1816930106_1إن الجاحد هو الذي ينكر غنى المجال الثقافي المغربي في تاريخنا العقلي والذهني والكتابي والشفاهي، وعلى جميع المستويات التعبيرية والتواصلية، وهذه تشمل العديد من الألوان والأشكال والأجناس والفنون... ولم يعد ممكنا الاستمرار في إهمال كل التنوع الثقافي المغربي بدعوى أن أصحاب نوع ثقافي ما هم أقلية أو هم قاصرون عن تكريس ثقافتهم ولغتهم على أرض الواقع بكل تجلياتها المختلفة، أو أنهم لم يجمعوا على نسق ثقافي ولغوي ولساني واحد يستطيعون من خلاله إقناع الآخرين بأطروحاتهم... فحقيقة التنوع الثقافي وترسيمه دستوريا وواقعيا هي عكس كل هذه الادعاءات الفارغة شكلا ومضمونا .
ولذلك ففي وقتنا الحاضر، وفي ظل هذه الفرصة التاريخية التي لا تعوض، لا يستطيع أي أحد أن يلجأ إلى الإقصاء والمنع والمصادرة لحقوق الآخرين الفردية والجماعية تحت مسميات وعناوين واهية لا تقنع أحدا. ومن هذه الزاوية يجب على القوى الثقافية والسياسية الحية البدء في وضع تصور معين يفيد في خلق تنوع ثقافي ولغوي مغربي بامتياز. فالثقافة تنبعث من عمل وإبداع أجيال عديدة ومن ضرورات حياتها وعلاقاتها المختلفة ومن أفراحها وأحزانها، وهي من صنع الجماهير التي تعيش لصق الواقع وتتفاعل مع الزمن والأقوام المحتلفة، وإنه لمن العبث ضرب كل هذا المجهود العظيم بعرض الحائط والادعاء أن ترسيم التنوع الثقافي واللغوي من الناحية الدستورية هو عمل عبثي. بل العبث هو الإقصاء والتسيد على الآخرين بمنطق لاداعم له في التاريخ والدين والتراث الثقافي العام .

3inayaدبّ بفعل الثورات العربية المحتدمة شيء من الوئام بين المسيحيين والمسلمين، فلم نشهد منذ عقود، وربما منذ عصر الاستعمار البغيض، تلك اللحمة الصادقة والعفوية بين دينين شاءت الأقدار أن يترافقا معا في السرّاء والضرّاء، داخل حضارة جامعة وأرض واحدة. فحين علا ترتيل أمّ الكتاب في ميدان التحرير في مصر وعقبه تردّد الصلاة الربّانية، كان الحدث بشيرا بميلاد تعايش إسلامي مسيحي حقيقي افتقدته الجماهير.
ذلك أن المسيحية العربية، منذ مصادَرة ثروتها الدينية وتحويلها إلى وقف سلطاني غدت ديكورا لحاكم يحرص على عرضها رياء في المحافل والتجمّعات، بصولجاناتها وصلبانها، ويتغاضى عن قضاياها الأساسية، من نقص للحرية وغياب للديمقراطية. لقد كشف انحياز الجموع المسيحية إلى الثورات العربية، أن السلطات مهما انحرفت بمؤسّسات الدين عن دورها، وسلبتها حرّيتها وشوّهتها، على غرار ما فعلته مع المؤسسات الإسلامية، تارة بطلب الفتوى وأخرى بتلمّس شهادة زور منها، فإن الجموع المؤمنة مدركة لموقعها ورسالتها. حتى غدت المسيحية الرسمية كالإسلام الرسمي أداةً طيعةً بيد النظام يقلّبها حيث شاء وهي تطاوع. ولكن اليوم بات الإقرار، بالتساوي بين المسيحي والمسلم، بفساد تلك الأنظمة الحاكمة، وإن ادعت حماية الأوطان وزعمت الذود عن ذلك الجناح المهيض من الإرث الديني.

marrakech-tamazightشكلت القضية الثقافية واللغوية إحدى القضايا الكبرى في التاريخ المغربي المعاصر ذلك أن النقاش حولها كان دائما محتدما  بين اغلب الفاعلين السياسيين وعلى رأسهم  الفاعل الحزبي، وقد وظفت اللغة بمعناها الإيديولوجي كإحدى القنوات المستعملة لتكريس النخبوية  من جهة واستمالة الجماهير من جهة أخرى وهكذا وان اختلفت المنطلقات والمرجعيات الإيديولوجية فان التعامل مع مفاهيم اللغة الوطنية، واللغة القومية، والخصوصية المغربية لم يختلف كثيرا في أدبيات  الأحزاب المغربية.
وإذا كان الطرح المحافظ ينطلق من إعطاء الأولوية للغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية,واللغة الوطنية أو لغة القرآن والدين الإسلامي، فان الطرح العلماني غالبا ما ينطلق من الالتزامات القومية التي اصطبغت بمفاهيم، التقدمية، والوحدة العربية.
وهكذا فإذا كان الاتجاه المحافظ أو الأغلبية العظمى منه لم يتناول قضية التعددية اللغوية بالمغرب إلا مع التحولات التي أفرزتها المستجدات السياسية المرتبطة بموجة حقوق الإنسان الشيء الذي دفع بهذا الاتجاه إلى التخفيف من حدة الخطاب السياسي حول هذه القضية مع القبول الضمني بالتعددية اللغوية ولكن كأداة من أدوات الحفاظ على الأفكار والإيديولوجية المحافظة.

eglise_ste_thereseليس من الحقّ في شيء ربط زخم الثورات العربية المتصاعدة اليوم، من حيث آثارها وتداعياتها، بالفتنة الطائفية، أو بأنها مدخل من مداخل محنة تتربّص بالمسيحيين العرب. فما قامت هذه الثورات، في جانب منها، إلا طمعا في استعادة روح كائن مقهور سليبة. فالمسيحي العربي مستلهِما سيرة مخلّصه، يأبى أن يكون خارج هذا الثوران الاجتماعي، ويتعذّر أن يبرأ بنفسه ليغدو نائيا فوق الربوة، وهو الذي ذاق من كأس التعفن البنيوي لواقعنا مرارا، هذا الواقع الذي لم يبق أمل في إصلاحه إلا بالتحريض عليه.
فقد يستعجل البعض وعودَ الثورة، مع أنهم لم يستعجلوا مع من سرقوا منّا العمر والثروة، فالشعوب الثائرة تخلّق مفاهيم ثورتها وإنجازات مسارها تخليقا، مع فجر كل يوم جديد. فلا ينبغي أن نحمّل الثورة تعدّيات حصلت أثناء المسار، كان ضحيتها إخوة مسيحيين. ذلك أن هدف الثورة المجيدة، الذي نراه قريبا ويرونه بعيدا، أن يُبنى وطن رحب، لا يضيق بأبنائه.
كنت قد قرأت مقالا صدر في جريدة "النهار" اللبنانية بتاريخ 13 أيار 2011 للأب جورج مسّوح بعنوان: "الثورة والفتنة الطائفية"، وقد حزّ في نفسي استعجاله جني حصاد الثورة، فصبرٌ جميلٌ، فالثورة إن لم يصنعها أناس ولم يترجمها أناس، لن تتنزّل سلاما ومسرّة من السماوات العلى.
وقد يخشى البعضُ الثورةَ، فرَوْعها في وجدانهم كهَوْل القيامة، والحقيقة أن الثورة لا تستجدي أحدا للثوران، ومن لم ينضج حلمه فليهْنأ بعيشه. ولكن أن يسعى من أُعطِي صولجان البطركة والمطرنة بين الناس بالتخويف والتثبيط، منذرا من تداعيات الثورة على المسيحي، وساعيا في حشد إخوة الدين ضدها، داخلا وخارجا، فهو حكم على الجنين وهو في طور التخلّق.

vatican-cityهل كانت نظرة ستالين قاصرة، يوم تساءل هازئا من عدد الوحدات العسكرية التي بحوزة البابا؟ إذ ذهب الاتحاد السوفييتي وبقي الفاتيكان. الظاهر أن ستالين كان كلفاً بالقوة الجارحة وغافلاً عن القوة الناعمة التي تملكها الكنيسة الكاثوليكية، وربما كانت الأيام كفيلة بالإجابة عن سؤاله.
بين يديّ هذه الأيام ثلاثة كتب، الأول بعنوان: يوحنا بولس الثاني من منشورات دار غاليمار الفرنسية، وقد أعادت نشره بالإيطالية مكتبة لاريبوبليكا سنة 2005، وهو من تأليف الخبير بالشأن الفاتيكاني الفرنسي برنار لوكونت؛ والثاني وهو بعنوان: سيرة يوحنا بولس الثاني، وقد صدر بمناسبة تطويب البابا الراحل، عن مكتبة سان باولو بروما، وهو من تأليف مؤرّخ الكنيسة البارز في الزمن الحاضر، الإيطالي أندريا ريكاردي. أما الكتاب الثالث فهو: التقرير الإحصائي للكنيسة للعام 2011 الصادر عن مكتبة الفاتيكان، الذي قدّمه الكردينال تارشيسيو برتوني، كاتب الدولة، للبابا بندكتوس السادس عشر. تولى السهر على الإحصاء المونسنيور فيتوريو فورمونتي والأستاذ أنريكو نينّا، وهو إحصاء يستعرض نسب نمو الكنيسة وتراجعها، وهو ما سنحاول التطرق إلى بعض ملخّصاته.

tuni-anfasseشهدت الكتابة في المسائل الدينية لدى الباحثين والكتّاب التونسيين، خلال العقدين الأخيرين، تنوّعات لافتة، وأبرز ما ميّز مساراتها خروجها عن النمطية الواحدة إلى تنوّع منهجي وثراء موضوعاتي. فقد فرض واقع التضييق على النخبة المنشغلة بالقضايا الدينية ضروب اشتغال فكري، أملتها مواقع تواجدها. والملاحظ أن الفكر الديني التونسي خلال العقدين المنصرمين قد ضاقت به أرض تونس بما رحبت، فكان جلّ أبحاثه ودراساته ومقالاته منشورا في الخارج، أكان الكاتب متواجدا في تونس أم خارجها.
لكنّ البارز في خضمّ ذلك السّيل من الكتابة المستنفَرة هو المنزع الأكاديمي الذي اجترحته كليات العلوم الإنسانية والآداب في معالجة المواضيع الدينية، بما جنحت نحوه إلى بناء خطاب تفكيكي تحليلي للموروث الديني، لطالما عدّه الزواتنة وقْفاً خاصا بهم. إذ بقي الطرح الزيتوني يراوح في معالجاته الكلاسيكية وبأدواته التقليدية، ولم يشهد طفرة سوى مع نزر قليل من الأبحاث التي قاربت الآخر الديني. كان ذلك مع محسن إسماعيل الأستاذ في جامعة باريس الثالثة، الذي هجر الزيتونة بعد أن أتم رسالته "الله والإنسان في منظور لاهوت التحرّر"، وأيضا مع عدنان المقراني الذي استقرّ به المقام في الجامعة الغريغورية في روما بعد أن ناقش رسالته "نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسي" (نشرت لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، وكذلك مع كاتب المقال الذي غادر الزيتونة واستوطن روما بعد مناقشة رسالته "الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري" (نشرت في دار الجمل بألمانيا)، وكذلك مع الغامبي المتوْنس حسن سعيد جالو الذي حطّ به الرحال في مدينة مساكن، بعد مناقشة رسالته "أثر الإسلام في اللغات الإفريقية: الولوف والفلانية أنموذجا".

anfasseعلى إثر ما دبّ من تحوّلات في تونس، بدأ حوار اجتماعي واعد يطلّ عبر خطاب سياسي وإعلامي، يتلمّس رسم معالم علاقات جديدة بين مجالات الدين والدولة والدنيا. فقد سادت ممارسات وأساليب، كانت الغلبة والكلمة الفصْل فيها لبأْس الدولة. لكن الطابع الجلي، في التعامل المستجدّ، يشي بخفوت نبرة التسلّط، إن لم نقل انعدامها، وعلوّ منطق التحاور والتروّي، وهو دأْب لم تعهده تونس. فلا غرو أن البلدان العربية تعيش وعيا متردّيا مع الدين، وهي تدور منذ عقود في دوّامة ما سمي بالأصولية وتبعاتها الأمنية والسياسية بدون مخرج.
وفي الراهن الحالي، وإن يكن المجتمع التونسي لا يزال يعيش برمّته حالة ثوران اجتماعي، فإن الفترة تتّسم بشكل عام بإقرار السواد الأعظم أن تونس دولة مسلمة، أكان الفهم لذلك بشكل عقائدي، أو ثقافي، أو تاريخي. لكن ضمن ذلك الوفاق، يبرز توجّهان: شقّ يشايع بناء دولة ذات طابع عربي إسلامي جليّ الملامح في دستورها، مقصده ليس التعنّت ضدّ الشق المقابل، بل تقويم ما لحِق بتونس من طمس لهويّتها، طوال العهدين السابقين؛ وهناك من الجهة الأخرى شقّ يرفع شعار الدولة اللائكية أو العلمانية، ضمانة ضد أي انزلاقات قد تنجرف إليها البلاد، وليس نكرانا لهوية البلد التاريخية، وقد تختلف درجات هذه الطروحات ومفاهيمها من امرئ إلى آخر.

tunisie-religionعرف الوعي الديني التونسي تصدّعا واضطرابا خطيرين، جراء ما ألمّ به إبّان عهد بن علي وما خلّفه أيضا عهد سلفه الحبيب بورقيبة. إذ فُرضت حالةٌ عُصابيةٌ على أذهان الناس طيلة عقود، اشتدّت حدّتها حتى أفرزت شرائح دينية انتهازية وفكرا دينيا خاملا. وبالقدر الذي تجلّى عبره الاضطراب في مُدّعي الحداثة والعقلانية، ممن جلبتهم المغانم، تجلّى أيضا في فقهاء السلطان، ممن أغراهم التهافت على بقايا مؤسّسات دينية متداعية، حتى تحوّل الفكر الديني إلى ضرب من التزلّف الموبوء.
فقد سيَّست السلطة، في عهد بن علي، حقلَ الفكر الديني بجميع مقارباته، التاريخية والشرعية والاجتماعية، إلى أن بات أي اشتغال فكري أو علمي بالدين -ما لم يعلن صاحبه ولاءه التام لصَنميّة الزعامة، ومقاومة "الخوانجية"- مغضوبا عليه وفي عداد التّهمة والشبهة. وقد دأبت السلطة على استقطاب الكتّاب والشعراء والفنّانين والمثقّفين العائمين، الذي لا هُم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس لتكريمهم بل لجرّهم معها إلى المستنقع الآسن، حتى تكتسب بهم مسحة مشروعية. أفرز ذلك الاستقطاب مفكّرين في الإسلاميات وشيوخا في الشرعيات، ما كان ليغْدو لهم ذكر أو ليعْلو لهم كعب لولا الحصار على الفكر الديني الخارجي والترصّد بالمنتوج الداخلي.