طالما أن الموقف السلبي الذي تبناه فريديريك من سقراط صار معروفا لنا من خلال الدراسة الرائعة التي أنجزها الباحث ألكسندر نيهيماس والتي قام كاتب هذه السطور بنقلها إلى العربية في جزءين (*)، فقد بقي موقفه من أفلاطون غير واضح بما فيه الكفاية. لكن بعد بحث قصير بمساعدة شيخنا غوغل، وجدنا ما يفي بالغرض في هذا الموضوع عند كاتب آخر هو كريستوف هورن.
باتباع وجهة نظر مبسطة إلى حد ما، نرى أن نيتشه كره أفلاطون ورفضه أساسا كما جذريا. هذا أمر شائع يتقاسمه العديد من قراء كتابات نيتشه، مثلا :"ولادة المأساة" (1872) أو " جنيالوجيا الأخلاق" (1887).
لكن بالنظر عن كثب، يجب أن نميز، من ناحية، بين الأسباب الرئيسية لرفض نيتشه لأفلاطون، من ناحية أخرى، وعدد معين من وجهات النظر التي من خلالها قدره أفلاطون بل وأشاد به. وإذا انتقد بشدة الكثير من أخلاقيات أفلاطون، فقد اتسم موقفه تجاه فكره السياسي بودية أكثر. من المهم إبراز الخلفيات الفلسفية، بما في ذلك تلك الخاصة بالفقيه اللغوي الكلاسيكي الشاب نيتشه خلال فترة بازل، كما نجد في ملاحظاته الدراسية وفي بعض مقاطعه التي حررها كولي ومونتيناري على وجه الخصوص، لدينا ما يقرب من 190 صفحة من المواد عن أفلاطون التي استخدمها نيتشه لدروسه في الجامعة. على حد علمنا، لا توجد حتى الآن دراسة منهجية لهذه النصوص.
وطالما أن وجهة نظر نيتشه عن أفلاطون موضوع مثير للجدل بين المعلقين، سنكتفي بالتذكير بالاعتراضات الستة الأكثر أهمية التي سجلها نيتشه على الفيلسوف اليوناني.
(1) رفض الموضوعية الإبستيمولوجية لأفلاطون وكذلك أنطولوجياه عن مملكة ثابتة من كيانات معقولة على نحو خالص؛ بدلاً من ذلك، دافع عن ضرب من الشكية الإبستيمولوجية، المنظورية، وكذلك النسبية، ونوع من الدينامية الوجودية أو اللاجوهرية.
(2) رفض الفكر الأفلاطوني (المعروف بشكل خاص انطلاقا من محاورة ثياتيتوس) الذي بحسبه يجب علينا "الهروب" من هذا العالم. لكي نصبح مثل الله (مفهوم homoiôsis theôi ) ، ولكي نصل إلى نوع من العالم-الخلفي أو العالم الثاني ( Hinterwelt ) .
.(3) جادل ضد المنهج الأفلاطوني في الديالكتيك (كما عرفناه من عدة محاورات متأخرة)، والذي يراه على أنه نزاعات غير منتجة ومنزوعة السياق تتطرق إلى أدق التفاصيل .
(4) عاب على أفلاطون إفساد الذوق الرفيع في الأدب ونقاء الأسلوب من خلال "الخلط الفج" بين العناصر شديدة التباين التي استخدمها في المحاورات.
(5) انتقد التبخيس الأفلاطوني لعلم الجمال والشعر ("فن المحاكاة") ولا سيما طرد الشعراء من مدينته المثالية كاليبوليس المذكورة في الجمهورية.
(6) وفقا لنيتشه، كان أفلاطون يتمتع بـ "طبع رائع"، لكنه في الوقت نفسه اعتبره "منحطا" مع غرائز مبتورة، و "غير يوناني" في العمق. يعتبر أفلاطون في نظر نيتشه الفيلسوف الأول الذي، على عكس الموكب الرائع من الشخصيات النقية التي تمتد من طاليس إلى سقراط، كان يمتلك "شخصية مختلطة".
من ناحية أخرى، غالبا ما لاحظ المعلقون أن هناك عددا من المعتقدات أو الآراء الأفلاطونية الأقل حظا والتي تحظى بالثناء والموافقة من لدن نيتشه. تبدو العناصر الثلاثة التالية هي الأكثر صلة:
(أ) يقدر نيتشه الملاحظة التي أدلى بها أفلاطون (عرفناها انطلاقا من محاورتي "أيون" و"فايدروس") مفادها أن الجنون ( mania) في بعض الأحيان يمكن أن ينتج أعظم الخيرات الثقافية.
(ب) نيتشه يتفق مع وصف أفلاطون للإيروس باعتباره الدافع البشري الأساسي .
(ج) يتفق مع أفلاطون حول الفكرة الأولية للتقسيم النفس إلى ثلاثة أجزاء ، كما عرفناه انطلاقا من الجمهورية ؛ من المعروف أن نيتشه قد طور خطاطة ما قبل فرويدية للنفسية البشرية وأجزائها ودينامياتها، كما تم تأكيده على وجه الخصوص من قبل ش. جاناواي .
أعتقد أنه لا تزال هناك نقاط أخرى يمكن ذكرها لصالح وجهة نظر إيجابية لنيتشه عن أفلاطون. مثال على ذلك هو حقيقة أنه يتفق مع الرفض الأفلاطوني للتعاطف الأخلاقي في الكتاب العاشر من الجمهورية.
في السطور التالية، نود أن نفحص بشيء من التفصيل كيف شرح نيتشه أخلاق أفلاطون وفلسفته السياسية. سنواجه مرة أخرى قائمة طويلة من الرفض والانتقادات والاعتراضات من نيتشه - ولكن أيضا عدة نقاط يوليها نيتشه الاعتبار والموافقة.
ما حكم نيتشه على فلسفة أفلاطون الأخلاقية؟ كما نعلم، تحدى نيتشه وجهة النظر الأخلاقية التي تبناها أفلاطون وطورها بشكل خاص في محاورة "جورجياس" وكتاب الجمهورية، على أساس أنها وجهة نظر "ما قبل مسيحية ". من المحتمل أن نيتشه أساء فهم ما كان يدور في ذهن أفلاطون عندما تحدث عن "مثال الخير": فقد هاجمه كما لو كان له معنى أخلاقي أساسي، في حين أنه ليس كذلك. لكن يمكن للمرء أن يدافع عن نيتشه بالإشارة إلى أن برنارد ويليامز طور وجهة نظر مماثلة لفلسفة أفلاطون الأخلاقية من خلال مهاجمة نموذجه على أساس أفكار الموضوعية الأخلاقية، وعامل إكراه داخلي، وثقافة الشعور بالذنب.
