هذا المقال هو في الأصل ترجمة للفصلين الرابع والخامس اللذين يشكلان جوهر/صلب أطروحة السويسري "فليب هرتيغ Philippe Hertig "، الباحث في ديداكتيك الجغرافيا، وهي الأطروحة التي قدمها بجامعة لوزان سنة 2009، وأعاد نشرها معدلة ضمن الفضاء الرقمي سنة 2012 تحت عنوان " ديداكتيك الجغرافيا والتكوين الأساس للمدرسين المتخصصين" معتبرا أنها تمثل "ملفا ضمن أطروحة".
ونظرا للقيمة النظرية الأصيلة لهذا الجزء من ملف هذه الرسالة (الصفحات 21 – 65) فقد حاولت الحفاظ ما أمكن على هوية ومنطوق المقال أثناء ترجمته، في أفق الإجابة عن العدد من الإشكالات :
- إلمام المقال المترجم بالعديد من الجوانب الإشكالية المؤثثة لتطور ديداكتيك الجغرافية، ولكثافة التوثيق المرجعي وحداثته، ولاعتبارات منهجية قمت بحذف كل الإحالات التوثيقية داخل النص الأصلي، وللقارئ الحق في العودة إلى النص الأصلي من أجل توثيق كل الإحالات المرجعية والنصوص الديداكتيكية الأصلية ؛
- رصد أوجه المقارنة الخاصة بتطور ديداكتيك الجغرافيا بين المدرستين الألمانية والفرنسية، اعتبارا للازدواجية اللغوية التي تميز سويسرا، وبحكم غياب الأبحاث عندنا حول ديداكتيك الجغرافيا لدى المدرسة الألمانية ؛
- الانفتاح على شبكة المفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي والتي يتم الاشتغال بها ضمن الفضاء المدرسي السويسري (الثانوي الإعدادي أساسا)، في أفق تكوين صورة ديداكتيكية واضحة حول كيفية معالجة القضايا المجالية المدروسة، ومقارنتها بالمفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي المدرسي لدينا (المورفولوجيا – التوطين – الحركة)...
أولا – الأصول الأولى لمفهوم الديداكتيك وديداكتيك المواد التخصصية.
يؤثر ترسيخ الممارسات التعليمية في التنظيم المدرسي، وفي المواد الدراسية المقررة بوضوح، التعليم المعتمد على مرجعية نموذجية واضحة، يؤثر بشكل أساسي في تصور التعلم، وتمكن هذه الأبعاد المختلفة من رسم الخطوط العريضة للإطار الذي تندرج فيه كل الأنشطة التعليمية – التعلمية ضمن السياق المدرسي. تجدر الإشارة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مسألة محتويات العملية التعليمية – التعلمية – نعتبر أن كلمة محتوى تعني "كل ما يشكل موضوعا للتعليم والتعلم ... وتتشكل من المعارف المدرسية والمعلومات التي تهذب التلاميذ طيلة الوقت". يرجع التفكير الخاص حول محتويات المادة الدراسية، وحول العلاقات بين المعارف المدرسية والمعارف المرجعية، وحول المقاربات المعتمدة، إلى حقل الديداكتيك. فاستخدام هذه الكلمة هو حديث نسبيا في المحيط الفرانكوفوني، في الوقت الذي تعود فيه أصول الديداكتيك إلى عدة قرون.
ففي سنة 1628، أنهى كومينوس (1692 – 1670) الطبعة الأولى لكتابه الديداكتييك الكبير (didactica magna). هذا النص الذي عمل صاحبه على تنقيحه وإتمامه في العديد من الأوقات. فعنوانه الأصلي يكشف عن أن "الديداكتيك الكبرى أو الفن العام لتدريس الكل للكل". ويظل برنامج كومينوس نظري عندما يبحث عن رفع الطفل إلى مرتبة الإنسان "والمواطن العالمي"، وذلك بالارتكاز على منظومة تربوية متكاملة. وتصوره اللولبي يمكن من فهم المواد أو المشكلات المعقدة في جل المجالات المعرفية والحياة الاجتماعية. وقد أخذ كومينوس بعض مبادئ منظومته عن الألماني راتكه (1571 – 1635) الذي يعظم "المدرسة المفتوحة في وجه الجميع، والمستقلة عن الكنيسة، والتي تدرس باللغة الألمانية، القراءة والحساب والكتابة، والعناصر الأساسية لكل المواد". بالنسبة لتلك الفترة، اعتبرت أفكار راتكه وكومينوس، أفكارا جديدة راديكالية، مشكلة أسس البيداغوجية المعاصرة، فهما يرفعان من شأن التعليم الذي يوقظ هدفا لدى التلميذ، سواء بالنسبة للمحتويات المعالجة، أو بالنسبة للمقاربات المنظمة حسب منطق الانتقال من الملموس إلى المجرد. كما يرتكز كومينوس أيضا على أهمية اللجوء إلى الصورة من أجل تسهيل التعلم، ويمكن للتلميذ المزاوجة بين الكلمات والصور، وهي المحرك قبل وقت الألعاب كعدة للتدريس. يقدم كتاب "الدياكتيكا الكبرى" مشروعا جماعيا للتربية. يجب انتظار نهاية القرن 18، ليتم إعادة استخدام كلمة الديداكتيك لتعني تخصصا معينا، فقد أخذت الديداكتيك الألمانية شكلين أساسين مستمدين من تفكير كل من راتكه وكومينوس".
لم يظهر اسم الديداكتيك في فرنسا إلا في بداية سنوات السبعينيات (1970)، في حقل علوم التربية مع مفهوم متقارب لما هو عليه اليوم، في حين أن كلمة ديداكتيك استعملت بشكل منتظم في ألمانيا منذ النصف الثاني من القرن 19، ومنذ هذه الفترة استقلت الديداكتيك عن البيداغوجيا. وتعد الخصوصية الثقافية هي المميزة في هذا المجال : فمفهوم الديداكتيك ليس له نفس المعنى في العالم الألماني، كما في الفضاء الفرانكفوني، في حين هو غير موجود بتاتا في البلدان الأنكلوسكسونية.
