"لقد مات التأويل ونشأت التأويلات"
"إن الإقرار بأن كل فهم يتضمن حكما مسبقا هو إقرار يمنح المشكلة الهرمينوطيقية قوتها الحقيقية"[1]
ما من شك في أن قضية التأويل هي من أعقد المسائل وأكثرها إثارة للجدل عند القدماء والمحدثين على السواء وذلك لارتباطها بمحاور على غاية من الأهمية وتأثيرها في مواضيع حساسة يتداخل فيها الدنيوي بالمقدس والفقه بالسياسة والأخلاق بالعلم والتنظير بالتطبيق وأزمات السلطة بطموحات الرغبة.
ومن البين أن الحديث عن فكرة التأويل وتطور المفهوم والتطرق إلى مناهج البحث فيه من طرف مختلف الاتجاهات الفكرية مهما تفرقت مشاربها لم يعد أمرا مخفيا ومتعذرا أو مؤجلا بل صار حديث الساعة ومطلبا حيويا وحاجة أكيدة وذلك للأخذ بالأيادي المنتجة وإضاءة عقول الناس حتى يتمكنوا من فهم أمور دنياهم ويتدبروا شؤون عالمهم ولمساعدتهم في سعيهم للكشف عن مواطن الخلل في نظرتهم إلى أنفسهم والى من حولهم وتفادي الوقوع في الأخطاء التفسيرية لنصوصهم وأيضا من أجل شد أزرهم في عملية البحث عن حلول مناسبة لمشاكلهم الصعبة وتحدياتهم المستعصية.
ولا تحاول الهرمينوطيقا بماهي فن في التأويل الوصول إلى الفهم الصحيح للنصوص المقدسة كما يتبادر للأذهان فحسب بل هي تجعل من كل التجارب التي يخوضها الإنسان في حياته نصا وتعمل على تحويل هذه النصوص إلى أفعال وحركات ثورية في التاريخ ومقامات وجود وتتيح فرصة التأمل الناضج والعقلاني لكل دين وتقترح إصلاحا مناسبا للطرق التربوية والمناهج التفسيرية . كما أن هذه الصناعة الشريعة والفكرة اللطيفة تسعى إلى مواكبة التطور الثقافي وتتكيف مع التغير الذي يطرأ على نظرة الإنسان إلى الكون وتدعو إلى ضرورة الانفتاح على المستجدات وتشارك في كل توجه يقصد بناء الحضارة ويرتقي بالفكر نحو معايشة الواقع والتعبير عن جوهر التغيير المادي والنفسي والأخلاقي.
والجدير بالملاحظة أن التأويل شهد تطورا كبيرا في العصر الحديث في جهازه المفاهيمي وأسانيده المرجعية وعرف اجتهادات كبيرة تمكنت من عرض المقاصد والمعاني على محك التثبت التجريبي وتنزيل النصوص في السياق الملائم لها والاهتمام بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية وفك رموز الجوانب الأسطورية والقصصية والتخييلية والاعتبار من وجوه التصوير والإعجاز وأسرار التكليف واستيضاح المراد من الاستخلاف.
لكن لو أمعنا النظر مليا واستنطقنا الأمر وقلبناه على جميع وجوهه نجد حقيقتين ساطعتين:
- أن علماء التفسير يمارسون التأويل بصورة مذهبية ودون أن يعتمدوا على نظرية علمية ويقدمون على الفتوى الفقهية والحكم القضائي دون فلسفة تأويلية ويقعون في الخلط بين فن التأويل وعلم الإعجاز وعلم البيان.
- نظرية التأويل الحالية تعاني من عدة مشاكل ووقعت في جملة من المآزق التي جعلتها تدور في فلك المدونة التقليدية وتخلع صبغة عقل جديد على منهج قديم وترتكز على تعديلات طفيفة تخص النواحي الأسلوبية اللغوية ولا تمس الأسس والمبادئ والمنطلقات.
على هذا النحو أثير حول قضية التأويل عدة شبهات وبعض الإحراجات وشاع ذكر عن أزمات سلطوية تخص التأويل وسجال التفاسير ومتاهات القراءة وحدود التأويل واتفق الجميع على أمر حاسم هو التالي: ليس هناك وقائع أولية بل تأويلات أولية، وهو ما يعني لانهائية التأويل ووجاهة كل تفسير.
لهذا السبب نرى اليوم التأويل يتراكم إلى حد أننا نشعر بالدوار وأصبحنا نعاني تخمة التفاسير وهو مرض ولد أشكال من الفهم المسبق ونقص في الفهم أنتجت بدورها مشاحنات اجتماعية وسوء تفاهمات بين الثقافات وكل ذلك يرجع إلى واقع هرمينوطيقي صريح وهو موت التأويل وقيام التأويلات. فهل هذا الواقع يعكس اعتلال فكري أم ظاهرة صحية؟ هل يجوز أن نبحث اليوم عن تأويل صحيح للحدث وعن معنى حقيقي للكلام؟ إلى أي مدى يكون البحث عن أرغانون للتأويل ممكنا ومشروعا؟ وما الفرق بين التفسير والتأويل وبين والتطبيق؟ وكيف تحول التأويل إلى فن يبحث في فهم النص بشكل عام من جهة طبيعته وعلاقاته بمحيطه الثقافي وبمنشئه الاجتماعي والقارئ المتلقي؟هل الحكام المسبقة عائقا أمام التأويل وسببا في الوقوع في الدائرة الهرمينوطيقية أم أنها شرط للفهم وأحد العوامل المؤدية إلى إعادة الاعتبار للتراث؟ وهل يوجد سبيل يمكن أن ينير لنا الطريق نحو حل إشكالية الفهم بإطلاق المعنى والاعتماد على فن قائم الذات يعمل على منهجتها وتنظيمها؟ و لما كان الفهم تاريخيا أليس من التناقض أن نرفعه إلى مرتبة المبدأ الهرمينوطيقي الأول ؟ وإذا كنا أمام تعدد التأويلات فهل يعني ذلك استحالة بلوغ بعد كلي للهرمينوطيقا؟ هل يمكن أن تكون اللغة بماهي تجربة رمزية لوجود الإنسان في العالم أن تكون الأفق الذي تدور حوله الهرمينوطيقا الأنطولوجية؟
إن ماهو في ميزان الفكر الهرمينوطيقي هو الابتعاد قدر الإمكان عن التأويل الباطني المذهبي والتخلي عن كل ضروب الزيغ في القلب والمرض في النفس والعمل على رسم بأحرف من ذهب لمنحى جديدا في الفهم أكثر انفتاحا وتجددا وذلك بالتيقن من قدرة العقل البشري على التوفيق بين مصالحه وما يحتاجه من ينابيع شرعية يحقق فيها الخير والصلاح للكائن الآدمي. وكما يقول غادامير:"إن المسألة ليست مسالة إحكام أو صيانة أنفسنا بمقابل التراث الذي يعبر عن نفسه من خلال النصوص بل هي على العكس مسألة استبعاد أي شيء يمكن أن يمنعنا من فهم التراث بمقتضى موضوعه"[2].
إن الهرمينوطيقا تشكلت من التفكير في فن تأويل النصوص وبحث العلوم الإنسانية عن تفهمها لذاتها وشروط عقلانيتها وقد أصبحت عن طريق كل من ديلتاي وغادامير وريكور فلسفة كونية في التأويل.
غير أن الإشكاليات التي تظل قائمة في قلب القضية الهرمينوطيقية نفسها هي: ما الفرق بين التأويلية والهرمينوطيقا؟ وهل يجوز الحديث عن علوم هرمينوطيقية أم عن فلسفة تأويل؟ وكيف انتقل شلايرماخر من هرمينوطيقيات خاصة إلى هرمينوطيقا عامة؟ ولماذا ارتبطت الهرمينوطيقا مع ديلتاي بالحياة ونقد العقل التاريخي وتطبيق منهج علم نفس الاستبطان؟ وما دلالة المنعطف الوجوداني للهرمينوطيقا الذي أحدثه هيدغر؟ وكيف تمكن عن طريق هرمينوطيقا جديدة للفهم من تخطي هرمينوطيقا الحدثية لسنوات الشباب والوقوع في قبضة الدائرة التفهمية؟ ثم ما سر الهجوم الكبير الذي شنه غادامير على المنهجانية العلموية؟ وهل يحق له أن يجعل من الفن نموذجا لحدث الفهم؟ وكيف استطاع أن يستثمر شغل التاريخ في الوعي وانصهار الآفاق من أجل جعل اللغة هي ثيمة وعماد اكتمال الهرمينوطيقا؟ وهل يخول له إعادة الاعتبار للتراث جعل الحكام المسبقة هي شروط إمكان الفهم؟ لكن ما قيمة هرمينوطيقا غادامير في ظل نقد الإيديولوجيات التي أخضعه لها هابرماس الوريث البعيد للنقد الاجتماعي عند مدرسة فرانكفورت؟ وما علاقة الهرمينوطيقا بالغراماتولوجيا عند دريدا؟ وها يمكن أن نخضع فن التأويل إلى عملية تفكيك؟ وضمن أي إطار يمكن تنزيل محاولة الايطالي بيتي الطامحة إلى العثور عن قانون للتأويل؟ وكيف روض رورتي الهرمينوطيقا بواسطة تقنية براغماتية جديدة ترتاب من وضع الحقيقة وتسخر من عصمة العقل؟ وألا يوجد تناقض في ادعاء جيانو فاتيمو حول إمكانية قيام عدمية هرمينوطيقية؟ لكن ما سر الاقتران العجيب الذي حدث مع بول ريكور بين الفنومينولوجيا والهرمينوطيقا؟ وكيف انقدحت له في ذهنه واقعة سجال التآويل؟ وهل يجوز الحديث عن فنومنولوجيا هرمينوطيقية للإنسان القادر؟ وهل هي هرمينوطيقا الارتياب كما هو الشأن مع أقطاب الظنة نيتشه وماركس وفرويد أم أنها هرمينوطيقا الثقة والوعي التاريخي؟ ألم يرتبط مصير الهرمينوطيقا بقدرة ريكور العجيبة على وضع مهارات التفسير والتأويل والفهم في دائرة توليدية تنتج المعنى عن طريق الاشتغال على نص بفعل القراءة؟[3]
بيد أن المعضلة الكبرى التي استعصت على المؤولين وأشد الإشكاليات التباسا بالنسبة للمفسرين هي أوجه الكونية في القضية الهرمينوطيقية في ظل رسم حدود للتأويل والإقرار بأن الفهم هو مجرد فهم مسبق. فمن أين يستمد القول الهرمينوطيقي طموحه نحو بلوغ الكونية؟
المرجع:
Jean Grondin, L’Herméneutique, éditions PUF, 2006.
هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، ليبيا، طبعة أولى 2007.
كاتب فلسفي
[1] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، ليبيا، طبعة أولى 2007. ص374.
[2] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ص373.
[3] Jean Grondin, L’Herméneutique, éditions PUF, 2006.