"نعيش في وطن يطالبك فيه اللصوص بالتقدير والاحترام أو الصمت"
م.الزاهيد
إن الناس حينما فكروا في وضع حد لحالة العنف المفترضة في الطبيعة التي نظّر لها كل فلاسفة العقد الاجتماعي، كانت غايتهم الأساسية أن يقضوا على العنف الذي يمكن أن يلجأ إليه كل واحد مستخدما قوته الخاصة في الدفاع عن ممتلكاته، أو الثأر لنفسه وكبريائه وحماية بقائه، مقابل ضمانات حقيقية، قانونية وسياسية عبروا عنها في  تأسيس تعاقد اجتماعي وسياسي، وهو ميثاق إرادي أملته مصالحهم المشتركة، وقد يكون هذا العقد في البداية خادما للواحد المتعالي/الملك أي الحاكم، لكن  مفكري الأنوار الذين بلوروا  لنا الأسس التعاقدية الصلبة للديمقراطية الليبرالية الحالية، فكروا في أن يكون التعاقد مسؤولية جماعية يتحملها ويشارك فيها الجميع، لأنها مبنية على  احترام القوانين وطاعتها، وهي نفس القوانين والتعاقدات التي وضعوها هم بأنفسهم، لأنها تعبّر عنهم وتجسد إرادتهم العامة، لكن حينما يصبح هذا التعاقد لا يجسد إرادتهم، فمن الناحية الأخلاقية والسياسية بالخصوص، لا يعود ملزما لهم، لأن الأصل في العقد الاجتماعي المؤطر للدولة ومؤسساتها هو الإرادة الحرة لكل فرد في التعاقد وأن يساهم في صياغة بنود وشروط هذا العقد، وهي ذات الإرادة التي لايمكن أن تتم صناعتها أو وضعها في شروط وإكراهات وحتميات تكون فيها ملزمة بالاختيار بين العبودية أو البطالة.

تجتاح أرجاء العالم عموما وأروبا خصوصا مند سنوات تغيرات عديدة: استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، تصاعد شعبية اليمين المتطرف في الكثير من البلدان، ترهل معظم الأحزاب التقليدية وفقدانها لبريقها.. إضافة إلى موجة من الاحتجاجات التي باتت ترهق أجهزة الدول ولعل أخرها حركة السترات الصفراء التي وضعت النظام السياسي الفرنسي في موقف حرج،  خاصة بعد فشل الدولة في التعاطي معها بشكل يليق بمكانة دولة عريقة في الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لعل هذه التغييرات مؤشر على عجز النظام الديمقراطي المعتمد منذ الحرب العالمية الثانية في جل البلدان الأوربية على الاستجابة للحاجات المتزايدة التي يشهدها العالم الحالي في مجال الحكم وتدبير الاختلاف...

في الآونة الأخيرة، أجرت جريدة "بروفانس" الناطقة بالإنجليزية حوارا مع الدكتور ه. أ. هيلير حول الإسلام السياسي والليبرالية والتوافق في الشرق الأوسط. فمن هو يا ترى هيلير؟ هو أستاذ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الدينية في الغرب والعالم العربي. أنجز دراسات أمنية لفائدة المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن. في أعقاب تفجيرات لندن عام 2005، تم تعيينه نائباً لقائد فرقة عمل حكومة المملكة المتحدة في مجال التعامل مع التطرف، وعمل كأول عضو في مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية لتتم ترقيته إلى وزارة الخارجية والكومنولث في المملكة المتحدة كعنصر منتم إلى مجموعات "الإسلام" و "محاربة الإرهاب".

" إن محو الاستعمار هي عملية تاريخية ، لا يمكن أن يفهم ويعقل ولا يمكن أن يصبح واضحا بنفسه إلا بمقدار الحركة الصانعة للتاريخ التي تهب له شكله ومضمونه"1[1]
تتعرض الحالة المجتمعية إلى هجمة شرسة على كل شيء ومن جميع المحاور، إنها هجمة على الإنسان والثروات والأرض والتاريخ و تفكيك للطبقة والمؤسسات والموارد والطاقات والقدرات، سواء من الخارج أي من الأعداء التقليديين والجيران المتربصين وسواء من الداخل أي القوى الانفصالية والحركات الضالة والمجموعات التابعة. لقد وجد المثقف الحالي الموظف نفسه في ورطة قاسية وبات ينفذ آليا ما يتلقاه من تعليمات ويكتفي بمسايرة مقترحات قوى الضغط ومطالب الفاسدين وقرارات التي تمليها الأجهزة الرقابية.

تكمن أزمة الفكر العربي الحديث في كونه ظل فكراُ نخبوياً طلائعياً تؤمن به -نسبياً- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، هذا يشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي. بالرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات ما زالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطوراً مبتوراً وحداثة مشوهة. لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظرياً، ولم يستطيع "النعيم" الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات أو مطاردين أمنياً، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.

لأن الغرب الحديث عَلماني..صار أعداء العَلمانية ينسبون إلى العلمانية كل ما في التاريخ الغربي الحديث من عنف وحشي وجرائم وفساد، ولا يرون فيه إلا هذا! فرغم أن ظاهرة الاستعمار ضاربة الجذور في عمق التاريخ، والدولة العلمانية حديثة حتى بالنسبة للتاريخ الحديث، فقد صارت كل جرائم الاستعمار الغربي في العصر الحديث تعود برأيهم إلى العلمانية، والعنف الناتج عن صراع المصالح المسعورة وحروبها هو أيضا بسبب العلمانية، وكذلك العنف الحاصل في الثورات والصراعات الداخلية هو أيضا من صنع العلمانية، وعليه فكل ضحايا الحربين العالميتين، وضحايا المستعمرات والحروب بين الدول الاستعمارية، وضحايا الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية كلها بسبب العلمانية، ولم لا ننسب إلى العلمانية أيضا عنف الصراعات الدنيية بين المذاهب المسيحية وكل ما سقط فيها من ضحايا ونقول أن العلمانيين الغربيين كانوا وراءها؟! فهذا ممكن طالما أن الغرب العلماني الكافر هو الذي يصنع الحركات التكفيرية الإرهابية من المسلمين المؤمنين وفي ديارهم!

"صريع الحرية"، ربما يكون هذا الوصف هو الأليق بخاتمة حياة عبد الرحمن الكواكبي، أول من وقف على أصل الداء السياسي في العالم الإسلامي في عصوره الحديثة، ولم يكن وقوف الرجل أمام هذه الحقيقة بقلمه فقط، وإنما كان بمواقفه وآرائه التي عبرت عن شجاعة نادرة في وجه الاستبداد والظلم الذي رآه في موطنه حلب، وقد كلّفه ذلك مناصبه وأمواله وهجرته من وطنه ثم في نهاية المطاف حياته، فمن هو الكواكبي؟ وكيف بحث عن الحرية وسار مدافعا عنها طوال حياته؟!

حين تفتحت عيناه على الاستبداد!

في عام 1854م ولد عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي في مدينة حلب لأسرة عريقة تعود أصولها إلى النسب الهاشمي من جهة الأب والأم، تربى الكواكبي في بيت علم وأدب، فوالده كان مدرسا وشيخا للمدرسة الكواكبية في حلب، وحين بلغ الكواكبي العام السادس من عمره تُوفيت والدته، فتولت خالته السيدة صفية في مدينة أنطاكية لمدة ثلاث سنوات رعايته وتأديبه، وهنالك تعلم الكواكبي بعض اللغة التركية وقد استكمل تعلمها في حلب فيما بعد، ثم أضاف إليها تعلم الفارسية فضلا عن اللغة العربية التي بلغ فيها المستوى الذي يصبو إليه رواد الفكر العربي ونابغوه.

غلاف الكتاب

تستمدّ مضامين كتاب "الإسلام السياسي في البلاد العربية.. التاريخ والتطوّر" أهميتَها من تركيزها على الراهن العربي اليوم، وهو مؤلف صادر بالإيطالية ومن إعداد أستاذة التاريخ السياسي الإيطالية لاورا غواتزوني ومجموعة من الباحثين. فقد شهدت دراسات الإسلام السياسي في أوروبا، في السنوات الأخيرة، بوادرَ نضج بعدما لازمها خلطٌ وتوظيفٌ وتأويل مجحف على مدى عقود. يأتي ذلك التحوّل بفعل تراكم الأبحاث ومقاربة الظاهرة باعتماد مناهج عدة فضلا عن نقد داخلي. وفي هذا الكتاب الجماعي الصادر بالإيطالية ثمة ما يشي بحصول تطور إيجابي، يرفده مستوى مقبول من الموضوعية عند التحليل والتفسير، بعيدا عن الأحكام الجزاف التي عادة ما تطغى في هذا الحقل. الأبحاث بشكل عام تندرج ضمن الجدل العالمي بشأن الإسلام السياسي، وبالتالي هي محاولة للإجابة عن تساؤلات مطروحة في الراهن. فالمؤلَّف الحالي يحاول أن يخرج من الجدل المتنافر لإعطاء صبغة علمية منهجية في الإحاطة بالظاهرة بعيدا عن المحاباة أو المجافاة. ولا يسعى لتقديم إجابات جاهزة أو أحكام قطعية، بل يحاول رصد ظواهر متداخلة من منظور تاريخي اجتماعي سياسي.