في ألمانيا، تركز الديداكتيك على "تعريف الأهداف العامة، وعلى المحتويات وبنية البرامج الدراسية وطرق التدريس". وقد أدت هذه النظرة الشمولية للديداكتيك في البلدان الألمانية إلى المأسسة المتزايدة للديداكتيك العامة، في حين أن ديداكتيك المواد التخصصية اعتبرت منذ فترة طويلة " كتطبيق للمبادئ العامة ضمن مادة دراسية خاصة". وانطلاقا من منتصف سنوات 1970 أخذت ديداكتيك المواد تعرف نوعا من الاستقلالية بالمقارنة مع الديداكتيك العامة، وتتزامن هذه الصيرورة مع صعود الديداكتيك في البلدان الفرانكفونية.
التعريف الكلاسيكي للديداكتيك – ضمن التصور الفرانكفوني اليوم – كما يقترحه مارتينار (Matinard، 2005)، هو "دراسة صيرورات التعليم والتعلم من وجهة نظر متميزة عن المحتويات". ففي فرنسا أولا، وفي بقية البلدان الفرانكفونية (بلجيكا – سويسرا – الكيبيك) تدريجيا تم اعتبار الديداكتيك "كتخصصات للبحث التي تحلل المحتويات (المعارف – المهارات ...) وكمواضيع للتعليم والتعلم في إطار المواد الدراسية، حيث تم التركيز على المحتويات وعلى علاقاتها بالتعليم والتعلم والتي تميز الديداكتيك".
التركيز على المحتويات يعني أن المدرس يقود بالتزامن تفكيرا ابستمولوجيا حول طبيعة المعارف التي يجب أن يدرسها. فضمن النسق الديداكتيكي الكلاسيكي والمعروف "بالمثلث البيداغوجي" (والذي يسمى أيضا بالمثلث الديداكتيكي) والمقترح من طرف جون هوساي 1993 (Jean Houssaye, 1993 )، يظل التساؤل الديداكتيكي مركزا من جهة حول العلاقات ما بين قطب التلميذ وقطب المعارف. في هذا الصدد، تركز مجالات البحث في الديداكتيك بالخصوص أكثر حول ممارسات تدريس المواد، وحول تعلمات التلاميذ بالعلاقة مع محتويات المواد المحددة بدقة، وحول ابستمولوجية المواد الدراسية، وحول التكوين الديداكتيكي للمدرسين، وحول بناء أدوات التدريس (كتب مدرسية ودعامات أخرى...)، وأيضا حول بناء المناهج. منذ بضع سنوات، تم اقحام مواضيع جديدة للتدريس وانشغالات جديدة للتكوين (مثلا التربية على التنمية المستدامة)، في إطار استجابة للحاجيات الاجتماعية القوية، والتي تثير تساؤلات الباحثين في الديداكتيك وأيضا تساؤلات المشرفين على التكوين وانتظارات الممارسين.
في البلدان الفرانكفونية، ترتبط الديداكتيك بشكل وثيق بالمواد الدراسية : باستثناء توظيف المسارات غير المكتشفة نسبيا للديداكتيك المقارنة، وللديداكتيك العامة ولديداكتيك المواد التخصصية، وهي مفاهيم تتداخل على مستوى الممارسة. إذا كان من الممكن تعريف العديد من عناصر التشابه ما بين التصورات الديداكتيكية التي تروج ضمن الفضاء الفرانكفوني والبلدان الألمانية، لكن هذا لا ينطبق على البلدان الأنكلوسكسونية، التي ما زالت فيها كلمة ديداكتيك نسبيا غير معروفة، وحيث الأنظمة المدرسية منظمة منذ بداية القرن 20 حول "النموذج" أي المنهاج والتوجيهات. ضمن هذا البعد، يحدد المنهاج الدراسي المحتويات التي يجب تدريسها (بالمعنى الواسع للكلمة)، ظريقة عرضها وشكل تطورها في الزمان، إضافة إلى الإطار الذي تراقب به المؤسسة التربوية الرسمية صيرورات التعليم والتعلم، فالمنهاج الدراسي بطبيعته هو بناء مؤسساتي متقادم. منذ اللحظة التي تعتبر فيها التربية والتكوين كرهان استراتيجي بالنسبة للدول، يمكننا أن نرى في هذا التصور أن الأنظمة المدرسية تشكل ميدانا يسمح بالتعريف المركز للمناهج المدرسية وبتقويمها الخارجي (أبحاث بيزا مثلا)، ولأغراض قياس ملاءمتها لحاجات عالم الشغل وللاقتصاد عموما. وهكذا يوجد اليوم اتجاه قوي والذي يستجيب بشكل جيدا في البلدان الأنكلوسكسونية لضغوط المنظمات الدولية كمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) كشكل من أشكال انعكاس صيرورات العولمة التي تتلقاها الأنظمة التربوية، وهي الرغبة في المراقبة الفعالة لوسائل البحث الكبرى المقارنة المبنية على التقنين.
ثانيا – النقل الديداكتيكي والممارسات الاجتماعية المرجعية :
يشكل الديداكتيك موضوعا لدراسة العلاقات بين المحتويات وأجرأتها في التعليم، خصائص التعليم وتقويم التعلمات. إذا كانت مساءلة هذا النظام المركب من العلاقات يشكل الخاصية الأولى للديداكتيك، فإنه ينبني على العديد من النظريات، والأجهزة المفاهيمية، وطرق الأبحاث التجريبية.
من بين المفاهيم التي تم تعريفها من طرف الديداكتيكيين في الفضاء الفرانكوفوني، والتي يظهر لي من الضروري تفسيرها بشكل سريع، مفهوم النقل الديداكتيكي، ومفهوم الممارسات الاجتماعية المرجعية، نظرا لأهميتهما في كل الأبحاث الديداكتيكية، وخاصة الحضور القوي للنقل الديداكتيكي.
