : (( أن المثل الأعلى للجامعة لايتمثل في المعرفة بقدر ما يتمثل في القدرة . أنها مهمة أن تحول معرفة الأولاد الى قدرة الرجال )) .
ما يواجه العلم وهو يغوص في الحقائق الجامدة غير المحدودة بل والعصية ، يعد أشكالية في كيفية الربط بين هذه الحقائق الخرساء .. مالم يجنح الى أبستمات ربما لم تكن مادية المبتنيات . أنها العودة الى المباديء المجردة /الفلسفة .. هذا المشكل الأبستمولوجي الذي يحقق تفكيكه للأنسان توازنه العقلي (( لأنه الملح الذي يحافظ على حلاوة الطعام )) .. من خلال الفهم الكامل لمباديء العلوم الطبيعية مقترناً بفهم المباديء والقوانين السيكولوجية والأجتماعية .. فالأطروحات الوضعية باتت تتهدد الثقافة الغربية الحداثية .. والتي صنعت الأنسان التقني المتفوق ، لكنها ربما تحوله الى أنسان بدائي يحيى في عالم يشكل الذروة في التقدم العلمي الغربي : (( أن العلم نفسه – وهو منبت حضارتنا – يحوله الى ( رجل جملي ) ويجعل منه بدائياً وهمجياً )) حسب تعبير الفيلسوف الأسباني أورتيجا . ي . جاسيت .
لقد أضفى العلم من خلال التقنيات المستحدثة والناجمة عن التقدم المثير .. على حياة الأنسان الكثير من البهجة والأنتشاء والأنغماس في الملذات والترف بأستخدامه لتلك التقنيات كالتلفزيون والحاسوب والستلايت والأنترنيت .. الخ ، لكنه في ذات الوقت لم يبعد عنه شبح التعاسة ، ولم يجنبه المكاره .. بل زجه في أحيان كثيرة في مخيمات الأتراح . خذ مثلاً قوة العلم في الطاقة الذرية .. والموجات الأستعمارية والأستيطانية القائمة على أساس الأستغلال والأخضاع .. وهنا فأن العلم يثير مشكلات أخلاقية عويصة .. لذا فانه بحاجة ماسة الى فحوى أنساني وقيم روحية وجمالية رفيعة ، وما أحسب ان ذلك بكائن إلا مع الفلسفة التي تعمل على ترويض العلم والتقليل من غلوائه وجعله أبداً في خدمة الأنسانية لاوسيلة للدمار والخراب .
قد يعيب البعض على الفلسفة فشلها في أن تحل أياً من المشاكل التي تعتريها لاسيما ( الميتافيزيقية ) .. لكنه (( لمن العبث حقاً ان نتصور أنتهاء الفلسفة في عالم لاينتهي فيه شيء ! وإلا فليقل لنا خصوم الفلسفة هل كتب اللحن الأخير ؟ هل رسمت اللوحة الأخيرة ؟ هل إخترعت الآلة النهائية ؟ وهل أقيمت التجربة النهائية ؟ )) .
أن ظهور الأشياء الجديدة في كل لحظة أمر مفروغ منه .. وقائع جديدة وأفكار مستحدثة ومعرفة متسعة .. وتأويل الأفكار بتنظيم وتركيب جديد .. واعادة بناء وأنتاج جديد أمر ضروري لتطور الحياة والكون .. يقول كروتشه : (( قيل أن الفلسفات تناقض بعضها بعضاً ، وحتى لو صح هذا فهل من يستطيع القول بأننا لانحتاج الى بيوت طالما أن البيوت التي تبنى تهدم ، ثم تبنى من جديد ؟ ! )).
يهتم العلم بالظواهر فيما تركز الفلسفة على كنه الأشياء أي حقيقتها .. لكن يمكن القول أن العلم هو الاخر يتيح لنا معرفة الحقائق فضلاً عن أن كل معرفة مهما كانت عادية فأنها يمكن أن تقربنا من الحقيقة .. إلا أن نتائج العلوم تعتبر هي اوثق معرفة نملك .
فإذا كان العلم يعطينا الحقائق فأن الفلسفة تعنى بالقيم ، يقول باترك : (( ليس من شغل العلم أن يدرس المعاني والقيم والمدح أو الذم ، ولما كانت اهدافنا العليا تعتمد على هذه القيم والمعاني ، فان العلم يجب أن يجهز الفلسفة ، مثال ذلك السيارة لها جانبها العلمي ، أسبابها الفيزيائية وقوانين الديناميكا ، التي تهم عدداً قليلاً من الناس ، ولها جوانبها الأخرى المتعة والأمتاع ، اللذة الجمالية ، فائدتها العلمية ، والصحية ( الهواء الطلق ) وتمتع العائلة ، ولها قيمة أجتماعية ، ولها دلالتها الأجتماعية كالمركز والدور . أن هذه الجوانب ماتهم أكثر الناس . وهكذا فالحياة يجب أن تفسر لا أن توصف فقط. )) .