على أية حال، قابل نيتشه "مثال الخير" مع فكرته عن قيمة أعلى للحيوية والأفراد الأقوياء. في نص مرجعي مشهور "ما وراء الخير والشر، نجد توصيف أفلاطون بأنه ما قبل مسيحي وأخلاقي، مخترع المفاهيم القاتلة لعن "الروح النقية" و "الخير في حد ذاته" التي أدت إلى ضلال أوروبا والتي الآن على وشك أن تلغى.
يقول نيتشه: "علينا ألا نكون جاحدين [لهذه المذاهب]، حتى لو كان علينا بالتأكيد أن نعترف بأن أسوأ الأخطاء وأكثرها عنادا وخطورة كان حتى الآن خطأ في الدوغمائية: الاختراع الأفلاطوني للروح الخالصة والخير في ذاته. ولكن الآن بعد أن وصلنا إلى نهايته، تتنفس أوروبا وتخرج من هذا الكابوس ويسمح لها على الأقل بالاستمتاع بنوم أكثر راحة، وقد ورثنا نحن، الذين تكمن مهمتنا الأساسية في السهر، كل الطاقة التي أدت إلى ضبط كبير في مكافحة هذا الخطإ. بالطبع، كان ذلك قلب الحقيقة رأسا على عقب وإنكار المنظورية، الشرط الأساسي لكل الحياة، بدل الحديث عن الروح وعن الخير كما فعل أفلاطون؛ كطبيب، يمكن للمرء أن يسأل نفسه: "كيف وصل هذا المرض إلى أجمل سليل في العصور القديمة، أفلاطون؟ هل الشرير سقراط هو من أفسده؟ هل استحق سقراط فعلا تجرع سم الشوكران؟ " لكن النضال ضد أفلاطون، أو للتحدث بعبارات أكثر سهولة يفهمها "الشعب"، النضال ضد اضطهاد الكنيسة المسيحية منذ ألف عام - لأن المسيحية هي أفلاطونية من أجل "الشعب" - أنتج في أوروبا توترا رائعا للروح، لم يكن موجودا من قبل على الأرض؛ بقوس مجبد إلى هذه الدرجة يمكن من الآن التصويب على الأهداف الأبعد" .
في هذا المقطع، يرى نيتشه أفلاطون على أنه "أجمل سليل في العصور القديمة"، وهو تعبير عن تقدير غير عادي. لكن في الوقت نفسه، يعتبره نيتشه مفسدا (بفتح السين) من قبل سقراط. يشير النص إلى الدعوى التي رفعها ميليتوس وأنيتوس ضد سقراط بتهمة إفساد الشباب الأثيني. من خلال سلسلة من الأسئلة الخطابية، من الواضح أن نيتشه يقف إلى جانب متهمي سقراط. يحتوي النص صراحة على برنامج رفض "خطإ أفلاطون"، الموصوف بأنه "الأسوأ والأكثر عنادا وخطورة" الذي كان على أوروبا مواجهته. وبالتالي، فإن الكفاح من أجل التغلب على هذا الخطإ يمنح أوروبا إمكانية استعادة القوى التي كانت متوقفة لفترة طويلة والتي يمكن استخدامها، في المستقبل، من اجل "التصويب على الأهداف الأبعد".
من الناحية الفلسفية، فإن النقطة الأكثر إثارة للاهتمام في النص هي رفض الفكرانية الأخلاقية. ما يؤكده نيتشه هو أنه لا يمكن الدفاع عن هذا الموقف، بسبب الشرط المنظوري لكل حياة: لا يوجد منظور مستقل عن الأفراد يمكننا من خلاله استنتاج توجه عملي موضوعي. تمت نوقشت أيضا الفكرانية الأخلاقية، أي الأطروحة القائلة بأن السلوك الصحيح أخلاقيا يمكن تحديده من خلال التجسيد الذاتي العقلاني للفاعل، في إحدى المقاطع المنشورة بعد وفاته والعائدة إلى صيف 1875، حيث تم الإشادة بأمبادوقليس وديموقريطس، بينما انتقد سثراط وأفلاطون وأرسطو بسبب فلسفتهم الأخلاقية. يقول بعذا الصدد:
"مع أمبادوقليس وديموقريطس، كان اليونانيون على الطريق الأفضل لتقدير الوجود البشري بشكل صحيح، جنونه، معاناته؛ لم ينجحوا أبدا في ذلك بفضل سقراط. يفتقر كل السقراطيين إلى نظرة بدون تدابير وقائية إلى الناس، الذين امتلأت رؤوسهم بالتجريدات البغيضة حول الخير، الحق . لنقرأ شوبنهاور ونتساءل لماذا، عند القدماء، كانت هذه النظرة العميقة والحرة مفقودة - ملزمة بأن تكون مفقودة؟ هذا ما لا أراه. على العكس تماما. سقراط جعلهم يفقدون غيابهم عن اتخاذ التدابير الوقائية. تمتلك أساطيرهم ومآسيهم حكمة أكثر بكثير من أخلاقيات أفلاطون وأرسطو. وشخصياتهم " الرواقية" أو "الأبيقورية"" فقراء مقارنة بشعرائهم الأوائل أو رجال الدولة الأوائل" .
إن ما يشيد به نيتشه لدى أمبادوقليس وديموقريطس هو على ما يبدو وجهة نظرهما الثاقبة حول لللاعقلانية العميقة، واللامعنى والمعاناة باعتبارها حقائق أولية عن الوجود الإنساني. لو كانت لديهما إمكانية تحديد الفكر اليوناني، لكانت الأمور ستسير بشكل مختلف: كان للفلسفة اليونانية إحساس بالطابع التراجيدي للحياة البشرية. بدلاً من ذلك، كما يقول نيتشه، سيطر السقراطون على الثقافة اليونانية بتفكيرهم المناهض للنزعة التراجيدية . إن المثل الأعلى السقراطي للحكيم بالنسبة لنيتشه فقير للغاية، مقارنة بالشخصيات القديمة للشعراء ورجال الدولة.