عمل إيف شوفلار (Yves Chevallard 1985 – 1991) على صياغة مفهوم النقل الديداكتيكي، والسبق إلى استعماله في حقل الديداكتيك. وهكذا وبعد 10 سنوات أعاد إيف شوفلار طرح المفهوم الذي اقترحه السوسيولوجي مشيل فيري (Michel Verret) في أطروحته حيث درس طرق "تنظيم العمل، وخصوصا تلك المرتبطة أو المحددة بالزمان، والتي يشكل تقطيعها واستعمالاتها، إحدى العلاقات بالمعارف". فقد لاحظ مشيل فيري مختلف حقول التناقضات التي تؤثر على التعليم الجامعي (من خلال اهتمامه بطلبة جامعة ليل)، والتي تفرض فاصلا بين ما بين المعرفة المنتجة من طرف البحوث، والمعرفة المدرسة من طرف الجامعة. وهو ما قاده إلى إعلان أن " كل ممارسة لتدريس موضوع معين، وتحت تأثير التحول المرتقب في موضوعه، تتحول إلى موضوع للتدريس".
يقدم شوفالار تعريفا للنقل الديداكتيكي على الشكل التالي : "محتوى من المعارف والذي يعتبر كمعرفة للتدريس، يخضع [...] لمجموعة من التحولات التكيفية، والتي تجعله قابلا ليأخذ مكانته ضمن المواضيع المدرسة. فالنقل الديداكتيكي هو العمل الذي يرتبط بتحويل موضوع معرفي للتدريس ليصبح موضوعا للتدريس".
وقد ميز شوفالار بين النقل الديداكتيكي الخارجي، والذي يمكن موضوع المعرفة العالمة من المرور أو الانتقال إلى الموضوع المدرس، والنقل الديداكتيكي الداخلي الذي يمثل الصيرورة التي من خلالها يصبح الموضوع المدرس موضوعا للتدريس (موضوعا مدرسيا). وتتم هذه الصيرورة تحت مراقبة المدرس، بينما النقل الديداكتيكي الخارجي يرتبط بمجموعة واسعة من الفاعلين (خبراء في الحقل العلمي المعني، واضعو البرامج، مؤلفو الكتب المدرسية، المفتشون التربويون، الجمعيات المهنية للمدرسين...) والتي تشتغل تحت مراقبة المؤسسة المدرسية. وقد تمكن شوفالار من خلال نشر العديد من الإصدارات من التأصيل النظري لمفهوم النقل الديداكتيكي، ولاحقا من توسيع مجال تحليل النظام المدرسي عبر تدريس الرياضيات من أجل بلورة مقاربة انتروبولوجية.
إن القراءة السطحية للكتاب الأصلي لشوفالار، وتجاهل كتاب فيري، والذي ظل نشره لمدة طويلة سريا، أدى إلى عدم الاحتفاظ بالفكرة القائلة عبر العنوان الفرعي (من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسة)، ضمن هذا البعد، يتم النقل الديداكتيكي بالضرورة من المعرفة العالمة نحو المعرفة المراد تدريسها، ثم نحو المعرفة المدرسة، عبر حركة "تنازلية". وهذا ما أدى إلى تعزيز الانتقادات للذين يعتبرون بأن نظرية النقل الديداكتيكي تفرض "رضوخا مدرسيا للتعليم الابتدائي أو الثانوي لمنطق مفروض من طرف الجامعة"، أو أولئك الذين يرفضون فكرة تحول المعرفة، فهذا الموقف "يعتبر في نهاية المطاف أسبقية المعرفة [...]، فكرة النقل الديداكتيكي [والمرتبطة] بفكرة التشويه أو التبسيط المفرط". كما تم انتقاد النظرية التي طورها شوفالار بحجة مرجعيتها لمفهوم "المعرفة العالمة"، والتي أقحمت علوما أخرى، كالعلوم الاقتصادية والاجتماعية، والتاريخ، والجغرافيا، أو اللغة الفرنسية عبر الديداكتيكين، الذين ركزوا على تواجد ممارسات اجتماعية أخرى، والتي لا تتشابه مع "المعارف العالمة" وكلها تلعب دورا مرجعيا بالنسبة للمدرسين في المدارس".
رغم هذه الانتقادات والمعارضات الشديدة من طرف مدرسي الرياضيات، انتشرت نظرية النقل الديداكتيكي سريعا ضمن ديداكتيك بقية المواد، بدءا بديداكتيك العلوم (البيولوجيا، الفيزياء، الكيمياء)، ثم اللغة الفرنسية، والعلوم الاجتماعية (بالنسبة للجغرافيا مثلا هرتيغ 1989، أوديجي 1997، بالنسبة للعلوم الاقتصادية والاجتماعية بيوتون 2004). وخارج المناقشات التي أثارها مفهوم النقل الديداكتيكي، فإن فكرة النقل الديداكتيكي لها هدف واضح بالنسبة لتدريس كل مادة دراسية والتي تنهل من مرجعية المعرفة العالمة، والذي تؤدي (أو يجب ان يؤدي إلى) إلى تساؤل المدرس حول العلاقات ما بين المعرفة المراد تدريسها (المنهاج الرسمي) والمعرفة المدرسية المرجعية، وأيضا حول العلاقات التي يجب بناؤها، في إطار العملية التعليمية، ما بين ما هو مخصص للتدريس (المنهاج الرسمي) وما تم تدريسه فعلا (المنهاج الحقيقي/الفعلي).
المفهوم الديداكتيكي الثاني والكبير والذي تم نحته ضمن الفضاء الفرانكوفوني، هو مفهوم الممارسات الاجتماعية المرجعية، والذي اقترحه جون لويس مارتينار ( 1986). فقد هيكل مارتينار هذا المفهوم وذلك بالتفكير في المقام الأول في العلوم الاجتماعية والتي لها "مرجعية تعليمية مشكلة عبر الممارسات"، وليس عبر "المعرفة العالمة". يتعلق الأمر بالأساس بالمواد المرتبطة بتدريس التكنلوجيا والمهن. لكن فكرة الممارسات الاجتماعية المرجعية يمكن توسيعها نحو مواد دراسية أخرى، عندما تحملها بطريقة أو بأخرى، على واقع تجريبي.
تظل أهمية هذا المفهوم واضحة بالنسبة للجغرافيا، حيث يسهل تعريف "الأنشطة الاجتماعية كأنشطة البحث أو الإنتاج، الأنشطة الثقافية، أو الأنشطة المنزلية التي يمكنها بشكل مرجعي المساعدة على الأنشطة المدرسية". مثلا، التجارب التي يعيشها التلاميذ كسياح هي ممارسات اجتماعية مرجعية والتي يمكن استثمارها عندما نشتغل على موضوع السياحة في الجغرافيا. وتمكن هذه الممارسات الاجتماعية من تحديد "موضوع العمل، كمجال تجريبي والذي يشكل عمق التجارب والتي يترسخ عليها التعليم"، ويمكن للتلميذ أن يرجع إليها ليعطي معنى لما يتعلمه، وذلك بوضع العلاقة بين المعرفة الأكاديمية مع الحقيقة التي عاشها، أو التي يمكن أن يتخيلها، معرفيا وعاطفيا.
عموما، فاللجوء إلى الممارسات الاجتماعية المرجعية هي طريقة لوضع التعلم في سياقه : فالتلميذ مطالب بالربط بين التعلم المقترح عليه في القسم، والسياق العائلي الخارج عن الوضعية المدرسية. حسب الفرضيات والمعارف الحالية المرتبطة بوظائف البنيات المعرفية، هذه السياقية هي شرط أساسي من أجل أن يتحقق نقل المعارف.
وكخلاصة نسجل بأن مفهومي الممارسات الاجتماعية المرجعية والنقل الديداكتيكي لا يمكن الفصل بينهما : فقد وضح كل من أسطولفي، وداروت وغيرهما بأن المعرفة العالمة التي نرجع إليها في حالة النقل الديداكتيكي يمكن اعتبارها كممارسة اجتماعية من بين الممارسات الأخرى (ممارسة البحث)، ويستمد نفس هؤلاء الباحثين المفهوم من دوفلاي (1992)، ويوضحون أيضا بأن محتويات التدريس هي بنيات تختزل صيرورة مزدوجة للديداكتيك والقيم التي ترتكز في نفس الوقت على المعرفة العالمة والممارسات الاجتماعية المرجعية.
ثالثا – ديداكتيك الجغرافيا والجغرافيا المدرسية :
يشكل بروز ديداكتيك الجغرافيا ظاهرة حديثة نسبيا، وباستثناء كتاب دبيس أرفيسي (Debesse-Arviset 1969)، فقد ظلت المقالات أو الكتب باللغة الفرنسية المخصصة لديداكتيك الجغرافيا قليلة جدا قبل منتصف سنوات 1980. ففي سنوات السبعينيات (1970) ركزت الأبحاث بفرنسا على محتويات الجغرافيا ضمن "التخصصات الأدبية"، وتكلفت بها فرق البحث المختلفة المشكلة أساسا من أساتذة المدارس العليا والتي تشتغل تحت إشراف المعهد الوطني للبحث البيداغوجي (INRP). وقد تخصصت هذه الأعمال المدرسية الأولية في التعليم الابتدائي، وهي مجال لمجهود تنظيري يستهدف ربط رهان المقاربات البيداغوجية الجديدة، وخاصة الطرق النشيطة، مع تفكير حول المعارف الاجتماعية النافعة. ودائما بموازاة إشراف المعهد الوطني للبحث البيداغوجي وبشراكة مع المركز الوطني للتوثيق البيداغوجي (CNDP)، تم نشر سلسلة من الجذاذات الوثائقية لفائدة مدرسي الإعدادي (المدارس الثانوية تطابق في سويسرا مستويات السابعة والتاسعة من التعليم الإجباري)، وبجودة متباينة من حيث محتوياتها. توضح هذه الوثائق المنشورة تصورا جد كلاسيكيا للجغرافيا والمحرومة من "كل تفكير نظري حول الممارسات البيداغوجية وحول ملائمة المعارف المنقولة".
في سويسرا، نشرت الجمعية الفودوازية للجغرافية خلال الموسم الدراسي 1973 – 1974، نصا بعنوان الأهداف العامة لتدريس الجغرافيا بالمدرسة. والتعريف الذي يقدمه هذا النص في افتتاحيته للجغرافيا يظل حداثيا بالنسبة للفترة المذكورة، كما هو الشأن بالنسبة للأهمية المعطاة للتفكير الابستمولوجي، والذي يمكن من بناء ملائمة المحتويات المدرسة في القسم. وللأسف، فإن هذا النص لم يكن له الوقع المنتظر على جهاز التدريس نتيجة غياب الدعم المؤسساتي من جهة، ونتيجة حداثته من جهة أخرى، وبدون شك كان شيئا ما سابقا لعصره.
