anfasseإنّ كلّ كلام عن الإله هو "كلامنا" نحن وإن ظنّ البعض أنه يقول الله كما تعرّف إلينا- على حدّ لغة المتصوّفة- ،أي زعم أنّه ليس إلا ّمجرّد صدى يعيد إنتاج الصوت الأصلي كما هو.و إذا ما أردنا تخصيص هذه الملاحظة و البحث عن تجسيداتها الحدّية أو القصوى داخل التراث الإسلامي،لوجدنا أنّ الفكر السّلفي –قديمه وحديثه- هو الممثّل الأبرز لهذا المنزع التأويلي و ما أنتجه من عنف تراوح بين حجب جسد الدلالة المخالفة و تهميشها ضمن مجال دوران النصوص، و بين إقصاء جسد المستدلّ أو جعله محلاّ لجملة من الأحكام الفقهية و ما يستتبعها من تبديع أو تكفير داخل السياق الفرقي المهيمن و ما يعنيه ذلك من"  نتائج  في غاية الخطورة تتعلّق بالمصاحبة والموالاة و المشاركة والتزاوج و التوارث و العيادة عند المرض و الإغاثة من الضائقة و الصلاة والترحّم و الدفن عند الموت"(1)
    ينطلق هذا المقال من بداهة نصّية حاولت كلّ المتون الكلامية أن تجد لها مخرجا معقولا دون أن تظفر من ورائها بطائل إلاّ مراكمة الأقوال و المواقف التي كان منتهى أمرها أن تسود مجالا جغرا-سياسيا معيّنا  أو مرحلة مخصوصة من مراحل التاريخ الإسلامي .و ليست هذه البداهة سوى أنّ القرآن لا يقول الله بكلام ذي دلالة واحدة أو بلغة القدامى فإنّه حتّى عندما يحضر "النصّ" الذي لا يحتمل أكثر من تأويل ،فإنّ آيات أخرى تدفع بالمتلقّي إلى مدارات التأويل لأنّها تحجب بقدر ما تبين ، تنزّه بقدر ما تشبّه  و تلك عورة اللغة ،كما أسماها الباحث المصري نصر حامد أبو زيد عند حديثه عن الشيخ الأكبر إبن عربي . فاللّغة التي هي مسكن الكائن البشري في محدوديتهsa finitude،لا شكّ عاجزة عن أن تكون مسكنا للمطلق إلاّ بعد أن يساق الحديث عنه ضمن حدود اللغة و إكراهاتها والتي ليس أقلّها أهمّية محدّدات التلقّي المعرفية والسلطوية-الايديولوجية.

anfasse.orgمدخل:
إن مفهوم الآنا والآخر هو في حقيقة الأمر علاقة تربط بين الذات والغير أوالعالم الداخلي و  العالم الخارجي، إن بشكل مباشر وواع أو غير ذلك.
هذه العلاقة طرحت كإشكالية منذ أن وعى الإنسان بأناه  (Le moi) ووجودها في استقلال عن العالم حسب الكوجيطو الديكارتي، حيث أصبح هذا الوعي عند هوسرل فتحة أو بابا نحو الغيرية، وعن طريق اللغة يضيف هوسرل نكون مع هذا الغير في تفاهم و انسجام متبادل حيث يقول : " عندما أتكلم لغة، فأنا لست وحيدا، فعندما أتكلم لغة، فهذا معناه أنتمي إلى مجموعة".
فإذا تأملنا جيدا قول كل من ديكارت وهوسرل، سنقف على التحول العميق الذي أصاب الوعي الأوروبي، من الوعي بالذات كفرد إلى الوعي بالذات كجماعة، من لحظة تأسيس الوعي الفرداني الذي تأسس عليه الفكر اللبيرالي في القرن 18 إلى الوعي بالجماعة الذي تأسس عليه الفكر القومي وخاصة الألماني في القرن 19.
وما يهمنا من هذه النتيجة هو أن الأنا أو الآخر قد يجسد الفرد كما قد يجسد الجماعة، والنتيجة واحدة وهو ذلك التباعد أو التمايز بين الأنا والآخر.
فإذا كانت الأنا مفهوما شبه محدد في الذات فإن الآخر يبقى تطرح حوله مجموعة من الأسئلة، هل يمثل أنا / الآخر un autre- moi-même أي مثلي ومختلف عني كالتعريف الأرسطي للجوهر: " هو الشيء القائم بذاته، والمتميز عن غيره". فإذا تجاوزنا البعد الذي يميز الإنسان عن غيره، فبماذا يتميز الإنسان عن أخيه الإنسان، يجعل منه آخرا يختلف معه في الحضارة والثقافة والسياسة والعقيدة ...الخ. 
إن الحديث عن الآخر سنتعامل معه في هذه المقالة كجماعة قد تنتمي لنفس   الثقافة ونفس الهوية لكن قد تختلف مرجعياتها وأصولها النظرية، أو تختلف في إانتمائها العقدي الديني. وفي نفس الوقت قد ت نتعامل معه ( أي الآخر) كجماعة لها هوية وثقافة تنتمي إلى حضارة مغايرة لحضارة الآنا. ومن خلال هذه النظرة سنحاول استخراج الأسس النظرية لمفهوم آخر جدير بالاهتمام، وهو مفهوم الاختلاف، الذي تأسست واننبنت عليه مجموعة مفاهيم آخرى كمفهوم الديمقراطية – والحرية – والتعدد. وحق الآخر في الوجود كحق من حقوق الإنسان الأساسية.