يمكن العثور على استمرار مباشر إلى حد ما لهذه الأفكار في نص مأخوذ من الشذرات المنشورة بعد وفاته (ربيع 1884)، حيث يرفض نيتشه "نفاق الفضيلة العظيم" ( das große Schauspielerthum der Tugend ). هنا يهاجم الفكرانية الأخلاقية باعتبارها استراتيجية كانت مضللة منذ بداياتها الأولى:
"يجب ألا تبدأ الأخلاق من السؤال "لماذا؟". من هنا تنشأ الفكرة الخاطئة عن السعادة كنهاية لأي فعل، وكذلك بعض الوقاحة في عرض الفضائل. وهكذا يرفض نيتشه المفهوم الأفلاطوني لـ homoiôsis theôi، والذي، وفقا له، يتلخص في المثل الأعلى للإنسان باعتباره "تمثالًا جميلًا" ( schöne Bildsäule ):
"وجهات نظر علماء الأخلاق اليونانيين: النتائج الأخلاقية للأحكام (الأحكام الكاذبة) -"لماذا؟" سؤال كاذب وتخريجة خاطئة، السعادة المناسبة كهدف لكل فعل ( السعادة القصوى كنتيجة ضرورية للفكرة القصوى - مليئة بالنفاق بالتالي) - الوقاحة في عرض الفضيلة (الإلهية عند أفلاطون)، تشويه كل الدوافع اللاواعية، ازدراء المؤثرات - كلهم يجاهدون بلا وعي للانضمام إلى نموذج التمثال الجميل - يريدون قبل كل شيء تمثيل الفضيلة، هذا هو نفاق الفضيلة العظيم" .
في إحدى الشذرات المنشورة بعد وفاته والعائدة إلى صيف 1880، ناقش نيتشه المفهوم الأفلاطوني للعدالة. يبدأ النص بملاحظة أن امتلاك القوة الاستبدادية كان يعتبر من قبل جميع اليونانيين على أنه أكثر أشكال الحياة التي يحسد عليها، مثل السعادة الخالصة. في هذه الشذرة، يعتبر نيتشه أن جورجياس هو الشهادة الأكثر صلة لإثبات أقواله. وفي الواقع، توصف شخصيتان مركزيتان في محاورة بنفس الاسم، بولوس وكاليكلس، بأنهما من أنصار هذه الفكرة القائلة بأن القوة الاستبدادية هي أكثر الأشياء المرغوبة التي يمكن تحقيقها، أي القوة اللانهائية لتحقيق كل ما يريده المرء.. يصف نيتشه هذا الموقف المشترك ثقافيا تجاه سعادة الفرد القوي بأنه غامض: من ناحية، الناس يحسدون الطاغية، وبعبارة أخرى يريدون أن يكونوا مثله؛ لكن من ناحية أخرى ، فإنهم يخشون سلطته لأن وضعه الاجتماعي يؤدي إلى حالة نموذجية لكوكبة غير تعاونية وغير أخلاقية. يستخدم الفرد القوي سلطته بشكل تعسفي، بحيث يعيش الجميع في خوف دائم. الجزء الأول من شذرتنا هو كما يلي:
"اعتقد كل اليونانيين (انظر محاورة "جورجياس") أن امتلاك قوة طاغية يشكل أكثر السعادة التي يحسد عليها المرء: دون تجريدها من الخبث. لقد عمل الجميع على منع ظهور أسعد الرجال هذا، أو، عندما كان موجودا بالفعل، على عرقلة ظهوره والقضاء عليه. كانت السعادة الفائقة التي يؤمن بها الجميع مرتبطة تماما بالشعور بالقوة: لكن هذه الحالة عوملت على أنها فاحشة مطلقة (عدوة الأخلاق، أي فردانية، أنانية). مقتوا وخافوا من الرجل السعيد: من غطرسته لم يفلت أحد. إن القدرة المطلقة ستكون في نظرهم الغياب التام للقلق والشيطانية، وليس الفرح بالإذاية، بل التضحية بالجميع لمتعة الطاغية. هذه هي بالضبط الطريقة التي يتصرف بها العقل الطاغية حتى اليوم، فهو أسعد وأفقر ضمير".
من خلال الملاحظة حول "الغقل الطاغية" ( Tyrann des Geistes ) في نهاية هذا الاقتباس، يبدو أن نيتشه يميز استراتيجية أفلاطون الشخصية عن طريق أمثلة الطاغية التي يدعي أنها مشترك بشكل عام. يبدو أنه ينسب إلى أفلاطون تعويضا فلسفيًا حقيقيا عن امتناعه عن الاستبداد السياسي
في النصف الثاني من الشذرة، يواصل نيتشه مناقشته للمفهوم الأفلاطوني للعدالة: بما أن ممارسة العدالة (بالمعنى الأفلاطوني لتنحية البلونكسيا - المقابل اليوناني للدايكايوسين - وإسناد إلى كل شخص ما له) تنطوي على تضحية دائمة بسلطة الفرد ، الطريقة الوحيدة لدعم هذا السلوك هي التأكيد على المكانة الاجتماعية التي يمنحها علنا. لكن من الواضح، كما يؤكد نيتشه صراحة، أنه يمكن للمرء أن يحقق المزيد من السعادة من خلال محاكاة العدالة في الفضاء العام، بينما يعيش في ظل احترام القانون. وفقا لذلك، يعتقد أن التجربة الفكرية التي اقترحها أفلاطون في الحلقة الأسطورية ل" Gyges" تمثل الهوية اليونانية. يصف نيتشه الإغراء الكبير الذي يشعر به كل يوناني للهروب من السيطرة الاجتماعية التي يمارسها الأفراد بشكل متبادل. فقط هذا الإغراء المشترك بالإجماع، كما يعتقد نيتشه، يسلط الضوء على مدى التناقض الذي اعتبره الإغريق وجهة النظر الأخلاقية والسقراطية التي تنسب السعادة إلى الشخص الذي يحقق ذروة العدالة والفضيلة. حتى المذاهب الفلسفية للرواقيين والأبيقوريين لا تزال تعكس، وفقا لنيتشه، الموقف الأصلي لليونانيين تجاه امتلاك السلطة: بينما يفخر الرواقي بعدم خضوعه لأي سلطة (وبالتالي يمسك هو نفسه بزمام السلطة) يتمتع الأبيقوري بقوته على الانتصار على الخوف من الموت.
يقول نيتشه: "كونك عادلاً يعني تضحية مستمرة لا تُحتمل إلا من خلال اعتبار المجد الاجتماعي (أي الشعور بالقوة): بدون هذا النجاح، ستلقى عدالتك المصير الأكثر فظاعة. هذه فكرة يونانية. لكن أن تتمتع دون أن تكون عادلاً (بدون هذه الآلام وهذه التضحيات) بمكافأة العدل، المجد، يصير أعظم سعادة. المخرج العملي (لأن المخرج من الاستبداد كان مغلقا بشكل عام) كان هو: مظهر العدالة : تماما كما أدى نابليون بالأقوال والأفعال للغرائز النبيلة إشادة المديح وحتى المكافآت، وبالتالي جعل تألقها ينعكس عليه. المساواة بين المواطنين هي الوسيلة لمنع الاستبداد من خلال المراقبة والزجر المتبادلين. أي رجل في حوزته حلقة Gyges سيكون غير عادل. - ظاهريا يتداعى هؤلاء المتساوون إلى أحلام جامحة حول سعادة الطاغية، إنه الطمع المناسب لخيالهم؛ بل حتى في التراجيديا هو تعبير عن المفارقة الكبرى، أن تكون ملكا وغير سعيد، ألا تحسد حتى ملك الفرس. إن الشعور بالقوة كافٍ لموازنة كل أتعاب السلطة، وكل المخاوف وما إلى ذلك. ( "هيرون" زينوفون، إنها المفارقة السقراطية التي بموجبها لا يكون وزن سعادة الطغاة ثقيلا). أن يكون الرجل الفاضل هو أيضا الرجل السعيد - يظهر ذلك بدون معنى: كان الزهد مؤلما جدا! لكن ما بقي أخيرا هو فخر بفضيلة الرواقي، الملك والحكيم في آن واحد: الشعور الجديد بالقوة: لا يمكن إخضاعه بأي شكل من الأشكال، إنه يسود. - كان لكل فلسفة جانبها المهيمن: فقد انتصر الأبيقوريون على أشيرون (lمملكة هاديس) والخوف من الموت، الخوف من الطبيعة: وبالتالي من كونهم سادة الطبيعة“.
في "جينيالوجيا الأخلاق"، يوجد مقطع يصوغ فيه نيتشه تقييما باهرا للدفاع الذي قام به أفلاطون عن "الكذبة النبيلة":
"رجالنا المتعلمون اليوم،" الأخيار" لا يكذبون - هذا صحيح؛ لكن هذا ليس لصالحهم! الكذبة الحقيقية، الكذبة الاصلية، المتعمدة، "الصادقة" (التي بناء على قيمتها نستمع إلى أفلاطون) ستكون بالنسبة لهم شيئا صارما جدا، قويا جدا؛ تقتضي منهم، ما لا طاقة لهم به، أن يفتحوا أعينهم على أنفسهم، وأن يكونوا قادرين على التمييز بين "الصحيح" و "الخطإ" في أنفسهم. وحده الكذب الخادع يناسبهم. أي شخص يعتبر نفسه اليوم "رجلًا صالحا" فهو غير قادر تماما على الدخول في علاقة مع أدنى شيء لا تكون هي علاقة المغالطة الخادعة، المغالطة الفجة، ولكن أيضا المغالطة البريئة، المغالطة الساذجة، المغالطة ذات العيون الزرق، المغالطة الفاضلة. هؤلاء "الرجال الطيبون" - جميعهم ملوثون الآن بالأخلاق من رأسهم إلى أخمص قدميهم، وبالنسبة للصدق، المدانون بالعار، الضائعون إلى الأبد: أي منهم سيظل يدعم حقيقة "حول الرجل"! ... أو ، بعبارة أكثر تحديدا: أي منهم يدعم سيرة ذاتية صادقة! ... "
يبدو هذا النص المقتبس من :"جينيالوجيا الأخلاق" مكرسا لمقطع من الجمهورية يتناول Gennaion peudos بقدر أقل مما هو مكرس لما تمت تسميته، في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، ب"الشرط الوجودي".
مثل برنارد ويليام، أو حتى ريشار رورتي، يلوم نيتشه الحداثة هنا لتجاهلها ظاهرة الولاء الصارم الذي يجب أن يتمتع به المرء تجاه المشاريع الأساسية الخاصة به. يقول نيتشه إن الشعوب المعاصرة وذات التعليم الجيد بعيدة كل البعد عن الدفاع عن موقف راديكالي لا لبس فيه. إنه يعتبر أن عدم ولائهم الأساسي لأنفسهم يقوم على عدم الصدق مع أنفسهم. يعتقد أن الأخلاق تقوض أي علاقة مناسبة مع الذات من خلال التسبب في نوع من الابتعاد عن الذات. ومع ذلك، يوصف أفلاطون بأنه شخص دافع عن الكذب كأداة لـ "سيرة ذاتية صادقة".
تتضمن إشارتنا التالية إلى أفلاطون شيئا مثيرا للفضول حيال ذلك: يفسر نيتشه التناقض السقراطي الأفلاطوني "لا أحد يفعل الشر عن عمد" ويدعمه. في حين أن هذا المبدأ هو حجر الزاوية في الفكر الأخلاقي عند أفلاطون، فإن نيتشه يحوله إلى فكرة أن كل شخص يفعل الشيء الصحيح، وينظر إلى الأشياء من وجهة نظره الخاصة، وبالتالي لا أحد يستحق العقاب.
يقول في :"إنساني مفرط في إنسانيته": " الرجل دائما يعمل بشكل جيد - لا نتهم الطبيعة بالفجور عندما ترسل إلينا عاصفة وتغمرنا: فلماذا نحكم على الرجل الذي اقترف شرا ما بأنه غير أخلاقي؟ لأننا نفترض هنا الإرادة الحرة عن القرارات التعسفية، فهناك ضرورة. لكن هذا التمييز خطأ. فضلا عن ذلك، ليس لنا حتى في جميع الظروف أن نسمي الفعل الضار المتعمد بأنه عمل غير أخلاقي؛ نحن نقتل، مثلا، ذبابة عن عمد ولكن دون أدنى تردد، لسبب خالص وبسيط هو أن أزيزها يزعجنا، كذلك نعاقب المجرم ونجعله عمدا يعاني من أجل حماية الذات والمجتمع. في الحالة الأولى يكون الفرد هو الذي يتسبب عن عمد في إحداث ضرر من أجل الحفاظ على الاستياء أو تجنبه؛ في الحالة الثانية. كل أخلاق تقبل الأفعال الضارة عن غير قصد في حالة الدفاع، أي عندما يتعلق الأمر بالمحافظة! لكن هاتين النظرتين تكفيان لشرح كل الأفعال السيئة التي يمارسها الناس على بعضهم البعض: نريد سعادتنا، نريد تجنب الاستياء بأي شكل من الأشكال، يتعلق الأمر دائما بالمحافظة على الذات. كان سقراط وأفلاطون على حق: أيا كان ما يفعله الإنسان، فإنه دائمً ما يفعل الخير، أي أنه يقول ما يبدو حسنا (مفيدا) بالنسبة له وفقا لدرجة ذكائه، ومستوى عقله الحالي" .
في نص أكثر ملاءمة من الناحية التاريخية، والذي هو مرة أخرى شذرة منشورة بعد وفاته (يعود تاريخها إلى ربيع عام 1880)، يقدم نيتشه نظريات مختلفة عن المتعة. لقد انحاز مرة أخرى إلى أفلاطون (وأرسطو)، ولكن بطريقة أكثر إثارة للاهتمام من الاقتباس السابق. أثناء اتباع النظرية الأفلاطونية عن المتعة في محاورتي "جورجياس" و"فيليبوس" ( وعرض أرسطو في الكتابين السابع والعاشر من "الأخلاق النيقوماخية")، يدافع نيتشه عن فكرة الرغبة في "الملذات الخالصة" على النقيض من الملذات الحسية:
"لنبحث عن كل المسرات إذا أردنا، ولكن بشرط أن نفكر فيها بعناية ما إذا كان الأمر يتعلق بمسرات تستلزم بالضرورة الاشمئزاز والإرهاق؛ وفقًا لنوع الإنسان الذي ننتمي إليه ، فالملذات هي التي تترك المرء مخدرا أو منزعجا: الحماس، الشفقة، النشوة، الغضب، الانتقام، الكحول، الأفيون، الجنس، إلخ. أخيرا سنعتبر- وبالتالي سنسعى - إلى أن الأكثر قبولا ليس المسرات القوية أو الضعيفة بل المسرات المتوسطة: أي تلك التي تدوم ولا تسبب أي اشمئزاز، بينما تكون أكثر حدة.من المسرات الضعيفة. بهذا المعن ، فإن أفلاطون وأرسطو على حق عندما اعتبرا مباهج المعرفة أكثر الأشياء المرغوبة، بافتراض أنهما أرادا التعبير بذلك عن تجربة شخصية وليست عامة: ذلك أنه بالنسبة لمعظم الناس، تكون مباهج المعرفة أضعف وأقل بكثير من مباهج المائدة.
كما أوضحت الاقتباسات الثلاثة الأخيرة، نيتشه بعيد عن رفض فلسفة أفلاطون الأخلاقية جملة وتفصيلا، حتى لو كان دعمه للمواقف الأفلاطونية المزعومة يبدو أحيانا موضع شك. لكننا نعتقد أن نيتشه أقرب كثيرا إلى نوايا أفلاطون كلما تعلق الأمر بلفلسفة السياسية.
والآن تعالوا لنرى كيف حاكم نيتشه فلسفة أفلاطون السياسية. يمكن وصف موقف نيتشه الأساسي من السياسة بأنه "راديكالية أرستقراطية". في رسالة يعود تاريخها إلى ديسمبر 1887، تبنى هو نفسه هذا التعبير، الذي صاغه قبله جورج براندس لوصف موقفه. نيتشه الشاب، خلال فترة Schulpforta، وصل إلى موقف الراديكالية الأرستقراطية من خلال تفسيره لثيوجنيس Théognis، شاعر النبلاء الدوريين. في أطروحته الأخيرة بعنوان De Theognide Megarensi (١٨٦٤)، نجد بعض الأفكار الأساسية المتعلقة بمثل هذه الراديكالية الأرستقراطية. بمتابعة الاستعادة الممتازة التي قدمها ريناتو كريستي نجد العناصر الأساسية لموقف نيتشه من السياسة تكمن في رفضه الصارم للثقافة الأوروبية المعاصرة، التي وجدها ليبرالية واشتراكية وخاضعة للقيم الديمقراطية، أو في إصراره على الفردانية، أي على الطبيعة الفائقة للشخصيات العظيمة. وحدها الحضارة الأرستقراطية، المكرسة لخلق مثل هذه الشخصيات الاستثنائية التي تمنحها المكانة التي تستحقها، تمتلك قيمة سياسية حقيقية. من وجهة النظر هذه، وبشكل مفاجئ إلى حد ما، في دروس بازل الخاصة بمقدمة إلى دراسة أفلاطون (الملقاة في شتاء 1871-1872)، رأى نيتشه الفيلسوف اليوناني على أنه "ثوري من النوع الأكثر تطرفا":
"كان سقراط مواطنا صالحاً، وأفلاطون مواطناً طالحاً، كما تجرأ نيبور على وصف ذلك. وهذا يعني أنه خاض نضالًا حتى الموت ضد جميع المؤسسات السياسية القائمة وأنه كان ثوريا من النوع الأكثر تطرفاً " .
يكرر نيتشه هذه النقطة في ثالث "اعتبارات ضد العصر"، المكرس لشوبنهاور، لكنه يتابع شرح هذه النقطة في الملاحظات التي سجلها على هامش محاضرته:
"من الواضح أن مطلب تكوين المفاهيم الصحيحة عن كل الأشياء بريء؛ لكن الفيلسوف الذي يعتقد أنه وجده يتعامل مع الآخرين ككائنات مجنونة وغير أخلاقية، ويعامل جميع مؤسساتهم على أنها مجرد حماقات وعقبات أمام الفكر الحقيقي. الرجل صاحب المفاهيم الصحيحة يريد أن يقود ويسيطر؛ الاعتقاد بأن المرء يمتلك الحق يجعل المرء متعصباً. لقد نشأت هذه الفلسفة من التقليل من قيمة الواقع والبشر. بسرعة كبيرة تكشف عن وريد استبدادي. يبدو أن أفلاطون قد تلقى من خلال الدفاع عن سقراط الفكرة الحاسمة المتعلقة بالطريقة التي يجب أن تتصرف بها الفلسفة تجاه البشر: مثل طبيبهم، مثل الفرامل على رقبة الإنسان. إنه يرفع المثل الأعلى ويتصور هذا الفكر: يجب أن يسود العلم؛ يجب أن يكون العالم الأقرب إلى الآلهة هو المشرع ومؤسس الدول. الوسائل التي يستخدمها هناك هي: العلاقات مع الفيثاغوريين، التجارب العملية في سيراكيوز، تأسيس الأكاديمية، الكتابة والنضال الدؤوب ضد عصره..
يمتدح نيتشه، في هذا النص، أفلاطون على وجه التحديد لأنه يتبع أفكار الراديكالية الأرستقراطية: وبما أنه شخصية متفوقة، يستخدم أفلاطون منهج سقراط الديالكتيكي التهكمي، elenchos، ليطلب من معاصريه استخدام مفاهيمهم استخداما صحيحا؛ وبذلك يعاملهم جميعا على أنهم "كائنات مجنونة وغير أخلاقية، ويتعامل مع جميع مؤسساتهم على أنها مجرد حماقات وعقبات أمام الفكر الحقيقي".
في "المقدمات الخمس" التي يرجع تاريخها إلى بداية عام 1871، نجد نصا بعنوان "الدولة اليونانية" يحتوي على تأبين صريح لمدينة كاليبوليس التي تصورها أفلاطون في "الجمهورية":
"تظهر الدولة المثالية لأفلاطون من هذه الاعتبارات كشيء أكبر بشكل واضح مما يعتقده حتى أكثر المعجبين به حماسة، ناهيك عن موقف تفوق علمائنا عندما يرفضون مثل هذه الفاكهة الجميلة من العصور القديمة. يكشف الحدس الشعري وعمل الفرشاة الدقيقة عن النهاية الحقيقية للدولة، والوجود الأولمبي، والإبداع المتجدد باستمرار ، وتشكيل العبقرية التي أمامها كل كائن آخر ليس سوى أداة مساعدة وشرط إمكان. تجاوزت نظرة أفلاطون عمود هيرميس المشوه بشكل مروع، صورة الحياة السياسية في ذلك الوقت، ومع ذلك فقد أدرك في ذلك وجود عنصر إلهي. اعتقد أنه يمكن للمرء أن يجرد هذا النموذج الإلهي وأن هذا المظهر الخارجي الذي دمره السعار والهمجية لا ينتمي إلى جوهر الدولة: كل الحرارة والنبل في شغفه السياسي منحا بالكامل لهذا الإيمان، لهذه الرغبة، استهلكا في هذا الحماس. امتناع أفلاطون عن وضع العبقرية - بمعناها الكوني - على قمة مدينته المثالية، ولكن فقط عبقرية الحكمة والمعرفة، استبعاده قبل كل شيء العبقرية الفنية من مدينته، هما نتيجة قاسية للحكم السقراطي على الفن، الحكم الذي تبناه أفلاطون بنفسه ليس بدون أن يتصارع مع نفسه. يجب ألا تمنعنا هذه الثغرة السطحية والطارئة تقريبا من الاعتراف، في المفهوم العام للدولة الأفلاطونية، بالهيروغليفية غير العادية للعقيدة الباطنية حول العلاقة بين الدولة والعبقرية، وهي عقيدة عميقة ستبقى دائما بحاجة إلى فك رموزها. ما اعتقدنا أننا توقعناه في هذه الكتابة السرية، كشفت عنه هذه المقدمة للتو” .
لا يحتوي هذا المقطع على تأييد واضح لكاليبوليس أفلاطون فحسب، بل يشير أيضا إلى أن نيتشه هو الوحيد الذي يفهم بشكل صحيح ما تعنيه مدينة أفلاطون المثالية، على عكس معجبيه السطحيين أو علماء التاريخ الذين يرفضونها. كاليبوليس، وفقا لنيتشه، لها وظيفة توليد العبقري وإعداده. بالتأكيد، بالنسبة لنيتشه، فإن طرد الشعراء من كاليبوليس هو عيب حقيقي في النموذج الأفلاطوني. لكن هذا يرجع إلى التأثير الكارثي لسقراط ولا يقلل من القيمة العامة للنموذج السياسي الذي تم تطويره في الجمهورية .
من بين شذرات الفترة نفسها والمنشورة بعد وفاته (ربيع 1871 - أوائل 1872)، نعثر على فكرة لنيتشه تتجاوز كاليبوليس
أفلاطون:
"بالنسبة لأرستقراطية المولد التي حظيت بها الروح، يجب أن يكون لها أيضا تعليم وفضل على مقاسها. يمكن أن يكون المبدأ التربوي الصحيح هو وضع أكبر كتلة في علاقة عادلة مع الأرستقراطية الروحية: هذه هي مهمة الثقافة بشكل صحيح (وفقا للإمكانيات الهزيودية الثلاثة)؛ تنظيم دولة العباقرة - هذه هي الجمهورية الأفلاطونية الحقيقية".
إن "الجمهورية الأفلاطونية الحقيقية" لن تكون فقط لتثقيف العباقرة وإعدادهم للعب دور قيادي في إنتاج الخيرات الثقافية للمجتمع، ولكن أيضا لجلب "أكبر كتلة" من الناس إلى أدوارهم كخدام للأفضل. في شذرة أخرى منشورة بعد وفاته، ندرك بالضبط ما كان يدور في ذهن نيتشه عندما تحدث عن الإنجاز الثقافي غير العادي الذي يجب أن يصمم الهيكل السياسي للدولة من أجله. في حالة المدينة الكلاسيكية كانت التراجيديا:
"التراجيديا القديمة كمدرس للشعب لا يمكن إلا أن تثبت نفسها في خدمة الدولة. هذا هو السبب في زيادة الحياة السياسية والتفاني تجاه الدولة لدرجة أن الفنانين أيضا فكروا فيها قبل كل شيء. كانت الدولة وسيلة لتحقيق الفن: لذلك كان من الضروري أن تكون الرغبة الجشعة للدولة هي الأقوى في الأوساط التي شعرت بالحاجة إلى الفن. كان هذا ممكنا فقط من خلال حكم الذات، وهو أمر لا يمكن تصوره إلا مع عدد محدود من المواطنين القادرين على الحكم. - إن النفقات الهائلة للدولة والمجتمع يتم دفعها في نهاية المطاف لعدد قليل فقط: هؤلاء هم الفنانون والفلاسفة العظماء - الذين يجب عليهم قبل كل شيء ألا يتدخلوا في السياسة، كما هو مطلوب من قبل دولة أفلاطون. تستخدم الطبيعة بالنسبة لهم السراب الأسمى، بينما تكتفي الجماهير بمخلفات العبقرية"
يستمر النص في طلب خلق "جنس من النحل الطنان" يخضع لإرادة الطبقة العبقرية، والتي تعمل بدورها كأدوات لإنتاج أرقى الخيرات الثقافية:
"ولدت الدولة في أقسى طرق القهر ، عن طريق جيل من النحل الطنان. لكن وجهتها الأعلى هي تنمية حضارة مع هذا النحل الطنان. تسعى الغريزة السياسية إلى الحفاظ على الحضارة، بحيث لا يجب أن يبدأ كل شيء باستمرار من البداية. يجب على الدولة الإعداد لإنجاب النسل وفهم العبقرية. كانت التربية عند الإغريق تهدف إلى التمتع الكامل بالتراجيديا. إنه نفس الشيء بالنسبة للغة: إنها خلق الكائنات الأكثر عبقرية، في استخدام أكثر الكائنات عبقرية، بينما يستخدم الناس جزءً صغيرا جدا منها، يستخدمون النفايات إذا جاز التعبير.
إن الكائن الفردي بكل أنانيته لن يساهم أبدا في الحضارة. ولهذا توجد الغريزة السياسية التي تبدأ بالتخفيف من حدة الأنانية. وبسبب قلقه على سلامته الشخصية، يصبح عاملا مسؤولا عن أغراض أسمى لا يرى منها شيئًا".
لم ينشر نيتشه هذا النص - مما قد يفسر تعبيره الفظ والمباشر عن استعباد الجماهير لصالح العباقرة. بنبرة أكثر ليونة وأكثر قبولا، يناقش نيتشه في "شوبنهاور مربيا" موضوع تربية الفلاسفة:
"ربما يتعلم هذا الأب أو ذاك شيئًا مما قيل للتو ويعرف كيف يستفيد منه إلى حد ما في التربية الخاصة بابنه؛ رغم أنه لا يُتوقع أن يرغب الآباء في أن يكون لهم كأبناء الفلاسفة فقط. من المحتمل أن يكون الآباء في جميع الأوقات هم الذين عارضوا بشدة التوجه الفلسفي لأبنائهم، باعتباره أعظم الانحرافات؛ سقراط، كما نعلم، تمت التضحية به لإخماد غضب الآباء، وجرى اتهامه بأنه سعى إلى "إفساد الشباب"، ولهذه الأسباب، اعتبر أفلاطون أنه من الضروري بناء دولة جديدة تماما حتى لا تتوقف ولادة الفيلسوف على حماقة الآباء. يبدو اليوم تقريبا أن أفلاطون حصل بالفعل على شيء ما. ذلك أن للدولة الحديثة الآن من بين مهامها الترويج للفلسفة والسعي في جميع الأوقات لمنح بعض الرجال هذه "الحرية" التي نرى فيها الشرط الأساسي لنشأة الفيلسوف. ومع ذلك، فإن أفلاطون، في التاريخ، كان لديه حظ سيء مذهل: في كل مرة نرى أنه ولد بناء يتوافق بشكل أساسي مع مقترحاته، لم يكن دائما، بالنظر إليه عن كثب، سوى طفل جني تم استبداله عند الرضاعة بقزم شنيع. تماما كما كانت، مثلا، الدولة الثيوقراطية في العصور الوسطى، مقارنة بالهيمنة التي كان يحلم بها "أبناء الآلهة". صحيح أن الدولة الحديثة أبعد من أي وقت مضى عن اختيار الفلاسفة سادة لها - الحمد الله! يضيف المسيحيون -: ولكن مع هذا التشجيع للدولة على الفلسفة كما يفهمها، فقد يجب ان نختبر عن بعد ما إذا كان مأخوذا بالمعنى الأفلاطوني، أعني ما إذا كان يجلب لها الكثير من الجدية والإخلاص كما لو أن قدره الأسمى كان ليولد أفلاطون جديد. إذا ظهر الفيلسوف عادة على أنه احتمالي في عصره - فهل وضعت الدولة لنفسها حقا مهمة الترجمة الواعية لهذه الاحتمالية إلى ضرورة ومساعدة الطبيعة في هذه النقطة كذلك؟» .
مقصد نيتشه في هذا النص هو القول بأن الدول الحديثة تفتخر بتشجيع الفلسفة، ولكن دون ان تستخلص من ذلك النتائج التي تفرض ذاتها: أي خلق "أفلاطون جديد". هذا وحده من شأنه أن يشكل فهماً حقيقياً لتشجيع الفلسفة بالمعنى الأفلاطوني.
نجد حكما تفصيليا لجمهورية أفلاطون في شذرة قصيرة يرجع تاريخها إلى الفترة المبكرة (أواخر 1870 - أبريل 1871):
"الدولة المثالية لأفلاطون حكيمة بشكل خاص لأنه تحديدا في ما يدهشنا ينكشف أكثر العنف الطبيعي المتهور للإرادة الهيلينية. إنه في الواقع نموذج حقيقي لدولة المفكرين (Denkerstaat)، مع وضع عادل تماما للمرأة والعمل. لكن الخطأ يكمن فقط في المفهوم السقراطي لدولة المفكرين: لا يمكن للفكر الفلسفي أن يبني، بل يمكنه فقط أن يدمر".
من ناحية، يجد نيتشه في مدينة أفلاطون المثالية درجة عالية جدا من الحكمة - أي بقدر ما تظهر "العنف الطبيعي المتهور للإرادة الهيلينية". من ناحية أخرى، يرى نيتشه أعمق خطإ للنموذج الأفلاطوني في فكرة "دولة المفكرين". يجب أن يكون للفلسفة دور هدام وليس بناء.
هناك ملاحظة في الاقتباس الذي قدمناه للتو تتعلق بوضع المرأة في كاليبوليس. يوافق نيتشه هنا بشكل عام على موقف أفلاطون فيما يتعلق بإلغاء الأسرة في الدولة المثالية. ولكن هناك شذرة تعود لنفس الفترة، أكثر تفصيلاً، تم فيها شرح هذا الخط الفكري بمزيد من التفصيل:
"[...] مما لا شك فيه أن أحد جوانب المفهوم الأفلاطوني عن المرأة كان يتعارض بشدة مع الأعراف الهيلينية: يمنح أفلاطون المرأة المشاركة الكاملة في حقوق الرجال ومعارفهم وواجباتهم، ويعتبر المرأة فقط الجنس الأضعف الذي، في كل شيء ، لا يمكن أن ينجح في الذهاب بعيدا جدا: دون التنازع معها في الحق في هذا الكل. لا يجب أن نسند لهذا المفهوم الغريب أي قيمة أكثر من طرد الفنان من الدولة المثالية: لدينا هناك سمات ثانوية، تم رسمها بجرأة، مثل انحرافات هذه اليد الواثقة، هذه العين التي، من وقت لآخر، في ذكرى السيد المتوفى، تصبح مضطربه ومجهدة: في هذا المزاج، فإنه يبالغ في مفارقات هذا السيد، وبإفراط في الحب. يحب المبالغة في عقائده بطريقة شاذة للغاية، لدرجة التهور.