انطلاقا من منتصف سنوات الثمانينيات، تضاعفت الأبحاث في ديداكتيك الجغرافيا، استجابة للطلبات المؤسساتية (تجديد المناهج، التفكير حول رهانات وخصائص التقويم...) ولأصداء التحولات التي عرفتها الجغرافيا الجامعية. ففي فرنسا، أبانت الأبحاث التي أنجزتها فرق البحث التابعة للمعهد الوطني للبحث البيداغوجي وتحت إشراف فرنسوا أوديجيي، عن اختلافات كبيرة على مستوى الطرق والنتائج والتي تم نشرها بمناسبة الندوة السنوية التي نظمت سنوات (1986 – 1992). وبموازاة ذلك، وبشراكة مع المعهد الوطني للبحث البيداغوجي، تشكلت فرق البحث على مواقع مختلفة (وأساسا في كايين، كرونوبل، ونيم – مونبوليي)، كما تشكل فريق من الديداكتيكيين في أحضان الجمعية الفرنسية للتنمية الجغرافية (AFDG). وتعمل هذه الفرق المختلفة على تطوير مواضيع أبحاثها (وأساسا التحليل المجالي بالنسبة لنيم – مونبوليي، جغرافية التمثلات في كايين وكرونوبل)، وتوجد إنتاجاتها تحت أشكال مختلفة، وأساسا في بعض الكتب المدرسية. وقد عملت مجموعة كايين على تشكيل تفكير متميز ومتناسق حول تكوين المدرسين والدور الذي يجب أن تلعبه الديداكتيك في ذلك (أبحاث لورو وتيمينيز). في نفس الفترة، ظهر قطب ديداكتيكي للجغرافيا في بلجيكا حول ميرين شوماخير (جامعة لييج) وفدرالية مدرسي الجغرافيا ببلجيكا (FEGEPRO). وفي ما بين سنوات 1990 – 2000، لعبت هذه المجموعة دورا أساسيا في التعريف المرجعي للكفايات، بالنسبة للجغرافيا كما هو الشأن بالنسبة لباقي المواد المدرسية، محددة "الكفايات النهائية" التي يجب على التلاميذ اكتسابها في الوقت الذين يغادرون فيه التعليم الإجباري. هذا العمل التصنيفي المفاهيمي والمنهجي، كان له أهمية في تعريف الإطار العام المتجانس.
تتابعت الأبحاث المنجزة من طرف المعهد الوطني للبحث البيداغوجي، مانحة المجال لانعقاد ندوتين كبرتين سنتي 1995 و 1996 واللتين همت موضوعاتهما صلب كل التفكير الديداكتيكي للجغرافيا :"بناء المجال الجغرافي" ثم "المفاهيم، النماذج والبراهين". وقد اشتغل الفريق الديداكتيكي للجمعية الفرنسية للتنمية الجغرافية (AFDG) أساسا حول التكوين المستمر للمدرسين، منتجا العديد من الأبحاث المتنوعة والتي تم نشر نتائجها عبر منتديات الجامعات الصيفية والمدعمة من طرف وزارة التربية الوطنية إلى حدود 1996، كما شارك الفريق في البحث الكبير للمعهد الوطني للبحث البيداغوجي حول بناء المجال الجغرافي، حيث رأت أنشطته النور منذ سنة 1998. ومع بداية 1990، وكنتيجة مباشرة لفتح المعاهد الجامعية لتكوين المعلمين (UFM) ، تم نشر العديد من الأبحاث حول "الديداكتيك بصفة عامة، والتكوين المستمر بصفة خاصة، واللذين كانا مترابطتين، وتم التخلي عنهما لفائدة المعهد الجامعي لتكوين المعلمين". منذ سنة 1999، تم تنظيم مجموعة الرهانات المعاصرة لتدريس التاريخ والجغرافيا (ECEHG) التابعة للمعهد الوطني للبحث البيداغوجي من خلال تخصيص كل سنة لندوة تهم ديداكتيك التاريخ والجغرافيا، هذه الملتقيات الدراسية الدولية، هي مجالات متميزة للتواصل وتبادل وجهات النظر بين الباحثين، والمكونين والمدرسين المهتمين بالإشكالات الراهنة لديداكتيك التاريخ والجغرافيا وللرهانات التي تنتظرهم. من بين الإشكالات والرهانات المطروحة حاليا بالنسبة لديداكتيك التاريخ والجغرافيا هو : "تدريس التساؤلات المجتمعية الحية وتطوير مختلف أشكال الممارسات التربوية، التربية على المواطنة، التربية البيئية، التربية وفق منظور التنمية المستدامة...".
من جانبها عرفت سويسرا منذ نهاية سنوات الثمانينيات، انطلاقة موازية ومتنوعة لديداكتيك الجغرافيا في كل من جنيف، ولوزان، ونيوشاتل. في جنيف ركز البحث الديداكتيكي حول الأسئلة المرتبطة بإعادة تعريف المنهاج ضمن السلك التوجيهي، ولرهانات تقويم عمل التلاميذ. وتحت إشراف بيير فارشير (Pierre Varcher)، تم انجاز عمل ضخم للتصنيف المفاهيمي في بداية سنوات التسعينيات، والذي تم معاينته من خلال تعريف المنظومة المشكلة من سبعة (7) مفاهيم متكاملة والتي تشكل أدوات التفكير الخالصة للجغرافيا . في نيوشاتل، ساهم توريا (P-Y.Theurillat) عبر نشر أدوات التدريس في تجديد الجغرافيا المدرسية والتفكير الديداكتيكي. في لوزان، اشتغلت مختلف فرق البحث في ديداكتيك الجغرافيا ضمن (SPES) فيما بين سنوات 1986 و 2002، أساسا حول الرهانات الديداكتيكية لاستعمال الصورة وحول تجديد المقاربة الديداكتيكية للمشهد في التعليم الثانوي. ويلتقي اهتمامهم الفكري حول المفاهيم الأساسية للجغرافيا وترجمتها ضمن الجغرافيا المدرسية، مع نظرائهم في جنيف خلال سنوات البحث – التنموي والتي انتهت بنشر الكتابين المدرسيين المخصصين للمستوى السابعة والتاسعة من التعليم الإجباري وللدلائل المنهجية الموازية لهما.
بعد إحداث المدرسة العليا البيداغوجية في فود (HEP) سنة 2001، عمل فريق البحث في ديداكتيك الجغرافيا (تحت إشراف فليب هرتيغ/صاحب هذه الأطروحة)، على معالجة مواضيع جديدة للبحث، وخاصة ديداكتيك الجغرافيا بالنسبة للمستويات الأولى من التعليم الثانوي وتقويم عمل التلاميذ المبني على المقاربة عبر الكفايات، ومتابعة الأعمال المنجزة حول المفاهيم المتكاملة للجغرافيا، أساسا حول الصورة والمشهد. في الوقت الذي انفتح فيه فريق لوزان على إشكالات البحث في ديداكتيك العلوم الاجتماعية. وقد أخذ هذا الانفتاح شكل المساهمة في مشروعين كبيرين للبحث والمدعم من طرف الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي والذي يقوده فريق البحث في ديداكتيك وابستمولوجية العلوم الاجتماعية (ERDESS) تحت اشراف "فرانسوا أوديجيي"، وقد اهتمت هذه المشاريع بدراسة مساهمة التخصصات المدرسية للعلوم الاجتماعية في التربية على التنمية المستدامة.
لم يكن غريبا استحضار مجالات التفكير والبحث المتعلقة بديداكتيك الجغرافيا ضمن الفضاء الفرانكوفوني. ومن الأفيد توسيع آفاق الأبحاث التي يقودها بعض الديداكتيكيين الألمان ضمن مجموعة العمل النشيطة في ديداكتيك الجغرافيا (GDGg) منذ نهاية الثمانينيات. فقد أقامت هذه المجموعة سلسلة من التظاهرات من أجل التكوين المستمر على صعيد سويسرا، كان آخرها "منتدى الجغرافيا سنة 2006" والذي خصص للرهانات والتحديات التي تمثلها التربية على التنمية المستدامة بالنسبة للجغرافية المدرسية. كما نشرت العديد من "الوثائق الديداكتيكية" المتنوعة، والتي استقبلتها الأوساط التعليمية للجغرافية المدرسية عموما بشكل إيجابي (وحتى في أوساط الجغرافيا الجامعية)، رغم بعض النقاشات الساخنة في بعض الأحيان. وقد أبانت هذه النقاشات على أن النماذج الإبستمولوجية للجغرافيا ليست متشابهة في كل سويسرا : فالترسيخ الضمني للجغرافيا ضمن العلوم الاجتماعية يطرح مشكلا في الشطر السويسري الناطق باللغة الفرنسية عكس الشطر السويسري الناطق باللغة الألمانية.
يمثل مفهوم المادة المدرسية مفتاحا جيدا لقراءة هذه الوضعية : فالجغرافية المدرسية الممارسة ضمن الشطر السويسري الناطق باللغة الألمانية ترتكز على محتويات "الجغرافية الطبيعة"، مع مواضيع ثابتة والتي تنطلق من علم الفلك إلى دراسة الأرض والنطاقات البيومناخية الكبرى وميكانيزمات المناخ، ثم الانتقال عبر تكتونية الصفائح والعناصر الجيومورفلوجية. ورغم عدم غياب مواضيع "الجغرافية البشرية"، لكن اللون المهيمن هو "الجغرافية الطبيعية". وتندرج هذه الجغرافيا من منظور "إردكوند" والموروثة عن "ريتير" والمبنية على تصور معرفي للمجال، في حين أن الجغرافيا المقترحة ضمن البرامج في الشطر السويسري الناطق باللغة الفرنسية ينبني على تصور بنائي للمجال. وهكذا فإن الثوابت المشار إليها شكلت في المقام الأول مرجعية للمناهج الدراسية (البرامج)، وأن الممارسات داخل الأقسام تظل جد متنوعة أكثر من قراءة المناهج الدراسية التي لا تمكن من التفكير فيها، كما هو الشأن بالنسبة لإشكالات البحث الديداكتيكي في الجغرافيا التي تظل نشيطة في ألمانيا أو سويسرا. إدراك بعض آليات التدريس تشهد على نظرة تدرجية للجغرافية أكثر، تتضمن حضور البعد الاجتماعي والفاعلين. وأخذا بعين الاعتبار التقليد القوي "لإردكوند"، نفهم على الأقل حيوية ردود فعل العديد من الزملاء في الشطر السويسري الناطق باللغة الألمانية عندما يتم تصنيف الجغرافيا ضمن مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، في الوقت الذي تتم فيه أجرأة المرسوم الفدرالي حول الاعتراف بالشهادات الممنوحة من طرف المعاهد. كما نتفهم قلقهم في مواجهة المناهج الدراسية المستقبلية الخاصة بالتعليم الإجباري بالنسبة لسويسرا الناطقة باللغة الفرنسية، ومن خلالها تم تفكيك الجغرافيا ما بين مجالات علوم الطبيعة وعلوم المجتمع.
إنه من الصعب، بل من المستحيل، وضع مرجع نظري يستند إليه ديداكتيك الجغرافيا بطريقة نسقية. ويقدم لانز (2006) جردا تركيبيا للاتجاهات الكبرى التي ميزت ديداكتيك الجغرافيا الألمانية طيلة تاريخ تطورها. كما قامت ميرين شوماخر (2005) بنفس العمل بالنسبة للجغرافية المدرسية ذات التقليد الفرنسي. ويعطي كتاب روميكوس (2002) إطلالة مفصلة حول المصادر التي نهلت منها ديداكتيك الجغرافية الفرنسية منذ سنوات السبعينيات (1970)، في حين وضح ماسون – فانسون (2005) تأثير الديداكتيكين والجغرافيين الإنجليز الذين أشاعوا ممارسات لعب الأدوار. وقد منح لورو (2003) أهمية كبرى للتفاعلات الضيقة ما بين منطق المعارف، ومنطق المؤسسة، ومنطق المتعلم، وتشكيل ابستمولوجية الجغرافية المدرسية. ويوضح كليرك (2002) الذي رتكز على العناصر النظرية للانتروبولوجيا الثقافية، كيفية مساهمة الثقافة المدرسية – عبر الكتب المدرسية للجغرافيا – في بناء العلاقة مع العالم. ويطور تيمينيز (2004-2006) مرجعية مفهوم الجغرافية المدنية (géographicité) مرتكزا على النماذج الثلاثة لطرق التفكير في العالم والمحددة من طرف روتايي (2000)، وضمن مساهمة أخرى قام تيمينيز (2004) بفحص الطريقة التي يكتشف بها التلاميذ المعارف الجغرافية من أجل تشكيل هويتهم الشخصية، وهو ما مكنه من تعريف "علاقاتهم الجغرافية بالعالم". وبالتعاقب الزمني، يمكننا ملاحظة بأن المقاربة الديداكتيكية لكلاي ولمجموعة نيم – مونبوليي بنيت بطريقة ضمنية على مبادئ التحليل المجالي "المنقولة" انطلاقا من الجغرافيا العالمة. على الصعيد العام، نذكر بأن أفكار برونير ساهمت في الهيكلة اللولوبية في العديد من المناهج الدراسية للجغرافية. وأخيرا من اللازم تفحص العديد من الإصدارات لفرانسوا أوديجيي من أجل محاولة تحديد عناصر القوة التي عززت تطور ديداكتيك الجغرافيا.
فحسب أوديجيي (2008)، تميزت ديداكتيك الجغرافيا بمعالجة المواضيع الجديدة والإشكالات الجديدة النابعة من الجغرافية العالمة : "لا يتعلق الأمر بتدريس معارف مهجورة، بل يتعلق الأمر بشرعنة تواجدها بالمدرسة وذلك بوضعها المتقدم لعلاقاتها مع الأسئلة التي تطرحها مجتمعاتنا اليوم". من بين مختلف المفاهيم المبنية من طرف الديداكتيكيين، لجأ الجغرافيون بشكل تلقائي لمفهوم النقل الديداكتيكي والممارسات الاجتماعية المرجعية. ويطمح بعض الباحثين أن لا تتموقع مرجعيات الجغرافيا المدرسية ضمن الجغرافيا العالمة، وأن فكرة النقل الديداكتيكي ليست ملائمة بالضرورة في الجغرافيا : "المعارف الحاضرة في تدريس الجغرافيا هي بعيدة ولا تصدر إلا عن الجغرافيات العالمة، وتحليل محتويات بعض الكتب المدرسية أو بعض ملاحظات الاقسام توضح بان الجغرافيا المدرسة تجمع تنوعا كبيرا من المعارف والمعلومات والأدوات، حيث تظل مرجعياتها جد متنوعة". كما أشار البعض الآخر إلى حالة عدم الاستقرار المفاهيمي والابستمولوجي للجغرافية المرجعية من أجل محاججة مفهوم النقل الديداكتيكي في الجغرافيا. مفهوم الممارسات الاجتماعية المرجعية يظل مهما ومغريا بالنسبة لديداكتيك الجغرافيا، لكن "تطرح مسالة اختيار نوعية الممارسات الاجتماعية الملائمة من أجل استلهام ووضع الممارسات المدرسية". وأخيرا يمكننا اعتبار أن الأطر النظرية التي ينخرط فيها معظم ديداكتكيي الجغرافية الفرانكوفونيين هي السوسيوبنائية والتمثلات الاجتماعية – رغم كونهم لا ينتمون لنفس النموذج العلمي –. ودائما حسب أوديجيي المفهوم الأكثر ملائمة سيظل هو المادة المدرسية : صيرورة البناء المستقل للمواد المدرسية المعلنة، هذا المفهوم يستحق توضيحا لصيرورات التدريس والتي غالبا ما يتم نسيانها عندما تركز البحوث بشكل خاص على المرجعيات الابستمولوجية".
الأبحاث المنجزة في ديداكتيك الجغرافية منذ سنوات الثمانينيات، ساهمت بدون شك في تجديد الجغرافيا المدرسية، رغم أن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن محتويات الجغرافيا المدرسية لا تعكس دائما الاهتمامات التي تشكل موضوع الجغرافيا المرجعية. الجزء الأعظم من الأبحاث التجريبية المخصصة للمحتويات المدرسة وللمقاربات المعتمدة توضح بجلاء أن الجغرافيا المدرسة اليوم تقتصر غالبا على نوع من الجرد الوصفي وشبه الموسوعي، والتي تخلط المفاهيم لتأخذ معاني مشتركة وعناصر من المعرفة العلمية خارج سياقاتها، والكل حسب الخصائص التي ترجح كفة التعليم التلقيني. وللأسف يمكن أن تعتبر الجغرافيا المدرسية دائما حسب تعبير "لاكوست" : "كمادة مزعجة، لأنه كما يعلم الكل، ففي الجغرافيا لا شيء يمكن فهمه، ولكن يكفي التوفر على ذاكرة". ورغم الطموح المعلن في ضمن المناهج – على مستوى الغايات التي تمنحها المؤسسة المدرسية لتدريس الجغرافيا – هي تمكين التلاميذ من مفاتيح لفهم العالم الحالي والمساهمة في تنمية حسهم النقدي وكفاياتهم المواطناتية... لكن الفارق يظل ضخما بين المنهاج الرسمي والمنهاج الحقيقي، وما يمكن ملاحظته في العديد من الفصول الدراسية يؤدي بدون شك إلى تصديق مقولة "لاكوست"، ولا يمنح مصداقية كبرى للجغرافيا المدرسية. ضمن إصدار يعيد الحديث عن نفس الوضعية ويدقق التحليل المقترح بهذه الكلمات :
"لا تنفذ المقاربات الجديدة للتاريخ والجغرافيا ضمن الكتب والتمارين المدرسية إلا هامشيا ومتفرقا. أشكال التدريس – دروس إلقائية حوارية معتمدة على بعض الوثائق، تساؤلات بدون حدة فكرية كبيرة، هيمنة المعارف الواقعية والتصريحية – التي لا تتطور أبدا، إذا اقتصرنا على نتائج الأبحاث الوصفية لسنوات 1980 وإلى حدود سنوات 2000. المحاولات المؤسساتية للي الوظيفة التخصصية لم يكن لها تأثير على الإطلاق مقارنة بتأثير الديداكتيكيين والمكونيين.