anfasse.orgيعتبر التعدد اللغوي والتنوع الثقافي سمة ملازمة للمجتمع البشري، بحيث يصعب الحديث عن مجتمع أحادي اللغة أو الثقافة، ففي كل الدول تتعايش اللغات المختلفة والثقافات المتنوعة بهذا القدر أو ذاك. و المجتمع المغربي لا يشكل استثناء، فعبر تاريخه تعايشت حضارات عريقة عابرة مع الحضارة الأمازيغية التي يشهد لها التاريخ بكونها أولى الحضارات المتواجدة في منطقة شمال إفريقيا.
عبر تاريخه وبفضل موقعه الاستراتيجي شكل المغرب منطقة عبور، توافدت عليه كبريات الحضارات: الفينيقية، البيزنطية، الرومانية، العربية - الإسلامية... وتعايشت مع "السكان الأصليين"، وحصل ما حصل من تمازج وأخذ وعطاء، وتداخلت الثقافات العابرة مع الثقافات المحلية. وتعتبر الحضارة العربية ـ الإسلامية أهم حضارة عمرت المغرب قرون عديدة، ولازالت إلى اليوم حيث يشكل الإسلام واللغة العربية جزءا من الهوية المغربية. وإذا كانت أغلب الدول (خاصة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين) قد عملت على معالجة التعدد اللغوي والتنوع الثقافي من خلال إقرار لغات رسمية بدلا من لغة رسمية واحدة، فإن المغرب لا يمتلك بعد تصورا واضحا لهذه التعددية، وسياسته اللغوية ليست واضحة بما فيه الكفاية (إن صح الحديث عن سياسة لغوية بالمغرب)، على الرغم من التغيرات الحاصلة مع مطلع الألفية الثالثة بعد الاحتواء السياسي لجزء من الحركة الثقافية الأمازيغية والعمل على تدريسها في التعليم الأولي، لذلك نرى ضرورة الوقوف على الوضع اللغوي بالمغرب لتحديد مكانة الأمازيغية في الخريطة اللغوية السائدة.

الوضع اللغوي بالمغرب:
للغة طابع اجتماعي وثقافي، وليست مجرد أداة للتواصل، إنها أداة لنقل القيم و التعبير عن الحياة الاجتماعية، وأساس الهوية الجماعية والفردية، وهي رمز من رموز التراث الثقافي وحاملة المعرفة وناقلتها، كما أنها أداة للتنشئة الاجتماعية، فمن خلالها يتحدد نمط السلوك والشخصية، ولا يستطيع الفرد أن يبدع وأن يفكر خارجها، لذا يتعين تحديد وظيفة اللغة: فهل اللغة مجرد أداة لاستهلاك الجاهز وتلقين المعرفة أم أنها أداة للإبداع؟ لا يمكن أن نحدد دور ومكانة اللغة، إلا بتحديد وظيفتها، لهذا يذهب بعض المهتمين بالموضوع إلى الحديث عن كون القضية اللغوية بالمغرب يمكن معالجتها من ثلاث مستويات:

anfasse.orgمن خلال كتاب "وصف إفريقيا"
تقديــم إشكالي
تعتبر كتب الرحلات والجغرافيا من المصادر التاريخية التي تشكل إطارا مرجعيا مهما، ومادة أساسية يستقي منها الباحث، في الدراسات الإفريقية خاصة، الكثير من المعطيات المفيدة التي يمكن أن يؤسس عليها فرضياته النظرية وبناءه التاريخي، لرسم صورة عن تاريخ العلاقات التجارية بين بلاد المغرب عامة وبلاد السودان الغربي ولاسيما في بداية العصر الحديث. ويعتبر كتاب "وصف إفريقيا" للحسن الوزان() من بين أهم هذه الأصناف من الكتب التي تفي بالغرض في هذا المجال. إنما ما هي الأهمية التي تكتسيها هذه المصادر عموما؟ وما هي الإشكاليات التي تطرحها على المستويين المعرفي والمنهجي؟ وما هي القيمة العلمية والمعرفية لكتاب "وصف إفريقيا" خصوصا، وما مدى استفادتنا منه؟

1 - أهمية المصادر التاريخية المغربية -لاسيما منها كتب الرحلات والجغرافيا- والإشكاليات التي تطرحها معرفيا ومنهجيا

جوابا عن التساؤلات التي طرحناها من قبل، يمكن القول إنه رغم أن المصادر المغربية عموما وكتب الرحلات خصوصا كتبت بذهنية مغربية، فهي مع ذلك مصادر لا غنى عنها لأنها تكمل في الغالب المعلومات الواردة في التواريخ السودانية()، وتكمن أهميتها كذلك في دحضها لبعض الأطروحات أو الأفكار التي دافع عنها بشدة بعض الباحثين الأجانب، كظاهرة جلب الرقيق السود من بلاد السودان التي دافع عنها أبطبول() وغيره، وهي تكتسي أهمية بالغة بحكم ما تزخر به من معطيات قيمة، وما تقدمه من عناصر على شكل إشارات وأوصاف وروايات يمكن للمؤرخ أن يعتمد عليها في بنائه لتاريخ المجتمعات()، كما أنها تكشف عن كثير من المعطيات المتعلقة بموضوع هذه الدراسة بالذات، حيث تمكننا من التعرف على معلومات مهمة حول عبور الصحراء، والطرق التجارية التي كانت تسلكها القوافل وما طرأ عليها من تحول ترتبت عنه عواقب وخيمة بالنسبة للمغرب()...
لكن رغم الأهمية التي تحظى بها هذه المصادر بالنسبة لتاريخ العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان خلال الفترة موضوع دراستنا، فإن استغلالها يطرح إشكاليات معرفية ومنهجية، فما هي إذن هذه الإشكاليات؟

anfasse.orgرغم الإهتمام الكبير الذي حظي به مصطلح العولمة ، والكتابات الكثيرة حوله والمقاربات التي حاولت الإحاطة به ،إلا أن الغموض لازال يكتنفه ،مما يجعله جديرا بالمناقشة .
تاريخيا ليست العولمة سوي مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي ورغبته في السيطرة على العالم وإزاحة منافسيه ،وبالتالي   فرض قيمه وسلوكاته . فمنذ ظهور الرأسمالية التجارية بعد الإكتشافات الجغرافية الكبرى بدأت رغبة أوربا في السيطرة على العالم تتضح تدريجيا ،وإذا كانت هذه السيطرة قد إتخذت طابعا إقتصاديا في ظاهرها ، إلا أن تشجيع الكنيسة لها جعلها ذات طابع الديني وثقافي  وذلك من خلال نشر قيم   المسيحية ( كسلوك وتصورات ودين ) .إستمر مشروع السيطرة قائما يتمدد أحيانا وينكمش أحيانا أخرى ،وفي النصف الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت الإمبريالية كشكل من أشكال العولمة ، إعتمدت القوة العسكرية لتركيز الهيمنة الإقتتصادية وفي القرن الماضي كان على الرأسمالية أن تواجه أزماتها ومنافسيها ( أزماتها الإقتصادية والسياسية والمعسكر الإشتراكي ).
وقد تمكنت الرأسمالية من الصمود أمام هذه الأزمات والتخلص من منافسها و وضع حد لنظام القطبية الثنائية ،والعودة إلى نظام القطبية الواحدة  (العولمة ). إن منطق الرأسمالية يفرض – منذ وجوده – ضرورة وجود قيادة مركزية على الصعيد العالمي توجه حركيتها وتسعى إلى خلق بيئة إجتماعية وسياسية تسمح لها بالتطور وتجاوز الأزمات .
في هذه المقالة سنحاول التركيز على العولمة في جانبها الثقافي وتأثيرها على الهوية ،لأن هدف العولمة هو القضاء على الخصوصية بينما الهوية تبحث عن التمايز ،ونطرح سؤالا يبدو بسيطا :
هل تحترم العولمة الخصوصية الثقافية للأفراد والجماعات أم تسعى إلى عولمتها كما فعلت في عالم الإقتصاد والمال ؟