في الجزء الأول من هذه الشذرة، يعبّر نيتشه عن نقد إيجابي للغاية لرؤية أفلاطون للمرأة: على الرغم من أن أفلاطون، من خلال منحه المساواة الكاملة للحارسات والفيلسوفات، وجد نفسه في قطيعة مع ثقافته، وبالتالي كان مخطئا بشكل منهجي، فقد ظل عظيما من خلال صياغة مفارقات جريئة، كما يتضح من التدبير الاستفزازي لطرد الشعراء. هنا، يبدو إلغاء الأسرة موضع ترحيب من لدن نيتشه:
"لكن ما استطاع أفلاطون أن يقوله داخليا، بصفته يونانيا، عن وضع المرأة في مواجهة الدولة، هو المطالبة بأن الأسرة في الدولة المثالية تتوقف بالضرورة عن الوجود.. دعونا نتجاهل الطريقة التي ألغى بها هو نفسه، لتلبية هذا المطلب بالضبط، الزواج وأقام مكانه اتحادات رسمية تنظمها الدولة بين أشجع الرجال وأنبل النساء، من أجل الحصول على ذرية جميلة. لكنه أشار في هذا المبدإ، بأوضح طريقة - بل بوضوح اكثر، بوضوح شديد - إلى قاعدة مهمة للإرادة اليونانية في التحضير لإنجاب العبقري. لأنه من الصحيح أنه في أعراف الشعب الهيليني، تم قياس حق الأسرة على الرجل والطفل بشكل ضيق للغاية: يعيش الرجل في الدولة، وينمو الطفل من أجل الدولة وتحت يد الدولة. سوف يضمن اليونانيون أن الحاجة للثقافة لا يمكن إشباعها في عزلة ضمن دائرة ضيقة. كان بإمكان الفرد أن يحصل على كل شيء من الدولة، ويقدم كل شيء لها. وبالتالي فإن المرأة تعني بالنسبة للدولة مايعنيه النوم بالنسبة للرجل. في كيانها تكمن القوة الشافية، التي تصلح ما هو منهك، الهدوء النافع الذي فيه كل ينحد فيه كل مفرط، الأبدي، المتطابق، الذي بالقرب منه ينضبط ما يتخطى، ما يتعدى. يه يحلم جيل المستقبل. لدى المرأة تقارب أكثر من الرجل مع الطبيعة، وفي كل ما هو أساسي، تظل كما هي. الثقافة هنا هي دائمًا شيء خارجي ولا تمس الجوهر المخلص للطبيعة إلى الأبد؛ هذا هو السبب في أن ثقافة المرأة يمكن أن تبدو للأثينيين على أنها شيء غير مبال، وحتى - إذا أردنا أن نتمثلها فقط - فهي مثيرة للضحك. يجب، قبل كل شيء، على أي شخص يشعر بأنه مضطر إلى الاستنتاج فورا أن حالة المرأة بين اليونانيين لا تستحق الذكر وغير مهذبة إلى حد كبير، ألا يتخذ "التكوين الثقافي" للمرأة العصرية وادعاءاتها كقاعدة، في تعارض مع النساء الأولمبيات، مثل بينيلوب، أنتيجون وإلكترا. بالتأكيد هن شخصيات مثاليات لكن من سيكون قادرا على خلق مثل هذه المثل العليا في العالم الحالي؟ - يجب ان نضع في الاعتبار اي الأبناء الذين أنجبتهم هؤلاء النساء، وأي النساء اللائي يجب أن يلدن مثل هؤلاء الأبناء! - كان على المرأة اليونانية كأم أن تعيش في الظلام، لأن الغريزة السياسية، بأسمى أهدافها، كانت تتطلب ذلك. كان عليها أن تعيش مثل نبات، في دائرة ضيقة، كرمز للحكمة الأبيقورية λάθε βιώσας [مسمار خفي]. في العصر الحديث، وبمجرد تدمير نزعة الدولة تماما، كان على المرأة أن تظهر مرة أخرى كإغاثة؛ عملها هو الأسرة كمنفعة للدولة: وبهذا المعنى، فإن الغاية الفنية للدولة يجب أيضا أن تنحط إلى تلك الخاصة بفن منزلي. من هنا حدث أن العاطفة الغرامية، المجال الوحيد الذي يمكن للمرأة الوصول إليه بالكامل، حددت شيئا فشيئا فننا في أعمق حميمية. ومثلما تتجلى التربية المنزلية بطريقة ما باعتبارها التربية الطبيعية الوحيدة ولا تتسامح مع تربية الدولة إلا باعتبارها تدخلاً مريبا في حقوقها: كل هذا مبرر بقدر ما يتعلق الأمر تحديدا بالدولة الحديثة. - يبقى وجود المرأة هناك متطابقا مع نفسه، لكن قوتها تختلف حسب موقف الدولة تجاهها. تتمتع النساء أيضا بالقوة للتعويض عن أوجه القصور في الدولة إلى حد ما - دائما مخلصات لكيانهن، الذي قارنته بالنوم. في العصور اليونانية القديمة، احتللن المكانة المخصصة لهن من قبل الإرادة العليا للدولة: لهذا السبب تم تمجيدهن كما لم يحدث بعد ذلك. إلهات الأساطير اليونانية هن انعكاسات لهن: البيثيا والعرافة، وكذلك الديوتيما السقراطية، هن الكاهنات اللواتي تتحدث من خلالهن الحكمة الإلهية. نحن الآن نفهم لماذا لا يمكن أن يكون الاستسلام الباعث على الفخر للمرأة السبارطية عند نبإ وفاة ابنها في المعركة خرافة. شعرت المرأة تجاه الدولة بأنها في المكانة الصحيحة: كما كانت تتمتع بمزيد من الكرامة أكثر من أي وقت لاحق. أفلاطون الذي عزز وضع المرأة هذا من خلال إلغاء الأسرة والزواج، يشعر الآن بقدر كبير من الخوف المحترم أمامهن لدرجة أنه يتحول، بطريقة مذهلة، إلى درجة قمع من جديد للمركز التراتبي الذي أسند إليهن، من خلال تأكيد مساواتهن عقب ذلك بالرجال: انتصار أسمى للمرأة القديمة، لكونها أضلت الحكيم!».
في هذا النص المعقد إلى حد ما، طور نيتشه أطروحته القائلة بأن دور المرأة في العصور اليونانية القديمة كان أفضل ما يمكن أن يتخيله المرء؛ لهذا السبب، نجد في الشهادات التاريخية المتوفرة لدينا العديد من النساء الممتازات وكذلك الشخصيات الدرامية الممتازة مثل بينيلوب وأنتيجون وإلكترا. النقطة الأساسية لنيتشه هي أن الدور الطبيعي أو الأساسي للمرأة هو الإنجاب. يُتوقع من النساء توفير خلفاء الرجال والأطفال (الذكور) الذين يعيشون من أجل الدولة. كل هذا يبدو بلا شك فظيعا لامرأة متعلمة بطريقة حديثة، كما يعترف نيتشه. ثم يقال أن أفلاطون قد عزز بشكل كبير هذا التوزيع للأدوار بين الجنسين، مع ارتكاب خطإ الاعتراف بالمساواة الكاملة للمرأة كحارسة وفيلسوفة. نرى مرة أخرى مدى ودية نيتشه تجاه أفلاطون حتى في الموضوعات التي ينتقده فيها.
في الختام باختصار، رأينا في الشذرات (ولكن أيضا في بعض النصوص المنشورة)، خاصة في تلك المتعلقة بالفلسفة السياسية، أن نيتشه قدّر بشدة أفلاطون، على الأقل بسبب نخبويته و "راديكالية الأرستقراطية". تؤسس النصوص التي درسناها إمكانية مراجعة الفكرة المنتشرة على نطاق واسع حول استنكار نيتشه العام لأفلاطون.
____________________________________________
(*) ألكسندر نيهماس: الوجه الآخر لسقراط من منظور فريديريك نيتشه (2/1) ـ ترجمة : أحمد رباص https://anfasse.org/فلسفةـ-وـ-تربية/36-فلسفة/7899-ألكسندر-نيهماس-الوجه-الآخر-لسقراط-من-منظور-فريديريك-نيتشه-2-1-ـ-ترجمة-أحمد-رباص