[هذه التقارير يمكن أن تنفتح] على تساؤلات الفاعلين، التي تقارب عدم فعالية التكوين الجامعي والمهني ومنافذه، للمدرسين وجمودهم وحرفيتهم [...] هذه الحجج ليست بدون أسس، فمثلا، 80 % المدرسين المستقبليين هم على الأقل مؤرخين، يدرسون ويقرؤون قليلا الجغرافيا، أسبقية الميدان في التكوين يهدف إلى إعادة الإنتاج، عبر التنشئة الاجتماعية، وعبر التقليد، للممارسة المهنية الأكثر كلاسيكية...
نحن هنا إذن في إطار فهم للتعلم البعيد عن إسهامات السيكولوجيا وعلوم التربية، ويبدو أن التعلم هو نتيجة ضرورية لعرض مقدم جيدا. ودائما يتم تصوره بطريقة مغلوطة، ولكن بطريقة لزجة كنشاط تراكمي للطبقات المعرفية. إنه تصور للأسس التي تشكل هنا الأحداث أو المحاور الأساسية. فهي دائما تواجه الملموسات، كما أن فهم الحقيقة يجب دائما أن يسبق التجريد والأشكلة، وتمر من كل أداة فكرية. التصريح يستفيد من وضوح المعنى المشترك... ويصعب دائما جمعه مع تنظيم كفؤ أو مع تفكير بنائي بشكل واسع.
هذا التصور للتعلم هو على العكس متناسق مع الممارسة التخصصية التي تفكك المعرفة إلى مواضيع معزولة، أي مع تنظيم زمني مدرسي يؤدي إلى المطالبة بدراسة موضوع محدد جيدا عبر حصة دراسية، ومجاورة المواضيع كما تتجاور الحصص الدراسية... وأخيرا فإنه يتكيف مع ممارسة تقويمية التي تتميز بإعادة إنتاج المعرفة في شكل منظم، أكثر من القدرة على التساؤل والحجاج. إحكام التناقضات المدرسية يمكن أن يشكل مفتاحا للإصرار في تدريس التاريخ والجغرافيا، في إطار تصور وضحت العديد من الأبحاث حدوده وسذاجته".
بعد مرور 20 سنة، وفي إطار تصور وازن وصادم، نجد في إطار هاتين المقولتين العناصر الأكثر قربا التي عبرت (فليب هرتيغ) عنها ضمن إحدى إصداراتي الأولى : "اليوم أيضا، في الفضاء الفرانكوفوني على الأقل، تؤثر هذه الجغرافيا التقليدية بقوة على تصور بعض البرامج المدرسية والعديد من الكتب المدرسية، دون أن نتحدث عن ممارسات المدرسين المكونين في هذه المدرسة. في كل الحالات، يظهر لي بأن هذه الجغرافيا محكوم عليها مسبقا بالفشل، فهي تحمل في ذاتها موتها الخالص، فهذه المعرفة المفككة، وبدون الملامح الواضحة، لا تثير إلا اهتماما قليلا".
إذا كانت المناهج قد تطورت منذ أن منحت للجغرافيا غايات محددة، نلاحظ بقوة أن الجغرافيا المدرسية ظلت تقاوم التحولات. وبدون شك فإن هذا الجمود يمكن إيعازه للعوامل التي أشار إليها "تيتيو كيون"، والتي يمكن أن نربطها بخصائص النموذج التخصصي الكلاسيكي المحدد من طرف "أوديجيي" بالنسبة للتاريخ والجغرافيا المدرسيين، نموذج يتميز بالخاصيات الأربع التالية :
• أسبقية النتائج : ما يتم تدريسه في المقام الأول هو ما نعرفه أساسا حول موضوع معين، أو ما نتمكن منه بشكل صحيح في لحظة ما، وهو ما يجعلنا نشك في المعارف التي يجب تجنبها، والتفكير حول بنيتها.
• المرجع التوافقي : نتجنب النقاشات، والمواضيع التي يمكنها أن تثير جدالا، لأننا نبحث عن بناء "عالم مقبول من طرف الجميع".
• رفض الرهانات السياسية : الرهانات السياسية والإديولوجية والقيمية المتعلقة بالمعارف، يتم تجاهلها على الأقل، والمعارف لا تبرهن عن علميتها.
• الواقعية : أسبقية النتائج تعني صحة ما تم قوله أو كتابته، وكنتيجة فإن الخطاب التاريخي والجغرافي هو حقيقة الماضي أو اليوم، هنا أو هناك، لا يمكن إدراك الخطاب وأدواته كبناء فكري، بشكل يجعل أهمية اللغات في إنتاج المعنى وطريقة التفكير في العالم مجهولة.
وقد تمكن "أوديجي" من بناء هذا النموذج بالاعتماد على الجغرافيا والتاريخ المدرسين في فرنسا الوفية "للجمهورية"، وكنتيجة للغايات الأبوية والوطنية والتي ظلت لمدة طويلة ممنوحة لهاتين المادتين، بهدف نقل تمثل مشترك لذاكرة أمة ولترابها. لكن يظهر هنا بوضوح بأن الخاصيات المحددة والموضحة عبر هذا النموذج ذو الخاصيات الأربع يوجد في تدريس الجغرافيا والتاريخ خارج التراب الفرنسي.
كيف يمكن شرعنة مادة مدرسية مصممة؟ هذا الطموح لبناء توافق يختل ضمن أحداث هذا الطموح المعلن في هذه المادة لتشكيل الحس النقدي، والمساهمة في عدم شرعنته على المستوى الفكري. ولهذا من المستعجل إعادة التفكير في جغرافية مدرسية تتميز في نفس الوقت بملائمتها الاجتماعية وشرعنتها العلمية. جغرافية يعاد التفكير فيها، حسب ملائمتها الاجتماعية الحقيقية وشرعنتها العلمية التي لا خلاف فيها، وتصور للتعلم يأخذ بعين الاعتبار إسهامات الأبحاث الحالية.