anfasse.org بعد المقالات الأربع السابقة حول التنمية الضائعة ( أين نحن من الحداثة )في مجالات الفكر ،السياسة والمجتمع ثم أخيرا الإقتصاد ،نخصص المقالة الخامسة والأخيرة للدين .
لقد بدأت أوربا في تحقيق حداثتها الدينية منذ عصر النهضة الذي شكل فيه الإصلاح الديني أحد أهم مظاهره إلى  جانب الحركة الإنسية والتطور الفني ،وبالتالي فتح المجال أمام العقل دون قيود وذلك بوضع حد لسيطرة الكنيسة ،بينما ظل الدين أداة إستخدمته القوى الحاكمة في العام الإسلامي للحفاظ على الوضع السائد وتبريره (خاصة بعد عهد الخلفاء الراشدين ) ومحاربة أي تحديث في البنيات التقليدية للمجتمع العربي بدعوى الخصوصية الدينية والهوية الإسلامية .
لقد كان تسلط الكنيسة كبيرا وإتخذ أشكالا ومستويات متعددة ،فقد كان تسلطا دينيا (فرض عقيدة الثأثليت ،ترويج صكوك الغفران ،الرهبانية ...)وكان تسلطا سياسيا (فرض الوصاية على الملوك والأمراء )وكان كذلك تسلطا ماديا ( فرض ضرائب ،أعمال السخرة ،إمتلاك عقارات ...).إلا أن التحولات الفكرية والإجتماعية والإقتصادية التي شهدتها أوربا مع بداية عصر النهضة كان لابد أن تؤدي تحول في المجال الديني .
فقد بدأت معالم الرغبة في الثورة على الكنيسة ووصايتها تنمو تدريجيا ،وتغديها مظاهر الفساد الأخلاقي والمادي لعدد كبير من رجال الدين .وحاولت الكنيسة بكل أساليبها وأدواتها قمع وإقبار هذه الرغبة في مهدها ،وإتهام دعاتها بالهرطقة ومحاكمتهم وإعدامهم لإثارتهم الفتنة . يقول مارتن لوثر:(   كيف تحملنا نحن الألمان هذه السرقة والنهب لأموالنا..وما هذا النظام البابوي ؟ إنه نظام شيطاني .. إنه يقود المسيحيين نحو الخراب الجسدي والنفسي ..فمن واجبنا مواجهته....ً

anfasse.orgتقديـــم إشكــالي:   
مرت الكتابة التاريخية بالمغرب من مراحل مختلفة، تميزت كل مرحلة منها بسمات وخصائص معينة سواء من حيث اختلاف المواضيع المعالجة، أو من حيث تعدد الاتجاهات والرؤى والمقاربات والأدوات المنهجية الموظفة.وقد عرف البحث التاريخي خلال العقود الأخيرة، ولاسيما خلال الفترة الممتدة من تاريخ حصول بلادنا على الاستقلال إلى الآن، تراكما مهما ،ورصيدا متنوعا لايستهان به شكلت فيه الدراسات الإفريقية إحدى الحقول المعرفية التي حظي فيها تاريخ المغرب الحديث باهتمام الباحثين سواء على المستوى الوطني أو الدولي ،لذلك ،وفي هذا السياق تأتي هذه المداخلة ، للإجابة على الإشكالية التالية :
ما مدى حضور تاريخ المغرب ضمن هذه الدراسات ؟ وما هي الخطابات التاريخية التي تتجاذب هذا التراكم المعرفي ؟ و ماهي الخصوصيات التي طبعت كل واحد منها ،والمواضيع التي عالجها كل خطاب وكذا الإشكاليات التي يطرحها على المستويين المعرفي والمنهجي ؟ وما هو تقويمنا لبعض النماذج من هذه الخطابات ؟.
أما الخلاصة، فسنقدم من خلالها بعض الاستنتاجات العامة التي توصلنا إليها، والآفاق المحتملة لحضور تاريخ المغرب في الدراسات الإفريقية.
    قبل الإجابة على هذه الإشكالية ،لابد من الإشارة إلى أن تقييم ما أنجز حول تاريخ المغرب الحديث من أعمال من طرف باحثين مهتمين أو متخصصين في مجال الدراسات الإفريقية أمر صعب وشائك ،لتعدد الرؤى والاتجاهات ،لذلك فإن هذه الورقة لا تروم القيام بتقييم وجرد شامل لهذا الإنتاج التاريخي المتمحور حول المغرب ،وإنما تسعى إلى القيام بقراءة أولية ،وتقديم بعض التوضيحات والملاحظات، وكذا الآفاق المحتملة لحضور تاريخ المغرب في الدراسات الإفريقية ،على أمل أن تتاح لنا الفرصة وكذا الوقت الكافي لتعميق البحث فيها لاحقا .
    كجواب على الإشكالية المطروحة ،ومن خلال اطلاعنا على ما أنجز وما جد في حقل الدراسات الإفريقية من أعمال و أبحاث ذات الصلة بتاريخ المغرب الحديث وعلاقته مع دول إفريقيا جنوب الصحراء،يمكن القول بأن هذا التراكم المعرفي المتوفر حاليا تتجاذبه ثلاثة خطابات تاريخية هي:

أنفاس نتمدخل:
شكلت الدراسات الدينية مجالا خاصا، تعززه الحاجة إلى تعميق المعرفة بالظاهرة الدينية في مستوياتها وأبعادها الاجتماعية والسياسية. فالأديان عامة تدعي بهذا القدر أو ذاك امتلاكها (كل دين على طريقته الخاصة توحيديا كان أو وضعيا) للحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل، كما تدعي الأحقية في صدق دعواتها. إلا أن الدراسة العلمية (بالمعنى البنيوي لا الاختزالي) لا تقبل هذا الافتراض الأولي الذي يخدم أهدافا إيديولوجية قدر ما يخدم أهدافا معرفية. ويظل هذا الافتراض ـ مع ذلك ـ افتراضا نسبيا قابلا لكل تأويل، فما لم يتم يكشف عن جوهر الأديان وحقيقتها التاريخية، فإن كل محاولة لادعاء الحقيقة النهائية والمطلقة تصبح باطلة وغير علمية بل ومتعارضة مع منطق التاريخ، فالتداخل بين الأديان وارد في تطور كل دين، ولا دين يستطيع الجزم على أن تطوره مستقل تمام الاستقلال عن الأديان الأخرى.
وحسبنا، أننا لا نروم في هذا العرض دراسة الظاهرة الدينية (أي كان نوعها)، دراسة علمية بمنهج دقيق وإنما غرضنا أولا هو محاولة حصر مجال من المجالات التي يبحثها علم الأديان وتاريخ الأديان، ويتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية لدى العرب قبل ظهور الإسلام، أي المعتقدات الدينية التي سادت في "جزيرة العرب". وإن كان الاهتمام بالتراث قد أغفل وهمش هذه المسألة بحيث لم تعطى لها الأهمية التي تستحقها، فإنه على الرغم من ذلك نجد بعض الدراسات هنا وهناك حول هذا الموضوع، وإننا لنسعى إلى الإحاطة بهذه الدراسات وتقديم أهم الأفكار التي خلصنا إليها من اطلاعنا عليها مع التركيز على عرض وجيز لأهم القضايا المتصلة بالموضوع.
كلمة العرب، والجاهلية: